1-بقي من مسائلنا الخمس:1-النخب 2-الانحطاطان 3-المؤسسات 4-العقمان 5-الاستئناف ثلاثة بعد بحثنا في الأخيرتين. فلنعالج اليوم مشكل المؤسسات علاجا يركز على قضيتين: الأولى أن منظومتها هي الدولة والثانية أن خرافة وجود جماعة من دون دولة من أوهام القائلين بالتولد الطبيعي أو بالنشأة عن عدم.
2-خلافا لما يتوهمه أصحاب النظرة التاريخانية فإن الجماعة البشرية في أي مرحلة من مراحل تاريخها لا تجتمع إلا لعلل يقتضيها كيانها ومحيطها. ومن ثم فلا وجود للحظة من التاريخ خالية من منظومة مؤسسات تؤدي وظائف الدولة.
3-والكيان العضوي والنفسي على الأقل من حيث التشريح والوظائف مشترك بين جميع البشر–على الأقل من بداية التاريخ أي المعلوم من تاريخ البشر. ولا نحتاج إلى أكثر من ذلك منطلقا من الإنسان لفهم نظرية الدولة.
4-والمحيط مهما اختلف فهو إلى حد الآن على الأقل ينتسب إلى المعمورة بيابسهما وبحارها وفي إطار تقدر الحياة العضوية التكيف معه وتلك وحدته: أي إنه يوفر الشروط الضرورية للحياة عامة ولحياة الإنسان خاصة. وهذا كاف للشرط الثاني لفهم نظرية الدولة.
5-وهذان المقومان اللذان تشترك فيهما الجماعات خلال المعلوم من التاريخ يمكننا من قبول مسلمتي ثورة ابن خلدون الفلسفية التي جعلته يضع علم العمران البشري والاجتماع الإنساني: المقدمة.
6-وهذا المشترك بين الجماعات يحدد مشتركا مؤسسيا شرط التعامل مع المشترك العضوي النفسي للكيان والمشترك البيئي والمعيشي للمكان خلال الزمان: ومنظومة المشترك المؤسسي هو الدولة التي توجد في الأذهان وفي الأعيان.
7-وهذا المشترك المؤسسي الذي هو منظومة من القواعد التشريعية والأجهزة التنفيذية هو ما يسمى دولة بدائية كانت أو متطورة ما ينسب التاريخانية.
8-وقد يغاظ الحداثي الذي تسكره زبيبة لو قلت له إن منظومة المؤسسات التشريعية والتنفيذية التي تؤدي هذه الوظائف حددتها سورة قريش: أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. ولا وجود لغيرهما إلا بوصفه شرطهما أو نتيجتهما.
9-هل معنى ذلك أنه لا يوجد تطور وتقدم؟ هذا هو مربط الفرس: طبعا يوجد تطور وتقدم. لكنه يتعلق بشروط “أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” وبنتائجهما. كلا: فمنظومة المؤسسات أو الدولة تتطور بأن تحقق شروط الإطعام وشروط الأمن بصورة أفضل.
10-ويكون ذلك باستكمال البناء المؤسسي الأكثر نجاعة والمتعلق بشروط الوظيفتين وبنتائجهما في المستويين المادي والرمزي: دور التربية والمعرفة. فالدولة بهذا المعنى يسميها صورة العمران وتتألف عنده من الحكم والتربية لضمان شروط الحماية (آمنهم من خوف) والرعاية (وأطعمهم من جوع). وكل ما عداهما إما من شروطهما أو من نتائجهما.
11-والخوف مضاعف: من الآخر في الداخل وفي الخارج (الأمن والدفاع) ومن المحيط الداخلي والخارجي (الطب والكن). والجوع مضاعف الغذاء: البدني والنفسي.
12-وهكذا توصلنا إلى تحديد المؤسسات التي تتألف منها كل دولة مهما كانت بدائية أو متطورة وعرفناها بمصطلح ابن خلدون بكونها صورة العمران التي ترعى مادة العمران وهما الإنتاج المادي والرمزي وتبادلهما والتواصل حولهما لتحقيق وظيفتين هما الرعاية والحماية.
13-ولصورة العمران نوعان من الوجود: منظومة قواعد أو قوانين أو تقاليد ومنظومة هيئات وأجراءات أو أجهزة تسهر على تطبيق القوانين والقواعد والتقاليد. وذانك هما صنفا المؤسسات في كل دولة (نص إدارة وجهاز إداري).
14-وما قد يغيظ الحداثيين أكثر هو أننا اكتشفنا أن الشكل التام لهذه الصورة نجده في مفهوم الدولة كما تحددت في الحضارة العربية الإسلامية بصورة واعية وعيا بلغ درجة التنظير الفلسفي (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون).
