لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهما دلالة
والمطابقتان هما مطابقة الوجود ومطابقة علم الله. وقد اخترت علاج هذه القضية بمناسبة بداية الثورة على الانقلاب الدستوري في الحكم والعمل وهي ثورة لا تتم إلا بالثورة على الانقلاب الدستوري في التربية والمعرفة. فهذا الانقلاب الثاني مثل الاول اصاب الأمة بشلل الابداعين النظري والعملي.
والضمير الاول يعني أن الكتاب الذي يذكر الإنسان وينذره ويعلمه بما يحتويه حول الأشياء التي يرينها الله آيات في الآفاق والأنفس ويطلب منها النظر فيها والعمل بما نكتشفه من قوانين الطبيعة (الآفاق) وسنن التاريخ حتى نتبين ما يريد الكتاب كرسالة تذكيرنا باعتباره وتنبيهنا لعواقب تجاهله.
وإذن فالعبارة تعني “ما فرطنا في الكتاب (كرسالة تذكير وتحذير) من شيء علينا تذكير المكلف بما يجب علمه وتحذيره مما يجب تجنبه حتى يحقق ما كلف به أي الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف امتحانا لأهليته لهذه المهمة التي تحملها وخشيت الجبال من تحملها: الخلافة في الارض بشرع الله.
وهذا ينفي الفهمين العقيمين اللذين اعتمدا على نظرية المعرفة المطابقة والظن بأن العلوم والاعمال كلها موجودة في نص القرآن: نص القرآن رسالة تذكر بما ينبغي على الإنسان عمله حتى يحقق ما به تعرف الإنسانية من تكليف ومسؤولية شرطهما الحرية الروحية (لا وساطة) والحرية السياسية (لا وصاية).
صحيح أن القرآن كرسالة تذكير وتحذير ذكر لنا طبيعة الآيات التي علينا البحث عنها في الطبيعة وفي التاريخ فحدد طبيعة قوانين الطبيعة (رياضية تجريبية: كل شيء خلقناه بقدر) وطبيعة سنن ا لتاريخ (سنة الله التي لن تجد لها تبديلا ولا تحويلا) ولم يعين القوانين والسنن بل طلبنا بالبحث عنها فيهما.
لذلك فكل تخريف يطلبها من شرح ألفاظ القرآن خزعبلات صبيانية تؤدي إلى مناكفات تأويلية يتوهم أصحابها أن معجم العربية كنز كل العلوم الذي لا يفنى بحسب أهواء الدجالين من المؤولين لألفاظ القرآن كخرافة دحاها بمعنى بسطها ثم كورها ثم إلخ… من تخريف الأعجاز العلمي.
القرآن الكريم سبابة مشيرة وليست المشار إليه. علماؤنا لم يروا إلا السبابة وغفلوا عن المشار إليه بها: والسبابة تذكر وتنذر لكنها لا تفعل بدلا من الإنسان المكلف ما تذكره به وتنذره منه. والغفلة عن هذا هو سر الانقلاب الذي حصل في التربية والمعرفة: الحصيلة الجهل بالعلاقتين شرط القيام.
فعلم العلاقة العمودية بين الجماعة الطبيعة والعمل به هو شرط سد الحاجات الرعائية والحمائية. والجهل بها وعدم العمل بها هو علة العجز في الرعاية والحماية. ومن فقد هذين الأمرين أصبح عالة على غيره لتوهمه أن الكلام عمل والتخريف في شرح النصوص علم.
ولو فهم ملايين الشباب من الجنسين هذه الحقيقة لما بقي أحد عاطلا ولكان سر العمل هو الاجتهاد في إبداع الحلول والجهاد في تحقيقها فتكون الأمة خلية نحل كل يعلم ويعمل حتى يحقق ما عليه كمكلف بتعمير الارض بقيم الاستخلاف ولما أصبح الجميع عالة على التسول لسد حاجة الرعاية والحماية.
وهذه الرؤية هي الثورة بحق. أما مواصلة الافكار التي بها سيطر على الأمة طاغوت التربية وطاغوت الحكم المبني على “فساد معاني الإنسانية” الذي جعل الجماعة تتبادل الغش والغدر والاستغلال المتبادل فلن يتغير عائق الحرية الروحية والحرية السياسية: يبقى الانقلابان سائدين وإن تغير المستفيد منهما.
الكل يلوم الكل ولا أحد يلوم نفسه على فساد التربية والحكم رغم أن ما يحكم الجميع هو هذا الفساد الحائل دون حل مشكلات العلاقة العمودية. فالعلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة عقيمة والنتيجة تحول العلاقة الافقية بين البشر إلى صراع دائم على تقاسم الفقر والجهل وعدم العمل على علم.
فكلما قل العلم والعمل على علم لسد حاجات الرعاية والحماية بالعلاقة العمودية بين الجماعة ومحيطها الطبيعي زاد الصراع في محيطها التاريخي على قلة ما يسدها بالعلاقة الافقية ولا يبقى إلى الصراع على الندرة في مجتمع صار قانونه قانون الانتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى وليس للأنفع.
وحصيلة الانقلابين وعلتهما في آن هما عدم تجذر التربية والحكم الإسلاميين في الشعوب التي أسلمت لقصر المدة التي عاشتها الامة بمقتضاهما في العصر النبوي والراشدي: لم يعود الناس على الحرية الروحية في التربية والنظر والحرية السياسية والعمل ومن ثم فسرعان ما نكصوا إلى نقيضيهما السابقين.
عاد طاغوت الوساطة الكنسية ووصاية الحكم بالحق الإلهي صراحة عند الشيعة وبصورة مخاتلة عند السنة لأنها ظلت محافظة على مثال الثورتين الاعلى في الاقوال أما الأعمال فلا تختلف عن الشيعة إلا بأساس الطاغوتين: دعوى الرسوخ في العلم والضرورة التي تشرعن للمتغلب والشوكة.
فصار مفهوم “أولياء الامر” اي العلماء بما هم وسطاء والامراء بما هم اوصياء لا يدل على فاعلية تمكن من حل قضايا العلاقة العمودية بين البشر والطبيعة ومن حل قضايا العلاقة الافقية بين البشر بل هم اولياء الاحتكار العنيف للنظر والعمل الزائفين تأثيره الوحيد التزايد المطرد الاستبداد والفساد.
ومن الاوهام تصور ما يدعى من تطور في نظام التعليم ونظام الحكم في بلادنا قد انتهى إلى نتائج محررة من هذين السلطانين العنيفين ومكونا لأجيال مبدعة قادرة على علاج العلاقة العمودية أو الافقية بصورة تحقق شروط القيام المستقل بل هي مجرد محو للأمية تخرج المقلدين والعاطلين والإيديولوجيين.
لم يبق في نظام التربية والنظر وفي نظام الحكم والعمل إلا صراع الإيديولوجيات لأن قضايا العلاقة العمودية والعلاقة الأفقية تعتبر محلولة إذ يكفي فيها الاستيراد: استيراد ما يسد الحاجات في الرعاية والحماية ومن ثم فإنه لا حاجة للاجتهاد النظري والجهاد العملي فغيرنا يتكفل بسد حاجاتنا.
وما يخرجني عن طوري حقا هو الكلام على “العلماء”. فهؤلاء لا علم لهم بالطبيعة ولا بالتاريخ إذا ما استثنينا المحفوظات التي تتكلم على علم شبع موتا أو على علم وهمي اختلقوه حتى يكون لهم دور: فما عدى العبادات كل ما يقولونه تخريف. والعبادات غنية عن النظر الممارسة تكفي في أفعال الجوارح.
وأفعال القلوب لا تكون وجدانا صادقا إذا صارت معلموها وسطان يعتبرون التعليم تلقينا خارجيا وليس إيقاظا لقدرات ذاتية للمتعلم. لذلك فقد يخرجون حفظة لتراث لفظي لا سلطان له على شروط الاستخلاف وتعمير الارض. فلا يبقى إلا منطق الدعاء والدعوة والادعاء لأوهام تزيد الامة تبعية لمستعمريها.
العبادات غنية عن النظر بل هي عمل مباشر يتعلم بمحاكاة الأطفال لآبائهم إذ من جنس آداب العيش كالأكل والكلام والعناية بالبدن والنفس. قد تحتاج إلى التوجيه لكنه ليس علما بل آداب عيش. تعقيده وتحويله كلام يقتل العفوية التي تلازم الصدق وتحوله إلى تكلف يلازم النفاق: صدق النية جوهر العبادة.
وما عدا العبادات لا يكفي فيه حفظ شروح النصوص: العلوم كلها بحث في آيات الله التي تتجلى في الآفاق والانفس وهذه الآيات هي قوانينها في الطبيعة وسننها في التاريخ ولا يحصل علم في هذين المجالين بشرح النصوص بل لا بد من دراسة الظاهرات نفسها لمعرفة نظمها الحاكمة فيها.
وهذه البحوث العلمية ليست في متناول من نسميهم “علماء” هم ربهم حفظة للنصوص ومؤولون زائفون وبعيدون لما فيها بشروح متكلفة تجعل النصوص حسب رأيهم محتوية على علم كل شيء في حين أن القرآن لم يقل إن القرآن يحتوي على علم كل شيء لأنه رسالة إلى مكلف تذكره بما كلف به وبما عليه تجنبه لينجح.
عندما أنصح ابني بما عليه القيام به للنجاح في دراسته لم أعلمه ما سيستعمله خلال الدراسة. من يعلمه هو نشاطه النظري والعملي في مجال الدراسة والتعامل مع الموضوع بنفسه تعاملا فعليا لا يقتصر على التلقي الكلامي: لا يتعلم الفيزياء بقراءة كتاب بل لا بد من ممارسة مخبرية مع تمكن من الرياضيات.
ولما نكصت الأمة لم تعد تنقب في الارض ولا تحدق في السماء لمعرفة قوانين الآفاق الطبيعة والتاريخية بل تكتفي بحظ كلام لا معنى له حول ما لا يقبل العلم بمقتضى آل عمران 7 والعلة هي توهم الرسوخ في العلم قدرة علة معرفة ما يعترف النبي نفسه أنه يجهله: العلم بالغيب.