ما ثمرة تفكيك عقد السنة النقدي لعلاجها؟ – الجزء السابع

تقديم**:**

لا أشك لحظة واحدة في أن الأحكام المسبقة التي تولدت عنها عقد السنة فحشرتها في زاوية رد الفعل ليست يسيرة التفكيك وأنها ذات صلة متينة بمسألة النخب آخرة مسائلنا. فهم الذين يزرعون هذه الأحكام المسبقة ويغذونها بعضهم بوعي وتبعا لخطة عدوانية وبعضهم تقليدا للأولين بمبدأ هذا ما وجدنا عليه آباءنا.

لذلك فينبغي أن أجيب عن هذا السؤال: ما علل السلوك الذي أتمت الثورة فضح أصحابه وأخلاقهم سلوك النخب التي حالفت الانقلابيين والثورة المضادة لمواصلة استعباد الإنسان العربي والمسلم ومنع الأمة من استئناف دورها؟

كل ما أكتبه مفاده بيان هذه العلل وفيه حاولت الانتقال المتدرج إلى العلاج بالاصطلاح النظري الصارم (وهو ما نعتذر عليه دائما). ولعلي في هذا الجزء السابع مضطر لمستوى أعلى من الاصطلاح لكنه لا يتطلب دقيق الاختصاص في الفلسفة العملية وفي علم الكلام.

إن جوهر الخلاف بينهم وبيني يتعلق بهذا الموقف غير المفهوم من احتقار الشعب وثقافته وهو خلاف ليس بالجديد –وليس بيننا خلاف على “حرثة أو ورثة” بلغة تونسية حكيمة– يقتصر على صنفين من النخب وخاصة منذ تحددت الصفوف بفضل الثورة والثورة المضادة :

1- النخب العميلة للأنظمة مباشرة لمقاسمتها إياهم ثمرات الاستبداد والفساد غاية لعبادة الهوى بمنطق الإخلاد إلى الأرض: وهم إذن بالجوهر من الكافرين بكل القيم حتى لو سموا أنفسهم دعاة وخاصة الجديد منهم.

2-والنخب التي تحارب قيم الشعب بدعوى التحديث وتحتمي بالغرب مدعية التبشير بالديموقراطية وحقوق الإنسان إلى أن فضحتهم الثورة فتبين أن حقيقة ما يمثلونه لا يختلف عن الخيار الأول رغم اختلاف نوع التبعية: الحلف مع الاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع.

ومع ذلك فإني لا أؤسس خصومتي معهم على موقفهم من الشعب والثورة وما يفسرها من سلوك خلقي إزاء الظلم والاضطهاد فحسب –واعترف بأني عاجز عن فهم تأييد جل النخب الحداثية ناهيك عن علماء السلطان لما يجري في سوريا ومصر وليبيا واليمن وتونس– بل أعتمد كذلك على بيان كذبة الانتساب إلى النخبة بمعناها الحقيقي في أي حضارة قديمة كانت أو حديثة:

الخواء المعرفي الموضوعي بالتراثين الغربي والإسلامي والاقتصار على ثقافة صحفية لا تتجاوز كليشهات التقريب الجمهوري.

فمشكل الفهم والمعرفة الأساسي عند هذا النوع من النخب هو التعميم العامي –مفهوم أرسطي شهير– التعميم العامي الذي لا يتجاوز في حواراتهم في ما بينهم أو مع من يخالفهم البنية الأساسية للتبكيتات السوفسطاية أعني أنهم يتصورون وحدة الاسم دالة بالضرورة وحدة المسمى.

ولعل أكثر أضرار هذا التعميم الغالب على عامية فكرهم أنه سبب حربهم على ثقافة الشعب الإسلامية.

وما يعنيني في حالتنا هو احتقارهم لشعبهم وثقافته سواء استعملوها كمنافقين لها أو عليها بسبب ظنهم أن كل الأديان متماثلة وأن الموقف منها ينبغي أن يكون مماثلا لموقف من يتصور صاحب التقدم والغلبة في مرحلة من مراحل التاريخ. وهذا الرأي العامي هو الغالب على موقف من يتصورون أنفسهم نخبة النخبة.

