لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهما دلالة
وفي هذه الخاصية تكمن عبقرية هيجل في كلامه على ادلة وجود الله. فما أضافه ليس علاقتها بالمستدل عليه بل علاقتها بالمستدل. فالمستدل عليه هو الله. والمستدل هو الإنسان. والسؤال هو ما الذي يجعل الإنسان لا يكتفي بالوجود الطبيعي ويبحث عن وجود ما بعد طبيعي يعلله به؟
ما الذي يشعر الإنسان بأمرين عجيبين:
أن العالم الطبيعي لا يكتفي بنفسه بل يشعر الإنسان بأنه ممكن وليس ضروريا أي إنه يعجب من كونه ومن كونه على ماهو عليه.
وأن وراء العالم الطبيعي وجود مكتف بنفسه غني عما يعلل وجوده لأنه واجب الوجود وليس ممكنه فحسب.
وطبعا فلا يمكن لله أن يكون واجب الوجود إذا لم يكن ممكنه لذلك اعتبر كنط واجب الوجود هو ما يوجد لمجرد إمكانه. ومن ثم فالإمكان معنيان:
الممكن مقابل الممتنع وحينها يكون الواجب ممكنا أو غير ممتنع.
والإمكان الغير الواجب هو المشروط بما يعلل انتقاله من إمكان العدم عليه إلى الحصول الوجودي
بعبارة أوجز: ما الذي يجعل الإنسان قادرا على التوجيه الوجودي (الجهات بالمعنى المنطقيModalities )أين يقوم الإنسان عندما يوجه الوجود إلى ممكن وواجب وممتنع؟ هذه القدرة هي التي تعني هيجل: وهي قدرة لا يمكن تخيل وجودها من دون الحرية التي تمكن من الاقلاع والتعالي على مجرى الضرورة.
وإذن فأدلة وجود الله قد لا تكفي للدلالة العلمية على وجوده لأن الدلالة العلمية تفترض التحقق من الوجود بعد افتراضه النظري في الاستدلال. وهذا مستحيل في الكلام على الغيب وذات الله ووجوده وصفاته كلها من مسائل الغيب المحجوب وهي إيمانية وليست علمية. لكنها تكفي دليلا لقدرة التوجيه: الحرية.
وقدرة التوجيه أو الحرية عند الإنسان أمر قابل للتحقق منه إذ هي من عالم الشهادة وليست من عالم الغيب. كلنا يوجه فيحكم لأمر بإمكانه أو امتناعه أو وجوبه ويستطيع التحقق من الجهات في عالم الشهادة إذ ينتقل من الفرض العلمي في النظرية إلى التحقق العلمي في التجربة. وكل إنسان له هذه القدرة.
فتكون أدلة وجود الله أدلة على حرية الإنسان وحاجة الإنسان الحر إلى علاقة برب حر يخلق كائنات حرة لتكون له بها صلة هي علاقة حريتين متحاورتين مباشرة بالرسالة وبصورة غير مباشرة بما في الطبيعة والتاريخ من آيات مبينة لدلالة هذه العلاقة بقوانين الطبيعة وسنن التاريخ.
فعندما ينفذ الإنسان إلى أسرار الطبيعة فيتجاوز “فوضاها” الظاهرة إلى نظامها الباطن (القوانين) وإلى أسرار التاريخ فتجاوز “فوضاه” الظاهرة إلى نظامه الباطن (السنن) يكون الإنسان قد تجاوزهما إلى ما بعدهما من حرية مبدعة لهما تتجلي في العلاقة بين المستخلف والخليفة قرآنيا.
وذلك هو مجال التكليف: فلما أجاب الله بأن آدم يملك ما لا يعمله الملائكة عندما نفوا أهليته للاستخلاف في المشهد المشهور وعين ذلك في ما علمه من أسماء حدد شرط تعاليه على الأشياء إلى رموزها التي تمثلها الأسماء. والرموز او عالم الأسماء أوسع من عالم المسميات لأنها من بالإمكان المطلق.