15-وسنعرض هذه الحقيقة هنا حتى يتبين أن المتكلمين على الدولة الإسلامية وجودا وعدما أو حتى إمكانا وامتناعا يخرفون: ولا فخر في ذلك لأن الأمر كوني والقرآن يعتبره فطريا يذكر به التنزيل ولا يؤسسه.
16-ولنقدم معلومتين تاريخيتين تبينان القفزة النوعية التي حدثت فجعلت الشكل الأتم يصبح واعيا –ونحن قلنا إنه موجود دائما –في اللحظة الإسلامية.
17-معلومة فلسفية : اسم الدولة اليوناني واللاتيني مشتق من المدينة وللجماعة في الفلسفة السياسية ثلاثة مستويات هي : الأسرة والقرية والمدينة ولم يرد فيها المستوى الرابع (الإنسانية) فضلا عن الخامس (الكون).
18-والسؤال هو ما الذي جعل الفلسفة الإسلامية تضيف مستوى رابعا هو الجماعة الكلية أو الإنسانية (الفارابي ومن بعده)؟ وما دلالة هذه الإضافة حتى وإن بقيت فلسفيا دون المستوى الخامس القرآني (رعاية الأرض : ضد الفساد في الأرض)؟
19-لا يمكن أن تكون سياسية فحسب لأن الامبراطوريات لا يجهلها اليونان والرومان. فلم لم تتوسع نظرية الدولة عندهم إلى ما يشمل البشرية كلها وبقيت قومية من حيث الفكر حتى وإن تجاوزتها من حيث الفعل الاستعماري؟
20-وكان يمكن أن أهتم بالدلالة الدينية لهذا التوسع (النساء 1) لكن ما يعنيني هو الدلالة الفلسفية التي تنتج عن فهم كونية الدولة لكونية علل وجودها القابلة للرد إلى علتين هما الجوع والخوف وما يترتب عليهما شوارط ومشروطات.
21-ومعنى ذلك أن الدولة ليست ظاهرة قومية تخص جماعة محددة بل هي ظاهرة عالمية من البداية لأنها أداة في حسم الصراع الذي موضوعه حيازة مجال حيوي بسبب الجوع والخوف اللذين لهما وجودان: داخلي وخارجي.
22-المعلومة الثانية دينية وبصورة أدق قرآنية: (وهي لم تصبح فلسفية إلا في محاولة كنطية حول السلم العالمية): كيف نعالج قضية الوجه الخارجي من الجوع والخوف اي الصراع بين الدول الناتج عن التنافس حول اسباب علاجهما ؟
23-لهذا اعتبرت الوعي بكلية بنية الدولة لم يتحقق إلا بفضل ثورة القرآن الكريم التي لم يدركها أصحاب ويل للمصلين: كيف نعالج الجوع والخوف علاجا يتجاوز التاريخ الطبيعي؟ فثورته تتمثل في شرطين واضحين تتجاوز بهما الدولة والقانون المستوى القومي إلى المستوى الدولي.
24-الشرط الأول حددته الآية الأولى من النساء: الأخوة البشرية (من نفس واحدة). الثاني حددته الآية الثالثة عشرة من الحجرات (لا تفاضل إلا بالتقوى). وفي ذلك يكمن سر الموقف الهيجلي من دولة الإسلام.
25-وهيجل يبدو محقا في زمانه إذ لم يدر في خلده ما سيحصل في العولمة: وحكمه هذا يشمل الموقف الكنطي الذي يتكلم على السلم العالمية والقانون الدولي. أعني ضمنا ما يؤسس له المعنى الوارد في هذين الشرطين.
26-ذلك أن الأخوة البشرية وحصر التفاضل في التقوى يعني التحرر من كل تمييز عنصري وطبقي واعتبار القانون فوق الجميع داخل الجماعة وبين الجماعات.
27-أعلم أن عبيد الموضة لهثا وراء كليشهات الجرائد الفلسفية لن يقنعهم هذا الكلام لأنهم لا يتدبرون بل كل ما يعنيهم النتوء بوهم قتل الأب.
28-فهل أيسر من البروز والتحول إلى نجم بالتحقير من الإسلام والمسلمين؟وكيف يجلبوا الانتباه إليهم حتى يدللهم من يحتاج إليهم معاول تهديم؟ وحقدهم على من يفضح أكاذيبهم يولد لديهم حنقا مرضيا يتحول بالتدريج إلى مازوشية بسبب لامبالاة فاضحهم بهم.