الموقف من الإسلام**.**

لكن لو سألتهم هل قارنتم حقا بين الأديان فتجاوزتم الاسم إلى المسمى ورايتم أنها كلها واحدة بحيث ما يتصف به دين الغالب لحين وموقفه من الدين هو عين الصواب أم تكتفون برفض الجهد الضروري لتدبر الأمر بفكر حر خال من الأحكام المسبقة وتريدون سلخ شعبكم عن معتقداته حتى يشبه من تعتبرونهم أسيادكم؟

وإليكم الأسئلة التي تحيرني عندما أحاول فهم وجاهة مواقفهم:

1-موقفهم من القرآن: كيف يمكن عدم إدراك تميز الكتاب الذي يفكك التحريف تفكيكا نقديا ولا يدعي الاعتماد على المعجزات لإثبات ما يدعو إليه (دون أن يناقش ما يقصه منها في الأديان السابقة احتراما لعقائد أهلها) بل يعتبر المعجزات أدوات تخويف لا أدوات اقناع. ومن ثم فهو يفضل الاستدلال بنظام العادات بدلا من الاستدلال بخرقها؟

2-موقفهم من ثورة الإسلام: كيف يمكن عدم فهم الثورة التي جاءت فيه والتي حررت الإنسان من عقدة الخطيئة الموروثة (اجتباه و تاب عليه و هداه) وكرمته فاعتبرته حرا ومسؤولا على أفعاله بما هو شخص فردي واعتبرته مستعمرا في الأرض بقيم الاستخلاف أي بواجب تحقيق السنن أو القوانين التي تسمو به عن الإخلاد إلى الأرض؟

3-موقفهم من سياسة التعدد: كيف لا تفهمون دينا يؤمن بأن التعدد الديني مثل كل تعدد من الآيات بل إن تعدد الشرعات مطلوب لذاته بوصفه شرط التسابق في الخيرات ويفرض على دولته أن تحمي كل الأديان وتمكين أهلها من حرية القيام بمشاعرها بل ويسمح لهم بتطبيق شريعتهم في علاج أوضاعهم القانونية؟

4-موقفهم من حرية العقيدة: كيف يمكن عدم فهم عدم الإكراه في الدين وترك الأمر لتبين الرشد وتحرير الإنسان من الكنسية ومن الحكم باسم الحق الإلهي واعتبار الجماعة راشدة وهي التي تنظم أمرها بنفسها من خلال آلية التشاور بأخلاق التواصي بالحق والتواصي بالصبر؟

لذلك فكل من لا يفهم هذه المعاني–حتى لو وجد في الواقع بخلاف المرجعية ما يبدو مؤيدا لموقفه السلبي ولم ينتبه إلى أن تصحيح انحراف الواقع يقتضي الاستناد إلى المرجعية لا رميها معه خاصة وهم يدعون الإصلاح الديني ولو عاملنا قيم الحداثة فحاكمناها بالواقع لكان الحكم مماثلا– أو لا يريد أن يتدبرها ليفهمها لا يمكن أن يعتد برأيه خلقيا ومعرفيا في مسألة الاستراتيجية التي ستمكن الأمة من استئناف دورها للمشاركة مع الأخيار من جميع الأمم وخاصة شبابها في تحرير البشرية من نظام يحتكم لعبادة العجل والمافيات التي تسير العولمة من وراء حجاب بمؤسسات العجل وأدواته: العنف المادي والعنف الرمزي أداتي الاستبداد والفساد العالميين.

ثمرة تفكيك عقد السنة لعلاجها**:** الجزء السابع

1-وصلنا الآن إلى المسألة الأخيرة في تفكيك عقد الأمة لعلاجها –النخب–بعد الكلام في المسائل الأربع السابقة أي الانحطاطين والمؤسسات والعقمين والاستئناف في ترتيب من آخرتها إلى أولاها.