وإذن فالإنسان يوجه بفضل مقامه في عالمه الرمزي المؤلف من الأسماء والنظر منه إلى عالمه الفعلي المؤلف من الأشياء فيرى من هذه ما هو حاصل ليس بوصفه ضروري الوجود بل ممكنه لأن “قيم” المفهوم هي كل عناصر الماصدق والاسم مفهوم كلي وليس علما فيكون كل عنصر من ماصدقه قيمة ممكنة له.
فاسم الإنسان مفهوم أو اسم عام يصدق على كل فرد إنساني وكل واحد منهم “قيمة” معينة ممكنة لمتغير متعدد القيم وكل منها يقبل أن يملأ المتغير بوصفه خانة خالية مجوعة اعيان ماصدقها قيم ممكنة لها. وتلك هي بداية التحرر من التعين الذي يصبح أحد جهات الوجود وهو الممكن الحاصل.
القدرة على التسمية العامة قدرة على التجريد وهو أصل التوجيه وما كان ليكون ممكنا لو لم يكن الإنسان قادرا على التعالي على المحايثة في سيلان الوجود الأبدي وكأنه يقف على قمة جبل ليرى سيلانه دون أن يجرفه ويقيمه وجوديا بجهات الإمكان والوجوب والامتناع أمورا واقعة يدركها.
لكن هذا العالم الرمزي الذي يحرر الإنسان من سيلان عالم الاشياء لا يصبح علما لهذا العالم بالاقتصار على الأسماء بل لا بد من الانتقال منها إلى عالم المسميات أو دلالات الاسماء كما تتعين خارج عالم الأسماء. لذلك اعتبر القرآن تبين دلالاته يقع في ما يرينه من آيات خارج نصه: عالم الأشياء.
والشيء مصدر شاء أو مفعول المشيئة. وهو إذن دليل على فاعلية الخلق المناسب للمخلوق المخاطب. وهو هنا تذكير للمخاطب بما يترتب على مخلوقيته المشفوعة بالأمر. فالتذكير والتحذير في الرسالة بهذا المعنى تذكير بما فطر الإنسان عليه خليفة مكلفا بالعلم والعمل على علم للقيام بما كلف به بقيمه.
وخلقة الإنسان وأمره منصوص عليهما في آيات القران الواردة في نصه لكن القرآن يقول إن حقيقة هذه الخلقة وأمرها كلاهما مثل كل شيء غيرهما وردافي الخطاب لا يتبينهما الإنسان من آيات الخطاب ذاتها بل من تجليهما في الآفاق والأنفس ومن ثم فالأنثروبولوجيا هي الملجأ الوحيد لعلم قوانينهما وسننهما.
وقد حاولت في الجلي في التفسير أن اعتبر القرآن من الظاهرات الخارجية مثله مثل الطبيعة والتاريخ حتى وإن كان نصا أي نظاما رمزيا معينا وأن انطلق مما يغلب على ظاهره من فوضى قل نظيرها بسب ما يبدو تكرارا لفنس القصص ولنفس المفهومات ولنفس الإشارات العينية لأحداث بعضها تاريخي وبعضها أمثال.
فهو حينها عنصر من عناصر الآفاق والانفس ليس المطلوب استخراج علوم منه بل البحث فيه موضوع علم ككل الظاهرات القائمة خارج ذهني لعلي أنفذ إلى نظامه او ما يجعله ما هو بوصفه نصا تاما له بداية ونهاية وتسلسل غير متفق عليه وليس ذلك ضروريا لبحثي.
وما دمت قد اعتبرته أحد عناصر الآفاق والانفس فدراسته العلمية ينبغي أن تكون فرضية استنتاجية مثلها مثل أي معرفة للظاهرات الموجودة والقائمة بذاتها أي التي ليست من صنعي بل هي موضوع تام الاستقلال عني وعلي أن أتعامل معه بصورة قابلة للإثبات والدحض أو للتصديق والتكذيب (علمي به لا هو).
فإذا كذب علمي بشيء فإن ذلك لا يؤثر على الشيء بل على علمي به. ولذلك فهو علم فرضي مؤقت دائما إلى أن يتم دحضه بما يكون أقرب إلى حقيقته من علمي به. وقد لا نصل إلى غاية هذا التقدم نحو حقيقته تماما كما هو الشأن في علم أي موضوع خارجي. تكذيب ما تقدم من “علوم” قرآنية لا يمس القرآن في شيء.
لكن القرآن ليس أي شيء ولا أقصد بذلك قدسيته. فهذه ليست موضوع البحث موضوعه هو ما الذي يميزه عن الموضوعات الاخرى رغم كونه موضوعا للبحث مثلها لمعرفة طبيعته وليس لاستخراج علوم منه. ولنبدأ بالمميزات السلبية: فهو ليس ظاهرة طبيعية وليس ظاهرة تاريخية حتى وإن كانت مادته وصورته منهما.
فمادته طبيعية لأنه جملة من المفردات التي لها وجود صوتي وكتابي ينتسبان إلى لغة معينة وكل ذلك مادة معينة لها دلالات معنية في جماعة معينة. وشكله تاريخي لأن صيغ في عصر معين في جماعة معينة واستعمل استعمالا معينا في هذه الجماعة. وهو لا يقدم نفسه منتج الجماعة بل كخطاب منزل للبشرية كلها.
وهو يعرف نفسه بكونه رسالة تذكير وتحذير شواهد تذكيرها وتحذيرها كلها مستمدة من تاريخ البشرية في علاقتها بالطبيعة والتاريخ وخاصة بعلاقتهما في صلة بالرسالات السابقة باعتبارها نماذج من عمل الإنسان المناسب وغير المناسب لما يقتضيه ما فطر عليه و كلف به لتحقيقه كعقد بينه وبين مستخلفه.
وبهذا المعنى فهو ليس مقصورا على التذكير بمقومات الإنسان ومهمته والتحذير من الإخلال بهما وهذا هو المستوى الأول منه بل هو كذلك خطة لتفادي ما حدث في المستقبل معتبرا ذلك رسالة أخيرة موجهة إلى الإنسانية كلها التي عليها بعد هذا التذكير والتحذير النهائيين ألا تنتظر رسالة أخرى بعدها.
وهذا المعنى هو الذي سميته استراتيجية توحيد للإنسانية ذات دستورين للمعرفة والحكم مع وتذكير بوحدتها العضوية والنفسية. فيكون النسيان متعلقا بعدم التطابق بين حقيقتها العضوية والنفسية وحقيقتها الروحية والخلقية: وهذه الاستراتيجية سياسية تربية وحكم أساسها الحريتان الروحية والسياسية.
ومن هذا التعريف كفرضية عمل في التفسير الفلسفي للقرآن امكنني استنتاج مفهوم الزمان القرآني في رسالته إلى الإنسانية: فالزمان المطلق حاضر من الأزل وإلى الابد أي إنه سرمدي. لكنه مؤلف من أربع فروع لذا الزمان الحاضر أصلها. فقبله حدث وحديث أو ماض مضاعف. وبعده حديث وحدث أي مستقبل مضاعف.
وأربعتها يحيط بها الحاضر السرمدي الذي منه على أساسه تعبر الرسالة على مضمون الخطاب الموجه إلى الإنسانية: فهي تحكي أحداثا ماضية تقييما بحديث تقييما ونقدا وهي تستهدف أحداثا مقبلة اعدادا بحديث لأحداثها في التاريخ الفعلي والماضي ببعديه لبيان التقصير خاصة والمستقبل ببعديه للتدارك الممكن.