29-بعد المعلومتين فلنحدد المؤسسات التي تتكون منها الدولة لتحقيق هاتين الوظيفتين حصرا مطلقا لا يمكن أن يتخلف أي منها في أي مرحلة من مراحل تطور الجماعات البشرية: التغلب على الجوع بالرعاية وعلى الخوف بالحماية.
30-مشكل التاريخانيين أنهم ينشغلون بالأعضاء شديدة التغير وينسون الوظائف شديدة الثبات تماما كما هي الحال في التاريخ الطبيعي للظاهرات الحية. والفرق أن التطور ذاتي في البايولوجيا وهو أجنبي في التكنولوجيا : الإنسان من خارج الآلات هو الذي يطورها.
31-الدولة شخص اعتباري وإن لم يكن كائنا عضويا فهو موضوع علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء. وذلك هو ما ننوي القيام به لمعرفة أدواء حضارتنا.
32-لو رددت مثل غيري كلمة دولة وكأنها أمر بين بنفسه فأدعي أنه موجود أو معدوم في الإسلام أو أدعي أنه ممكن أو مستحيل لقبلت بالثرثرة مثلهم.
33-ولولا هذا الفرق لامتنع اكتشاف ما يسمى بنظرية التطور في التاريخ الطبيعي للكائنات الحية: وحدة الوظيفة تتجاوز اختلاف الأعضاء الشكلي ما يمكن من المقارنة وتحديد مناط التطور.
34-وبهذا أمكن اكتشاف التوالي في سلسلة التطور العضوي لأداء نفس الوظيفة بافضل انجاز وأقل كلفة. وهذا القانون العضوي ينطبق على المؤسسات عامة والدولة التي هي منظومتها خاصة.
35-المؤسسات ليست عضوية.لكن التكنولوجيا في تطورها تشبه البايولوجيا: كلتاهما تطور الأعضاء لأداء نفس الوظيفة علة الجهاز آليا كان أو عضويا. (قارن مثلا تطور السيارة بمنظور العلاقة بين الوظيفة والأعضاء أي تطور أجهزتها لأداء الوظيفة).
36-حتى نتقدم فنقوم بالتشريح لجهاز الدولة قياسا على الجهاز العضوي فلنقل إن الدولة جهاز آلي من صنع الجماعة لحاجات عضوية: الجوع والخوف.
37-وعلاج الجوع والخوف المباشرين يسميه ابن خلدون التعاون لسد الحاجات وغير المباشرين أي الشبع والاطمئنان بعد سدهما يسميه الأنس بالعشير. ويرتب الأمر بمعيار تصنيف المقاصد (من أصول الفقه لمعاصره الشاطبي مؤسس النظرية).
38-والعلاج الأول هو وظيفة الدولة الأساسية والتي تمثل الحد الأدنى لوجود الجماعة وهو مفهوم العمران البشري (الضروري والحاجي بمنطق المقاصد). ولا بد منه حتى في حالات الحروب.
39-العلاج الثاني لا يكون إلا في حالة الدعة والاطمئنان اي بعد زوال الخطرين المتمثلين في الجوع والخوف ويسميه ابن خلدون الاجتماع الإنساني (الكمالي بمنطق المقاصد).
40-ولهذا سمى علمه “علم العمران البشري + الاجتماع الإنساني“.قابل بين العمران والاجتماع وقابل بين البشري والإنساني.والانتباه لذلك شرط فهمه.
41-التشريح: وظائف الحماية هي:داخليا القضاء والأمن.خارجيا: الدبلوماسية والدفاع. وحدة الكل: نظام الاستعلام والإعلام السياسي (يسمى البريد في الدولة الإسلامية).
42-وظائف الرعاية: تكوينا: التربية والمجتمع المدني (يسمى الأوقاف في الدولة الإسلامية) وتموينا: الثقافة والاقتصاد. وحدة الكل نظام الاستعلام والإعلام العلمي.
43-وهذه الوظائف العشر هي أدوات الدولة التي تسد الحاجات فتمكن من الأنس بالعشير بلغة ابن خلدون علامة العرب والإنسانية بلا منازع. فكيف تعمل؟
44-ننتقل من التشريـح إلى وظائف الأعضاء: وهنا مرة أخرى سنستعمل علامة آخر لتحديد ما سكت عنه ابن خلدون رغم أنه يعتمده في تحديد فاعلية الدولة
45-والإشارة إلى العلامة الثانية سيكون من أهم اسباب البلوغ بإغاضة الحداثيين إلى أقصاها: ذلك أني أقصد مبدئي شيخ الإسلام ابن يتيمة الحراني.
46-ومبدآه لم يخترعهما بل اكتفى بتطبيقهما مستمدا إياهما من القرآن الكريم: فعليهما بنى نظرية الدولة أو الحكم الإسلامي أو السياسة الشرعية.
47-إنهما: أداء الأمانة والحكم بالعدل وقد وردا في النساء (مرة أخرى) الآية 58: 1-الحاكم مؤتمن على أمر ليس هو صاحبه 2-وهو الحكم بالعدل.
48-إذا جمعنا نحصل على: الدولة شخص اعتباري ذو كيان متعض ببنية تؤدي الوظائف العشر. وهذه البنية يؤتمن عليها قيمون للحكم بالعدل في الجماعة وبين الجماعات.
49-لكن ما الأمر الذي تعالجه الدولة أمانة وعدلا لتحقق“الإطعام من جوع والأمن من خوف“في العمران فتحقق الإشباع والاطمئنان في الاجتماع ؟
50-والجواب عن هذا السؤال يفترض جوابا عن سؤال ابعد غورا منه: من يكون أمينا وعادلا في اداء هذه الوظائف ومن يعينه ويراقبه ويحاسبه إن أخل؟
51-ابن خلدون وابن تيمية وقبلهما حجة الإسلام أجابوا عن هذا السؤال جوابا شافيا عرضناه سابقا بعيد التعليق على عبد الرازق وحلاق فلا عودة.
52-ما تعالجه الدولة داخلي وخارجي ويسميه ابن خلدون شروط التعاون والتبادل والتعاوض لسد الحاجات (العمران) والتآمن للأنس بالعشير (الاجتماع).
53-ويغلب على العمران البدوي المستوى الأول أي التعاون على سد الحاجات لأن الأمن والغذاء يمثلان الهم الأساسي: سيطرة الطبيعة على شروط العيش.
54-ويغلب على العمران الحضري المستوى الثاني أي الأنس بالعشير لأن الأمن والغذاء أصبح فرض كفاية لا فرض عين :سيطرة الثقافة والانتاج الفكري.
55-ومعنى ذلك أن الجماعة الكاملة هي التي تتألف من المستويين: والمدينة في الحقيقة –الحاضرة– تجمع دائما بين المستويين في أقصى حد يبلغانه.
56-فالأحياء الراقية يغلب عليها المستوى الثاني والأحياء الشعبية يغلب عليها المستوى الأول. إلا المدن العربية فأحياؤها الراقية ما تزال بدوية.
57-وليس في ذلك تحقير من العرب لأنه لا ينبني على نظرة عنصرية بل لأن الكسر التاريخي جعل القديم لم يتجدد والحديث لم يتعتق بسبب الانحطاطين.
58-وحتى المدن العربية التي تتفوق على مدن الغرب من حيث الحداثة العمرانية والتجهيزات في بعض بلاد الخليج فلا عربي فيها إلا بعض سكانها.
59-بناتها فنيا وعملتها ليسوا ثمرة تطور طبيعي للجماعة التي هي مدنها بل هي مستوردة ككل ما يحيط بالإنسان دون أن يكون من إنتاج فكره أو يده.
60-والمدن العتيقة التي تمثلها حواضر الأمة خلال تاريخها فقدت طابعها وأهملت وتبدت بأن صارت في أفضل الحالات تراثـا للسواح وليست معالم حية.
61-أعلم أن عاشقي الكذب عن النفس لن يعجبهم كلامي. ولا يهمني رأيهم: فما أكتبه ليس لنيل الإعجاب ولا للهروب من الاستغراب بل لتشخيص الأدواء.
62-من اليسير ببعض الدهاء والرياء نيل الاعجاب والإطراء. رضا الضمير أهم من العدد الغفير عملا بقول الفارابي: فالعامة لا تعجب إلا بمن كان من جنسهم وفاقهم سطحية وعامية.
63-وفي الحقيقة فهذا المبدأ يفسر قانون الانتخاب والمستويات الحضارية في آن: فما لا يفسر بالعنصر والطبقة يفسر بالعلاقة بين العضو والوظيفة.
64-المدن العربية الحديثة لم تتعتق والقديمة لم تتطور والسلبان حددا الهوة الناتجة عن الانحطاطين وما ولداه من كاريكاتوري في حياتنا الروحية.
65-عتاقة ميتة وحداثة مادية ينتجان حربا أهلية بين كاريكاتورين من تأصيل وتحديث زائفين يستعيضان عن حقيقة الأصيل والحديث ببليد التقليد. وهذه المسألة هي موضوع الجزء الموالي إن شاء الله.
ما ثمرة تفكيك عقد السنة النقدي لعلاجها؟ – الجزء الخامس – أبو يعرب المرزوقي