2-وقدمنا على درس المسائل مدخلا لتصنيفها ثم أضفنا استطرادا لبيان فلسفة التاريخ التي تمكن من فهم هذه العقد وضديدتها التي تحول دون الفهم. ولعلنا هنا أيضا سنضطر لاستطراد ضروري لفهم مقومات ظاهرة النخبة.

3-لذلك فنحن في المرحلة السابقة من بحثنا اعتبرنا البحث في مسألة النخب هي آخر الفكرة ومن ثم فهي ستكون أول العمل: فمن يريد الإصلاح ينتهي في كشف الداء إلى النخبة وبها يبدأ العلاج العملي لأزمة الأمة.

4-وخلال كلامنا في عقم النخب والمؤسسات قدمنا نظرية في تصنيف النخب وهي التي سننطلق منها في علاج اساس كل العقد التي بعلاجها يكون الإصلاح.

5-فلنذكر بنظام التصنيف: ميزنا بين الشخص الطبيعي (الفرد الإنساني) والشخص المعنوي (الجماعة) وبينا اشتراكهما في صفات هي عين الإنسانية فيهما بمعنى أن الإنسان لا يكون إنسانا بحق إلا بالقدر الذي له منها (وهذا هو الرزق الروحي).

6-وهذه الصفات هي ما ينتج عن التخلق بصفات الكمال المستمدة مما يمكن للإنسان أن يتصف به منه ويرمز إليه قرآنيا “النفخ من الروح” الإلهي فيه بعبارة رمزية لا يعلمها إلا الله لأن الروح من أمره.

7-والصفات هي: الإرادة الحرة والعقل المجتهد (أو العلم) والقدرة الفاعلة والحياة المبدعة والوجود المستقل وغير التابع. وتسمى هذه الصفات في علم الكلام بصفات الله الذاتية جل وعلا وهي من ألغاز علم الكلام وبتحديد صلتها بالذات تتمايز مدارسه في الغاية.

8-ليس همنا الآن البحث الكلامي فيها.وما كنا لنستعملها لو كانت كلامية فحسب وليست بذات أصل حقيقي في نص القرآن الكريم باستثناء كلمة الوجود.

9-ولم نقبل بكلمة الوجود تحكما فهي مفروضة في الصفات الأربع الباقية ولكن تطبيقها على الذات الإلهية يقتضي استبدالها باسم الفاعل أي الواجد إذ هو الوجود ذاته دون أن يكون القصد وحدة الوجود.

10-والاتصاف بهذه الصفات لأنه فرض عين على الفرد يعني أن نزرا منها جميعا لا بد أن يوجد في كل إنسان حتى يكون إنسانا. لكنها في الجماعة فرض كفاية المهم أن تتقاسمها النخب بما يسد الحاجة.

11-أي إن الجماعة تتصف بها كلها بما يشبه توزيع العمل بين نخبها: بعضها يمثل الإرادة الحرة والآخر العقل المجتهد والآخر القدرة الفاعلة والآخر الحياة المبدعة والآخر الوجود المستقل وغير التابع (اي المشرع لذاته).

12-فممثل الإرادة هم الساسة وممثل العقل هم العلماء وممثل القدرة هم المنتجون الماديون وممثل الحياة هم المنتجون الرمزيون وممثل الوجود هم الديني والفلسفي.

13-والازدواج في الممثل الـأخير موجود فيها جميعا: فلكل منها معارض من جنسه –من هذه الوظائف الخمس ومن ثم فالقائمون بها ينقسمون حتما إلى صفين على الأقل: إنها جميعا مثل الديني والفلسفي وجهان متعارضان من نفس الوظيفة.

14-وهذا التعارض ليس تناقضا كما قد يفهم من ينسى مبدأ الزوجية في كل المخلوقات لأن الوحدانية لله وحده دون سواه. والمعارضة لا تعني التضاد بل هي تعني ما يترتب على الممكن من تلازم وجهيه الفعل والقوة.

15-فلما كانت الإرادة الحرة والعقل المجتهد والقدرة الفاعلة والحياة المبدعة والوجود المستقل من حيث هي صفات انسانية ممكنة وليست واجبة فإن وجهيها هما الممكن حاصله وغير حاصله.

16-وحتى لا نعسر الأمر وهو ليس بالبسيط فلنقل إن الحرية الملازمة لكل هذه الصفات تجعل ما يوجد بالفعل من الممكن محاطا دائما بما هو بالقوة. وتلك هي العلة التي تجعل الوجود الإنساني محكوما بالاجتهاد لتحديد ما ينبغي تحصيله من الممكن وبالاجتهاد للعمل على تحصيلـه.

17-وذانك هما التواصيان: فالتواصي بالحق بين ممثلي طرفي كل ممكن يمكن من تحديد ما ينبغي تحصيله والتواصي بالصبر بينهما يمكن من تحقيق ما تم الاتفاق على ضرورته فتحقق ما لأجله كان الاجتماع أي تحقيق شروط الحرية والكرامة.

18-هذا منطق الجماعة الصالحة أو التي حققت ما يمكن أن نسميه شروط الاستثناء من الخسر. وهو غير ممكن إلا لجماعة أفرادها يؤمنون ويعملون صالحا.

مشكل النخب

19-وصلنا الآن إلى المشكل: هل النخب العربية ممثلة أولا لهذه الصفات الخمس؟هل تجتهد لتعلم ما ينبغي تحصيله من الممكن وتجاهد للعمل على تحقيقه فتؤدي هذه الوظائف الخمس؟

20-بإيجاز: هل للأمة اليوم من يمكن أن نعتبرهم نخبة الإرادة الحرة والعقل المجتهد والقدرة الفاعلة والحياة المبدعة والوجود المستقل بحق أي بالمسمى لا بالاسم الخالي من مسماه بحق؟

21-لا معنى للنفي. فلا توجد أمة من دون ذلك. القضية ليست وجودا وعدما مطلقين بل درجة وجود ودرجة عدم: فللأمة ما يناسب وضعها من هذه النخب حتما.

22-فهذا معنى –كيفما تكونون يولى عليكم– : فمن ينتخب النخب التي تؤدي هذه الأدوار هو الأمة مهما تفصت من المسؤولية بحجة الاستبداد والفساد السائدين: فالعبد هو علة عبوديته وغالبا بسبب الجبن.

23-ومعنى ذلك وبصورة لا لبس فيها: النخب السائدة علتها الأخلاق السائدة عند الأمة. السياسي والعالم والاقتصادي والفنان والمفكر هم علامات أخلاقها.

24-ألست بهذا أقع في حلقة مفرغة: كيف نصلح الأمة بإصلاح النخب إذا كانت النخب ممثلة لأخلاق الأمة رقيا وانحطاطا فضيلة ورذيلة؟ كيف نخرج من الدور؟وهي مسألة دار حولها الخلاف بين المصلحين: بماذا نبدأ؟

25-وفي الحقيقة فالمخرج سبق فذكرناه من خلال كلامنا على مبدأ الزوجية: فالنخب بأصنافها الخمسة تنقسم إلى من يعبر عما هو بالفعل من الممكن وعما هو بالقوة منه إذ كل ما يكلف به الإنسان هو من الممكن وليس من الواجب ولا من الممتنع.

26-فالفساد والصلاح في كل أمة متساوقان في تلازم أبدي مثل الشر والخير وتلك هي علة الحاجة إلى الاجتهاد للفصل المعرفي في الدراية بهما والجهاد للفصل العملي في السعي لتحقيقهما.

27-ولا بأس الآن من الاستطراد الضروري لفهم مبدأ الزوجية ودوره السياسي وتساوق وجهي القيم شرط حرية أولا ومحرك تغيير ثانيا في تنظيم الجماعات البشرية ولم هو يقتضي فلسفة عملية متجاوزة للفلسفة اليونانية.

28-حدد الغزالي علاقة الحكم بالجماعة السنية في رده على الباطني فأشار إلى مناط الإشكال الفلسفي في تحقيق القيم في التاريخ: الشوكة والشرعية أي الأغلبية التي يقودها صاحب المهابة بالشوكة والشرعية.

29-وهوتحديد تعين بأكثر دقة عند ابن تيمية وصار نظرية مكتملة عند ابن خلدون. لكنها جميعا مبنية على تجاوز الأساس المعتمد في الفلسفة اليونانية والذي سيطر على فلاسفتنا بالمعنى التقليدي وخاصة على الفرق الغالية من محرفي الإسلام.

30-وهذا الأساس كان مدار كلام من يسمون فلاسفة –من الفارابي إلى ابن رشد– وهو مضمون الجمهورية وما عرف من مضامين الشرائع لأفلاطون وأخلاق نيقوماخوس وما عرف من مضامين السياسة لأرسطو.

31-وهذه جميعا على أهميتها العلمية التي لا جدال في منزلتها كانت تبني النظرية السياسية على نموذجين هما نموذجا النفس والأسرة لظنهما طبيعيين ولظن التاريخ مجرد نتائج مباشرة للطبائع.

32-فالدولة تقاس عندهم على بنية النفس وبنية الأسرة: النفس عقل وغضب وشهوة والأسرة رب وتوابع وعبيد. وإذن فالعقل هو الذي يحكم (الحكام) والغضب هو الذي يدافع (الجيش) والشهوة هي التي تعمل (الخدم).

33-قيس الجماعة على الفرد والدولة على الأسرة واعتبار السياسي تابعا لعلم النفس والاقتصاد المنزلي هما العائق الابستمولوجي الذي تم تجاوزه: ظن التاريخي مجرد محاكاة لما يظن طبيعيا (راجع الجمهورية والشرائع وكتاب السياسة وأخلاق نيقوماخوس).

34-بلغة قرآنية يساء فهمها في الغالب التجاوز هو مضمون “ولولا دفع الله الناس بعض ببعض“. لماذا قلت يساء فهمها: للانزلاق من دفع الله إلى تدافع الناس.

35-فهذا الانزلاق جعل “دفع الله“=”تدافع المدفوعين“. إنها نقلة دالة على تحريف للقرآن: فعناية الله الدافعة تحولت إلى جدلية الصراع الماركسية بدوافع مادية خالصة.

36-نسي الباحثون أن هذا الدفع الإلهي حصر في حالتين: تحقيق حرية العبادة (الحج 40) والإصلاح (البقرة 251).1-الحرية الروحية 2- شرطها المادي.

37-نسبة الدفع إلى الله بدل نسبته إلى المدفوعين يجعله عين ما فطر الله الناس عليه: أي إن فطرة الله تجعل البشر مندفعين إلى تحقيق هذين الغايتين.

38-الغايتان ما هما؟ أولا الحرية الروحية شرط الاستخلاف. وثانيا عدم الفساد في الأرض شرط استعمار الإنسان فيها. ذلك منطلق تجاوز علمائنا الثلاثة (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون كما بينا في نظرية الدولة) لأهم مصدرين في فلسفة اليونان العملية (أفلاطون وأرسطو).

39-ما طبيعة التجاوز؟ ليست بينة النفس والأسرة هي النموذج بل النموذج هو حال شروط هذين الأمرين في الجماعة: الحرية الروحية والصلاح في الأرض.

40-وبذلك فالنموذج معكوس تماما: لم يعد بنية النفس والأسرة المظنونتين طبيعيتين بل النفس والأسرة تقاسان على بينة الجماعة الحرة والصالحة.

41-ما يحدد حرية الجماعة وصلاحها هو شروط الاستثناء من الخسر أي ما يجعل الإنسان يسمو على الإخلاد إلى الأرض وهي خمسة شروط حددتها سورة العصر.

42-فالجماعة الحرة والصالحة تتواصى بالحق (الاجتهاد) وتتواصى بالصبر (الجهاد) ولا يمكن أن يحصل ذلك من دون الإيمان والعمل الصالح: تبين الرشد من الغي أو الوعي بالقيم السامية (الكفر بالطاغوت سلبا والإيمان بالله إيجابا).

43-تبين الرشد (البقرة 256) هو الشرط الأصل في الشروط الأربعة الباقية وهو منطلق الاستثناء من الخسر لأنه يغني عن الإكراه ويحرر من الطاغوت.

44-إذا أصبحت الجماعة الحرة والصالحة هي نموذج النفس والأسرة فذلك يعني أن الأمر فـي علم السياسية يتعلق ما بين النفوس والأسر وليس بما فيهما.

45-وما بين النفوس والاسر هو ما يحصل بين الصفات الخمس (الإرادة والعقل والقدرة والحياة والوجود) إذ تتلاقي في التنافس على شروط حياة الجماعة: تتلاقى الإرادات والعقول والقدرات والحيوات والوجودات فيحصل التنافس على شروط الحياة وتلك علة وجود الدولة والتربية (صورة العمران).

46-وما يحصل كما أسلفنا ليس واجبا لا وجودا ولا عدما بل هو ممكن. ومن ثم فحصوله موضوع اجتهاد في النظر وجهاد في العمل فيكون الخسر أو النصر رهن صورة العمران بفرعيها (الحكم والتربية) من حيث دورها في الحماية والرعاية.

47-والنظرية الإسلامية بخلاف النظرية المسيحية واليهودية وما ماثلهما (انظر ترجمتي لدروس هيجل في فلسفة الدين) لا تؤمن بالخطيئة الموروثة بل تعتبر وجود الإنسان في الأرض مبرأ منها لأن آدم تلقى كلمات فأتمهن فعفا الله عنه واجتباه.

48-وإذن فالإنسان في الدنيا ليس ملعونا ولا يحتاج لمن ينجيه غير فعله الحر لأنه مكلف والرمز هو هذا العفو على آدم واجتباؤه والقول بأن الفطرة خيرة اصلا.

49-وهذا أهم شيء يعيبه هيجل على الإسلام: أن يبرئ الإسلام الإنسان ويغنيه عن وساطة المنجي ونائبته أو الكنيسة وأن يجعل الله ملتزما بمجازاة العمل (وهذه أهم مسألة كلامية في الإصلاح المسيحي الذي ينفيها ليؤسس للحاجة إلى المنجي ونائبته).

50-وإذن فالتاريخ الإنساني بالمعنى القرآني وفي فلسفة الغزالي وابن تيمية وابن خلدون متحرر من الخطيئة الموروثة Die Erbsünde وهو استخلاف يسمو باستعمار الإنسان في الأرض.

51-استخلاف الإنسان غاية استعماره في الأرض ليعمرها بحرية ومسؤولية فيدافع عن الحرية الروحية (الحج 40) ويمنع الفساد في الأرض (البقرة 251): للإنسان في الوجود الدنيوي رسالة وهي جوهر الشهادة على العالمين عند نسبتها إلى المسلمين.

52-نعود لسؤالنا: هل للأمة اليوم نخب تؤدي الوظائف الخمس التي ذكرنا بالوجه الذي يترتب على هذه المعاني أم إنهم كفاءة وولاء دون المطلوب؟ لا أحتاج للجواب: حال الأمة تجيب أبلغ جواب.

53-مقدمات البحث في المسألة أخذت مساحة كبيرة ولم يعد مفيدا أن نواصل البحث في القضية ذاتها ومن ثم فينبغي أن نخصص لها جزءا آخر إن شاء الله.


ما ثمرة تفكيك عقد السنة النقدي لعلاجها؟ – الجزء السابع – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي