ما دلالة {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْئ}؟ – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله ما دلالة

ما أظنني بحاجة للاعتذار للقراء بخصوص المصطلحات الفلسفية القديمة-في كلامي على أرسطو وابن سينا مثلا-فهي  من زاد اي متابع عربي ومسلم لأحد علوم الملة الخمسة (الفقه وتأصيله والتصوف وتأصيله والكلام وتأصيله والفلسفة وتأصيلها وأصلها جميعا في تفسير القرآن وعلم الوجود في حضارتنا).

ولا أنفي أن جل الشباب غير متابع لهذه العلوم إذا ما استثنينا خريجي المدارس الدينية. والمشكل مع هؤلاء يتعلق بمصطلح الفلسفة الحديثة. وهو نفس المأزق بل هو أخطر لأن محاولات البعض منهم الاعتماد على التعلم الصحفي من أسرار ما أجده في الغالب لديهم من تعالم زائف خال من مقومات التعلم السوي.

ورغم كل محاولات التبسيط فإن هذين النوعين من المعرفة من علوم الآلة في كل كلام على المسائل التي تصل بين الديني والفلسفي في كل حضارة تجاوزت المقابلة السطحية بين العقلي والنقلي: فكل علم مؤلف منهما لأن المضمون نقلي والشكل عقلي في كل معرفة إنسانية لموضوع خارجي.

والفرق بين المضمونين الديني والفلسفي ليس من حيث كونه مضمونا متلقى من خارج بل كونه مضمونا متلقى عن طريق الحواس الخارجية أو متلقى عن طريق الحوادس أو الحواس الباطنية للمعاني التي لا تتعين في محسوس بل في مفهوم منتسب إلى ما وراء المحسوس من أصول قانونية وسننية تنسب إلى ما يسمو  عليه.

والشكلان كذلك واحد من حيث الشكلية لكنه مختلف من حيث العلاقة بالمضمون: فالعلاقة في العلوم الوضعية علاقة تقدم الشكل على المضمون بل تعتبر المضمون نفسه من صنع الشكل  العلمي نفسه في حين أن العلوم الدينية بسبب تقديسها للمضمون تعكس فتعتبر المضمون ليس من صنع الشكل بل هو ذو مصدر إلهي.

وكان يمكن أن نردهما إلى أمر واحد لو كانت كل الاديان من جنس الإسلام: فالإسلام لا يعتبر علاقة المضمون الديني بالشكل العلمي مختلفة عن علاقة المضمون الطبيعي بالشكل العلمي: فكلاهما يحتكم إلى ما في الآفاق والأنفس من تجليات القوانين والسنن التي هي في الحالتين آيات إلهية دالة على النظام.

لذلك فالقرآن لا يستدل على ما يقدمه من تذكير وتحذير على وجود الله ووحدانيته بالمعجزات بل بالنظام: معجزته الوحيدة هي نفي أي اعجاز غير مستمد من النظام القانوني في الطبائع والسنني في الشرائع. وهذا لا يعني أنه ينفي معجزات الأنبياء السابقين بل هو يقصها ولا يقيس الرسالة الخاتمة عليها.

على الآن شرح “ما فرطنا في الكتاب من شيء” بهذا المعنى الذي يجعل القرآن  سبابة تشير إلى مشار إليه يوجد خارجه ما ينتظر من رسالة تعرف نفسها بكونها  تذكيرا وتحذيرا للإنسان المكلف بواجباته ومحظوراته من حيث هو كائن حر روحيا (لا يخضع لوسيط) وسياسيا (لا يخضع لوصي) تختبر أهليته للاستخلاف.

فأما الضمير الاول فهو كونها في رسالة تذكير وتحذير. وأما الضمير الثاني فهي موجهة إلى الإنسانية بوصفها أمة كل الكائنات الحية التي ذكرتها الآية لها ما تتميز به وهو معلوم: امة مكلفة (حرة ومسؤولة) ومستخلفة في الارض (تكليف برعاية الأرض وحمايتها اصلا لقيامه) يختبر صلاحه وفساده بسلوكه.

والضمير الاول يعني أن ما يذكر به الإنسان معلوم لديه قبل التذكير ما يعني أن بين العلم السابق والتذكير اللاحق نسيان. وكذلك بالنسبة إلى التحذير. والضمير الثاني يعني أن التكليف تذكير بما يوليه للإنسان من منزلة (الاستخلاف) وما يترتب عليها من حساب المستخلِف للمستخلَف.

والجمع بين التذكيرين وما يترتب عليهما (أربع مسائل) تتأصل في دلالة الرسالة: هي شبه تدعيم للتكليف ومساعدة للمكلف لكأنها رسالة نابعة عن تحذير أكثر من نبعها عن تذكير ما يعني ان الرسالة تشبه ما يفعله أي صاحب أمر لمن نوبه فيه بعد ملاحظة سوء تصرف منه.

لذلك فالرسالة تلخصها أفضل تلخيص سورة العصر: فهي تبدأ ببيان الداعي للرسالة (الإنسان في خسر كما يتبين من سلوكه) وتأتي التوصيات لبيان شروط خروجه منه مضمون الرسالة التذكيرية والتحذيرية: فتكون فروعها الاربعة التي تتأصل في التوعية بالخسر وما يترتب عليه من شروط الخروج منه.

وإذن فالرسالة مضمونها خمسة عناصر:

  1. أصل هو الوعي بالخسر والداعي للخروج منه

  2. الإيمان

  3. العمل الصالح

  4. التواصي بالحق

  5. التواصي بالصبر.

وبهذا فالرسالة لم تفرط في شيء يخص شروط خروج الإنسان من الخسر الذي تردى إليه فاحتاج إلى تذكيره وتحذيره.

وحتى أحصر معنى “كل شيء” في الآية لا بد من نسبة الشيء  الذي تحتويه الآية إلى المخاطب بالرسالة وعلاقته بالمرسل إليه (مستخلف يراسل خليفة) وموضوع الخطاب المتعلق ما كلف به الثاني من الاول وبشروط انجازه الغائية والأداتية و الجزاء المتعلق بإنجاز المهمة جزاء موجبا أو سالبا.

“كل شيء” ليست مهملة فتكون محتوية على التخريف الذي بنيت عليه علوم الملة وكأن المعرفة الإنسانية تقتصر على شرح آيات القرآن حتى لو أضفنا إليها السنة. كل شيء في الآية واضح: هو كل شيء يتعلق بتذكير الخليفة بما كلف به وتحذيره من عدم الإيفاء بما التزم به عندما قبل الامانة.

والمعادلة الوجودية من حيث هي موضوع معرفة تنقسم إلى ما هو إيماني وإلى ما هو علمي. فالإيماني يتعلق بمقوماتها والعلمي يتعلق بما يمكن اكتشافه بالبحث العلمي في هذه المقومات أو بصورة أدق في ما هو شاهد منها: الله والإنسان وبينهما الرسالة علاقة مباشرة والطبيعة والتاريخ علاقة غير مباشرة.

اما حقيقة الله وحقيقة التكليف أو الاستخلاف فهما قضيتان إيمانيتان لا يمكن أن ندعي علما فيهما يتجاوز الإيمان للمسلم بهما أو عدم الإيمان لنكرهما. فتصبح المعادلة تطبيعا للإنسان وللإله وضم الفاعلية القصدية أو التي يتقدم عليها إرادة وعلم إلى الضرورة الطبيعية ونفي الحرية والتكليف.

وذانك هما الموقفان الممكنان معرفيا: فإما الاعتماد على الإيمان المتجاوز للطبيعة والتاريخ بذاتين حريتين هما الله والإنسان الأولى مستخلفة والثانية خليفة أو نفي الفاعل الحر في الحالتين ورد الكل إلى الآلية الطبيعية فيكون الإنسان مثله مثل أي كائن طبيعي خالص خاضعا للحتمية الطبيعية.

ولا يمكن لمن ينفي الفاعلية الحرة وراء الطبيعة أن يدعي وجود فاعلية حرة بعدها في التاريخ. من ينفي وجود  الله كفاعل حر للطبيعة لا يمكن أن يثبت الإنسان كفاعل حر للتاريخ. المفهومان متلازمان حتما. فالإنسان لا يمكن أن يكون فاعلا حرا للتاريخ إذا كان منفعلا مضطرا للطبيعة.

من يزعم حرية للإنسان ليجعله خالق نفسه (التاريخ من صنع الإنسان) يفترض أن الإنسان مستثنى من الضرورة الطبيعية. وليس يمكن القول بالاستثناء الإنساني من الضرورة الطبيعية لتفسير التاريخ من دون التسليم بأن الطبيعة أولى بالحاجة إلى خالق حر. فالخاضع للضرورة العمياء لا يخلق الحر.

وهذا ليس استدلالا يقيس الغائب على الشاهد فضلا عن قيس الغيب عن الشهادة: فما يجعلنا نعتبر الإنسان فاعلا حرا ليس مجرد الشعور بالحرية بل كذلك ما في فعله من غائية متقدمة على الانجاز وأدواته. هو يتصور وينظم  الفعل باختيار بين ممكنات متعددة فيفاضل بينها: تلك هي الحرية.

وكل من له دراية بعلوم الطبيعة يعلم أن ما فيها من حلول ليس مضطرا بل هو نتيجة خيارات ومفاضلة بين عدة إمكانات وذلك فهو الفرق بين الضرورة المنطقية في الرياضيات والغائية التي فيها “ديزاين” في الطبيعيات يفاضل بين الحلول الرياضية المتعددة ليختار أفضلها تحقيقا للغاية.

وكان أرسطو يسمى هذا الفرق بين طبيعة النظام المنطقي في المقدرات الذهنية وطبيعة النظام الوجودي في الطبيعيات بـ”الضرورة الشرطية” أي إنها تتضمن اختيار مشروط بتحقيق الغاية من الكيان الذي يؤدي الوظائف وخاصة في الكائنات الحية. ولايبنتز مال إلى نفس الرؤية. وكل عاقل يرى العلاقة بالحرية.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي