1-بعد الاستطراد المنهجي في الجزء الثالث نعود لمواصلة البحث في ثمرة علاج العقد والمسائل الباقية منها. أربع مسائل نواصلها بترتيب عكسي كما أسلفنا:1-النخب 2-الانحطاطان 3-المؤسسات 4-العقمان.
2-موضوعنا اليوم هو: كيف نفهم العقمين الناتجين عن الانحطاطين:عقم النخب بصنفيها التأصيلي والتحديثي وعقم المؤسسات التقليدية والحديثة في القرن الماضي؟
3-وحتى يكون كلامنا منصفا فينبغي أن نشير إلى أن النخب التحديثية هي التي حكمت العرب خلال هذا القرن وأن النخب التأصيلية هي التي عارضتها على الأقل في الأقطار التي وقعت فيها الثورة وتعاني من الثورة المضادة الداخلية وتمويلها الخارجي.
4-ما يعني أن تاريخ تقييم عقم النخب التحديثية مضاعف في الأقوال والأفعال وتقييم النخب التأصيلية شبه مقصورعلى الأقوال لمنع استقرار حكمهم لمدد كافية تسمح بالتقويم.
5-عندنا إذن خمسة أصناف من النخب:1-عنف الدولة 2-عنف المعارضة 3- لطف الحداثيين 4-لطف التأصيليين والبعض يحاول التحرر منهم ليشهد مثلما أفعل. وينبغي أن نضيف عاملا آخر: وهو أن كلا الصفين الحاكم والمعارض منقسم إلى حزبين اساسيين: مستعمل القوة العنيفة ومستعمل القوة اللطيفة.
6-إذن نحن أمام حربين:الأولى مسلحة ماديا بين عنف الحكم وعنف المعارضة. والثانية مسلحة رمزيا: بين لطف التحديثي ولطف التأصيلي. والقصد باللطف هنا ما يسمى بالقوة الناعمة.
7-أما من اختار موقع الشهادة على الصفوف الأربعة في الحرب فهو طريد الجميع: الكل يعتبره من الصفوف الأخرى وخاصة من الصف الذي يقابله مباشرة.
8-وطبيعي أن يشغل الشاهد هذا الموقع رغم عسر الاعتراف بإمكانه لعسر اتهامه بالتحيز لأحدها: فهو يسمع الجميع ويحاول صوغ حججهم حتى يوازن بينها ويطلب ما يتصوره من شروط تحقيق السلم بينهم ما أمكن.
9-وحتى نواصل فلنذكر بأن تحديد خمسة صفوف لا ينسينا أننا حددنا كذلك خمسة أنواع من النخب بحسب تمثيلهم لأبعاد كيان الجماعة بوصفها شخصا معنويا أي تمثيل إرادتها وعقلها وقدرتها وحياتها ووجودها.
10-ما يعني أننا لو حاولنا أن نذهب إلى الغاية في التحليل فسنضطر إلى الكلام على 5 في 5 أي 25 حالة. وهذا عسير وقد يؤيد متهمينا بالتعقيد. والتفصيل في الحقيقة ليس تعقيدا بل هو تطويل في حين أن دمج القضايا هو الذي يعقدها.
11-إذن سنكتفي بالكلام على النخب بمعيار الوظائف التي يؤدونها وبالمؤسسات التي يشرفون عليها ونترك جانبا تصنيفهم بمعيار صفهم في الحرب الأهلية القتالية بالسلاح والقتالية بالفكر أو الحرب المادية والنفسية.
12-النخبة الممثلة لإرادة الجماعة (السياسة) والنخبة الممثلة لعقلها (العلماء) والنخبة الممثلة لقدرتها (الاقتصاديون) والنخبة الممثلة لـحياتها (الذوقيون) والنخبة الممثلة لوجودها (الدين والفلسفة).
13-ينبغي أن نبدأ فنسأل سؤالا عاما حول تمثيل النخب لمقومات كيان الأمة: هل تعبر هذه النخب حقا عن إرادة الأمة وعقلها وقدرتها وحياتها ووجودها أم هي منفصلة عنها انفصالا لعله سبب العقم ؟
14-ألا يعتبر شروع الشعب في الاعتناء بالحرب الأهلية المضاعفة بالسلاحين المادي (القتال بالسلاح) والرمزي (القتال بالفكر) بداية الاستئناف؟ لم تعد الشعوب لا مبالية بمعارك تجري في بلاط الحكم وهي متفرجة بل صارت صاحبة الفعل الفصل.
15-بعبارة وجيزة: أليست الثورة وصمود الشعوب فيها رغم تحالف كل قوى الشر ضدها دليل قاطع على أنها بدأت تأخذ شؤونها بيديها وبقوة لتحسم المعركة في الاتجاه الذي اختارته مهما كانت التضحيات؟
16-مرة أخرى وبمناسبة تهمة التعسير فلأسأل: إلى متى سيظل الفكر العربي قانعا بالتبسيط الذي يتوسله المسارعون في سباق النجومية؟ هل ننتظر حتى يبلغ قاع الحمق الداء الذي يعيي كل الأطباء؟
17-لذلك فكلامنا لن يهتم كثيرا بالعلاج الذي ينطلق من الحكم على النوايا وبتحديد من مع ومن ضد سنكتفي بسؤال أعمق:هل النخب بحق معدة لدورها؟
18-وهذا السؤال عندما يوزع على النخب يصبح مثلا: هل النخبة الممثلة للإرادة أعدت فاستعدت لهذا التمثيل بصرف النظر عن الولاء لخطر الجاهل الذي ضرره أكثر من الأعداء؟ (وهذا الأمر ينسبه ابن تيمية لمبدأ الأمانة في الحكم : مسؤولية تعيين الإنسان المناسب).
19-وقس عليه: هل الممثل للعقل وللقدرة وللحياة وللوجود معد ومستعد لهذه الوظائف حقا أم إن الأمر كله لا يتعدى الأسماء التي برزت بقانون النجومية الشللية والمحسوبية العام؟
20-أليس ممثل إرادة الجماعة عسكري أمي؟ وأليس ممثل عقلها صاحب شهادة مزيفة كالقمني؟ أليس ممثل قدرتها لص محترف كجل رجال الأعمال الذين يمتصون ثروات الشعوب بل تنميتها؟ أليس ممثل ذوقها “خنتاب“منحرف يكتفي بمحاكاة ماسخة لحثالة الابداع الغربي؟ أليس ممثل وجودها عبد موضة الكليشيات بعقل مختطف؟
21-هل يمكن عندئذ أن نتكلم على دولة لها حكام بحق وعلماء بحق واقتصاديون بحق وفنانون بحق ومفكرون فلسفيا ودينيا بحق؟ أم نحن ما زلنا في وضع أغلب هؤلاء نصابون والجميع يلعب لعبة الخداع المتبادل؟وما دمنا لا نعترف بهذه الحقائق فلن نستأنف.
22-ولاقتدي بابن خلدون عندما يقارن أحوال الأمم بالأسماء بعد أن يحصل تحول يجعلها خالية من مسمياتها بحق: مثالين في تاريخ الأمة: مؤدبان هما الحجاج وأسد بن الفرات يقيس عليهما مؤدبي عصره (أي معلمي القرآن الكريم).
23-وقياسا على مثال ابن خلدون حول مقارنة المؤدبين في عصره بالحجاج وأسد بن الفرات ودورهما في تاريخ الإسلام: هل يمكن أن نسمي السيسي رئيس دولة بأي معنى للرئاسة حتى لو قسنا مصر بأكثر دول العالم تخلفا؟
24-وبالمقارنة مع من بنى ألمانيا الكبرى هل تجد وزير تربية عربية من حجم جوته؟وجنزال عربي كخالد بن الوليد ورجال أعمال مثل بناة ثروة الغرب؟
25-عندما تسمع إعلامهم وبروباغنداهم ستجد أبطالا وعلماء وقادة ومبدعين لم يجد الدهر بامثالهم. لكن لما تنظر للمنتج لا تكتشف إلا عقم الهزائم. ولعل أكبر مصيبة أصابت مصر هو التضخيم الكاذب لنخبة زائفة منذ خلال ستة عقود إلى وصلنا إلى دجالي السيسي واختراع الكفتة.
26-أعلم أنه من الموضة انكار الكلام على المؤامرات بل صاروا يتنافسون في تقريع العرب بما يسمونه شماعة المؤامرة. وأعلم أن هذا الإنكار دليل غباء لا علامة ذكاء: ذلك أن التنافس بين الأمم على ثروات العالم والسيادة الدولية يقتضي حتما التآمر المتبادل بمنطق التمانع.
27-وما يعنيني هو أن المتآمرين أذكى مما ينسب إليهم من العمل الفج والمفضوح: فهم يتآمرون بصورة غير مباشرة إذ يغنيهم تنصيب النصابين والسراق على الشعوب لتحقيق أكبر مؤامرة تعوق التنمية والتقدم (انظر أين هرب الحكام والنخب ثروات تونس ومصر وسوريا واليمن).
28-يكفي: ممثل الإرادة كالسيسي وممثل العلم كصانع الكفتة وممثل القدرة كلصوص رجال الأعمال وممثل الحياة كراقصات السيسي وممثل الوجود كمفكريه.
29-وما أظن الوضع العربي في غير مصر مختلفا اختلافا نوعيا. فإذا أضفت الاعتماد على نصائح “نادل” انجليزي صليبي كان رئيس حكومة ثم صار سمسارا فهمت الباقي (بلار).
30-هل معنى هذا أني محبط أو أدعو الشباب للإحباط ؟ كلا فالمؤمن لا ييأس أبدا: الثورة هي الوعي الشعبي الحاد بهذا التردي وهي من ثم بداية الاستئناف الحقيقي.
31-وبخلاف لوم الكثير للثورة بكونها عديمة القيادة النخبوية فإني اعتبر ذلك دليل صحة مرتين: أولا لأن الشعب فهم ما وصفنا وثانيا لأن الثورة ستبدع البدائل فتنتخبهم من هؤلاء الشباب.
32-وما أسهم به –على تواضعه– ناتج عن إيماني بأن في الشباب بجنسيه الكثير من الإمكانات التي ستخرج قيادات بالأوصاف التي تعبر عما ذكرنا بكفاءة إرادة وعقلا وقدرة وحياة ووجودا.
33-فالإخلاص الثوري مع الكفاءة ستجعل الأمة تنتخب ممثلي إرادتها وعقلها وقدرتها وحياتها ووجودها بصورة تجعل الأسماء مطابقة للمسميات دون نصب أو تحيل.
34-سيكون ممثل الإرادة مثاله الفاروق وممثل العقل مثاله ابن خلدون و ممثل القدرة مثاله الفاتحون وممثل الذوق مثاله أصيل ابداعنا وممثل الوجود مثاله عميق قكرنا.
35-عندئذ يمكنني أن أقول إن الأمة استأنفت دورها لأن نماذج القيمين على وظائفها بنت مثلها العليا المستمدة من ثراثها وحضارتها بقيم مرجعيتها.
36-بعد الكلام في عقم النخب المنصبة علينا الآن جاء دور الكلام في عقم المؤسسات: الحديثة عند النخب الحاكمة والتقليدية عند النخب المعارضة. ما علة عقمها لديهم؟
37-المؤسسات الحديثة المنقولة عن الغرب والموروثة عن الاستعمار أصحبت عقيـما ومعقمة فما العلة؟ والمؤسسات التقليدية الموروثة عن الماضي ما علة عقمها واعقامها؟ ألم تكن هذه المؤسسات وتلك عند أصحابها مساعدة على الإبداع؟
38-والعلة مضاعفة: فالمؤسسات المستوردة كلها مشروطة بالنظام الديموقراطي لعمل السلط وبالحريات التي تجعل المراقبة حقا للجميع. فقدان هذين الشرطين سبب العقم لدينا.
39-فالفساد والاستبداد لم يبق للمؤسسات نصوصا وهيئات أي سلطان على ما تتعلق به من شؤون بل هي صارت محرد غطاء يحمي المستبدين والمفسدين لأن القانون يضعه الحامي الذي هو الحرامي.
40-أما المؤسسات الموروثة عن تقاليدنا فهي أولا تتكلم باسم الإسلام والإسلام منها براء. إنها بالأحرى ممثلة للجاهلية ولانحطاط حضارة الإسلام: إنها كاريكاتور من المؤسسات التي يحددها القرآن الكريم.
41-ومعنى ذلك أنها مثل المؤسسات المستوردة تحولت إلى مجرد غطاء للاستبداد والفساد في المعارضة الإسلامية لذلك فلما حكمت كانت مثل الحكام الذين عارضتهم بنفس المنطق.
42-وإذن فالداء الذي اصاب النخب والمؤسسات بالعقم هو نوع من الأخلاق الموضوعية التي جعلت كل شيء لم يبق من حقيقة مسماه شيء عدى كذبة اسمه وتلك هي ترجمة الاستبداد والفساد في أخلاق العباد.
43-وقد سمى ابن خلدون ذلك بفقدان معاني الإنسانية الناتح عن التربية والسياسة المستبدتين والفاسدتين اللتين تفقدان الإنسان مكارم الأخلاق.
44-بعبارة وجيزة: التحديثي والتأصيلي كلاهما منافق “يقولون ما لا يفعلون“. فمنطق من يتظاهرون بالحرص التنويري هو اسمعوني ولا تنظروا لعملي ومن يتظاهرون منطقهم بالمثل الشعبي: اعمل الفرض وانقب الأرض.
45-سر العقم التحديثي والتأصيلي منهما هو نوع من الفساد الوجودي الذي جوف الكيان الخلقي للجماعة فأفرغه من كثافة قيمية. وما يجري من فوضى يشبه التطهير المقدس لغسل الأجساد من هذا الفساد.
ما ثمرة تفكيك عقد السنة النقدي لعلاجها؟ – الجزء الرابع – أبو يعرب المرزوقي