لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهما دلالة
ما الذي تتضمنه الرسالة ويجعلها فعلا لا تفرط في شيء مما تتعلق به؟
الأولى هي خاصيات التراسل والثانية هي حقيقة المهمة التي حددتها الرسالة للإنسان وتذكره بالتعاقد الذي بمقتضاه التزم بالخضوع لاختبار الاهلية في مجالي تعمير الارض بقيم الاستخلاف وممارسة حريتيه الروحية (لا وساطة) والسياسية (لا وصاية) وتجنب ترديهما كما يحصل دائما بالانقلابين.
فأما خاصيات التراسل فقد بينا ان القرآن نفسه يحددها بكونها رسالة تذكير بما هو مرسوم في ما فطر عليه الإنسان وتحذير من عواقب النكوث وعدم احترام بنود عقد الاستخلاف. والاستخلاف لا يجعل الحياة الدنيا عقابا بل هي مجال ممارسة الإنسان لحرياته وأثبات جدارته بالاستخلاف بعد أن تاب آدم واجتبى.
والمعلوم أن مشهد الاستخلاف سابق على عصيان آدم وحواء وهو ليس خطيئة موروثة بالمعنى المسيحي الذي يصلها بالجنس (سخافة لأن خلق الزوجين يستثنيها لان اعتبار العلاقة الجنسية آثمة مناف لخلقهما) بل لعلها رمز لشجرة مخدرة إذ وعد الشيطان فيه دال على مفعول جنون العظمة (الخلود).
طبعا المشهد كله رمزي وليس أحداثا فعلية لأن الله لا يستشير أحدا ولا يحتاج لرأي أحد في خلق ما يريد إن آمنا بوجود خالق مطلق الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. ولا أريد الخوض في الغيب. فما يعنيني هو ما جعل فهم هذه الرموز مؤثرا في رؤى المسلمين للعالم ودور الانقلابين في تاريخهم.
وهذا مقصور على تحديد الغايات التي يبقى علاجها معلقا بالأدوات والأساليب وهي مجال الاجتهاد والجهاد أو مجال الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر بين الأحرار روحيا وسياسيا أعني الواعين بكونهم مكلفين وفي وضع اختبار لأهليتهم لهذا التكليف: تذكير وتحذير بخصوص التكليف.
لكن الاهم من ذلك هو حقيقة المهمة التي رسمت في ما فطر عليه الإنسان وتعاقد عليه ليكون خليفة ورمزه قبول الأمانة التي رفضتها المخلوقات الاخرى. فهذه المهمة اختيار حر لآدم وهو رمز دال على ان جوهر المهمة التي كلف بها آدم هو الحرية الروحية في النظر والعقد والحرية السياسية في العمل والشرع.
ومثلما أسلفت فهذا الوصف للمهمة صريح في القرآن وهو سبابة إشارة لما لا يعلم سر تعيانته بفحص آي القرآن في النص بل بعلم تجلياتها في الآفاق والانفس تحقيقا بشروط الاستخلاف أو بعدم شروطها وهما نوعا تعين الوجود الإنساني فعلا وانفعالا في تاريخ الإنسانية: إشارة القرآن لفلسفة التاريخ الفعلي.
وهنا لا بد من التذكير بقول شديد العمق لابن خلدون: “قل أن يخالف الأمر الشرعي الأمر الوجودي” فزاد عليه صاحب بدائع السلك “بل لا يخالفه أبدا”. وهما يقصدان أن علم الأمر الشرعي لا يعلم بشرح النصوص بل برؤية آيات الله في الآفاق والأنفس أي في الوجود: سر اكتشاف ابن خلدون دور القوة في السياسة.
وطبعا فالأمر لا يتعلق بالقوة العمياء بل بما يسميه ابن خلدون بالوازع الأجنبي الذي يتدارك ما لا يكفي فيه الوازع الذاتي مع تقديم لهذا على ذاك عندما لا يقع الانقلاب على الدستور السياسي. وكذلك في النظر والعقد: فقل أن يكون ما يشير إليه القرآن من سنن مخالفا لقوانين للطبيعة والتاريخ.
والجمع المصيب بين الطبيعي والتاريخي أو بين الطبائع والشرائع يتحقق بفضل علمهما أو رؤية آيات الله فيهما بوصفهما آفقا وأنفسا نتبين فيهما حقيقة القرآن أو بصورة أدق إشاراته إلى ما علينا علمه لنعمل على علم فيكون الجهاد العملي مبنيا على الاجتهاد النظري للتعمير والاستخلاف بالحريتين.
لا أشك لحظة واحدة أن سؤالا بديهيا يرتسم على شفاه الكثير من القراء: ماذا أبقيت من الديني في الإسلام؟
أليس هذا موقف قريبا جدا من رؤية تلغي دور المرجعية الدينية في النظر (العلم والعقد) وفي العمل (السياسة والشرع)؟
كيف تعتبر من انطلق من المرجعية ليستخرج منها العلوم منقلبا على القرآن؟
أفهم التساؤل لكن الجواب لم أفرضه أنا بل هو صريح في القرآن: حقيقة القرآن تتبين مما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس وليس من آيات النص القرآني بمعنى ما فيه من إشارات هي ما اصطلحت عليه بالسبابة المشيرة إلى مشار إليه في الوجود الذي يختبر الإنسان في تعامله معه نظريا وعمليا.
بل القرآن نفسه لا يحتج إلى بذلك. صحيح ان المعاجزة كانت بالقرآن لكنها لم تكن معجزة بمعنى ما يقابل نظام العالم وقوانينه ونظام التاريخ وسننه بل إن كل حجج القرآن مستمدة منهما بدلالة ما فيهما من نظام ليس ما فيهما من خرق للنظام. ومن ينفي هذه الحقيقة لا بد وأنه قرأ القرآن في غيبوبة.
وحذاري من الظن أن هذا معناه قيس ما في القرآن من غيب على الشاهد. فكلامنا يفيد العكس تماما: الشاهد يقاس على الغيب أو على المثال الأعلى الذي يذكره القرآن ولكنه على سبيل التمثيل أو ضرب الامثال دون أن يعين دلالته -وهو معنى التأويل-لأن ذلك مرجأ إلى يوم الدين يوم يصبح البصر حديدا.
سيعجب القراء: نفهم أن يقاس الغائب على الشاهد.
لكن كيف يمكن أن نقيس المعلوم على المجهول؟
كيف نقيس الشاهد على الغائب فضلا عن قيسه عن الغيب؟
خذ مثالا علوم الطبيعة: لو لم يقس العلماء شاهد الطبيعة على غائبها الذي يوضع فرضا يهدي البحث لاستحال اكتشاف أي سر من أسرار الطبيعة.
وطبعا الغيب مجهول بإطلاق. ومع ذلك فالمعلوم منه أنه رمز الكمال والجمال والجلال والمتعال في كل ما نريد معرفته من العالمين الطبيعي والتاريخي. لأن ما نقيس عليه ليس حقيقة الغيب بل ما تمثله من قيم يشرئب إليها الوجدان الإنساني في تصوره لخلق الله(العلوم النظرية)وأمره (العلوم العلمية).
فأغلب المبدعين في العلوم والفنون هم من يشرئب إلى هذه المثل العليا ويفترض أن خلق الله (الطبيعة والعقيدة) وأمره (التاريخ والشريعة) لا يمكن ألا يكون لهما نظام بديع (بديع السماوات) وأن تخيل ما يقرب من هذا النظام البديع هو جوهر العلوم النظرية والعملية في كل فلسفات الطبيعة والتاريخ.
وهذه المثل العليا في تصوراتنا هي التي تبدع “المقدرات الذهنية” بلغة ابن تيمية وهي التي تعطينا معايير المطلوب في درس الطبيعة والتاريخ لوضع قوانين الاولى الرياضية مع التجريبية وسننن الثاني السياسية مع التجربة والقرآن دلنا على “رأس الخيط”: الخلق بمقدار والامر بسنن كلاهما ثابت.
لكن الانقلابين افقدا علماءنا البصيرة ولم يبق لهم إلا البصر فصاروا يعتبرون واقعا ظواهر الطبيعة وعوارض التاريخ ولم يذهبوا إلى ما طلب القرآن الذهاب اليه: آيات الله في الآفاق والأنفس رياضية تجريبية في الطبائع وسياسية تجريبية في الشرائع وكلاهم مجل بحث علمي عويص لا يعمل بشرح الالفاظ.
من اليوم فصاعدا ينبغي الا نسمي علماء شراح الألفاظ وحفاظ المدونات. فهذه المهمة الثانية أغنت عنها التكنولوجيا ووجودها ضروري لأن العلم بحصيلة العلم وإن لم يكن علم دراية فهو علم رواية والزاد المحفوظ ضروري في كل معرفة لكنه غير كاف: العلم بصيرة وإبداع وليس ذاكرة واتباع.
ومثلما أن دستور المعرفة والتربية أساسه حب الحق النظري فإن دستور العمل والحكم أساسه حب الحق العملي: والاول مستحيل بدون حرية روحية والثاني مستحيل بدون حرية سياسية. لذلك كان التكليف الديني في الإسلام مبينا عليهما أصلين وغايتين وعلى التربية والحكم في الدستورين التربوي والحكمي.
ذلك ما اردت بيانه حتى نحرر القرآن الكريم من استعمالاته الدنية: فصار أساس للدجالين في الطب والسحر والتنجيم والتخريف السياسي والعلمي حتى ابتذل وأصبح شبه كتاب حكم شعبية وليس أسمى كتاب عرقته البشرية لأنه فعلا تواصل دائم بين الإنسان الحر روحيا وسياسيا وبين الله الذي لا يعبد سواه.
وهذا الفهم إذا تحقق في وجدان الشباب بجنسيه سأكون سعيدا وسأموت راضيا عن نفسي لأن أوان الاستئناف قد حان ولا يمكن الاستئناف الفعلي والمبدع لشروط الحماية والرعاية مقومي السيادة لأمة العز والكرامة أمة محمد الذي علم “على مكث” بالحق منهجا والحق ومضمونا بما نزل عليه لينزله على التاريخ.