ملاحظة تمهيدية:
لما كتبت “مآلات الاتفاقية النووية” بين الغرب وإيران لم أنطلق مما تقوله إيران ولا من تصريحات الغرب ولا خاصة من الخبط التحليلي للخبراء الذين يتساقطون على الفضائيات بكلام غريب وعجيب. فإذا كانوا فيه مصدقين لأنفسهم فهم أبعد الناس عن فهم الاسترايتجيا. وإن كانوا يخادعون الأمة فهم عملاء إيران دون أدنى شك: فمن يصف هزيمتها الكبرى بأنها انتصار لا يمكن إلا أن يكون بوقا للملالي (فسيادتها أصبحت منقوصة إلى حد كبير مثل العراق بعد اخراجه من الكويت فضلا عن منطق الانهيار الداخلي كما حدث للاتحاد السوفياتي بسياسة التعايش).
لذلك رأيت قبل أن أواصل الكلام في ثمرة تحليلي للمعادلة المفهومات الأساسية التي تحدد وضع الأمة الحالي فتح قوسين واستطراد طويل حول مستويات الفعل في التاريخ. فكل التحليلات التي تسمعها من المعلقين العرب على الأحداث الجارية اليوم سبب خبطها أن أصحابها يتصورون كل شيء محكوما بعصا سحرية إما لدى الأعداء أو لدى عملائهم فيغفلوا المحددات الموضوعية التي ينبغي اعتمادها لتحديد شروط المعركة وحظوظ النصر فيها لمن تتوفر لديه الشروط الموضوعية للغلبة.
المحاولة
1-النقلة من الجزء الثاني من ثمرة التفكيك تقتضي حل معضلتي فلسفة الفاعلية التاريخية: علاقة نوعي الفعل بمعيار الكم وعلاقة نوعيه بمعيار الكيف.
2-فبمعيار الكم يقابل الناس عادة بين التاريخ الكبير (التفسير بالعلل الموضوعية) والتاريخ الصغير (التفسير بالعلل الذاتية: مثل تسريبات مجاهد). والأول يتعلق بالتفسير العلمي لأحداث التاريخ والثاني بتفسيرها النفسي والمبالغة في تأثير النوايا والقصود.
3-التفسير العلمي بالأسباب الموضوعية والتفسير النفسي بقصود الأفراد ونواياهم وهو الغالب على عبث المبالغين في اسرار الدوافع الدنيا من النفس. وبعبارة هيجل فكرة فـ“خادم الغرف لا يفهم معنى البطولة“. والبطولة سبب موضوعي حتى وإن بدت نفسية. فالبطل لا يفعل بشخصه بل بصورة البطولة في الذهنيات.
4-وقد ضرب ابن خلدون مثالا عن الفرق في مسألة نكبة البرامكة. فالتفسير السائد بالتاريخ الصغير يعتمد على رد الرشيد على قصة الحب بين أحد البرامكة واخته. وجل التاريخ العربي اليوم يفسر بالنفسيات وغالبا ما يكون فيه للعلاقة بالمرأة الدور الأول.
5-لكن ابن خلدون يكذب القصة دون مزيد ويفسر الأمر بسبب سياسي وشعوبي: تسلط البرامكة على الدولة وعودة التفريس بعد محاولة المؤسس القضاء عليه من البداية دون أن ينجح.
6-أما بمعيار الكيف فالمقابلة هي بين القصير والمديد من التاريخ. وهنا كذلك يأتي التنوير الخلدوني. فالمديد من التاريخ عماده التطور البطيء. وكلا المفهومين من إبداع ابن خلدون باعتراف أحد كبار مدرسة الحوليات التاريخية (برودال).
7-والتطور البطيء يتعلق بالإنتاج المادي وبالإنتاج الرمزي وبتفاعلهما وبأثره في الأخلاق الموضوعية أي في تطور الذهنيات التي تمثل مرجعية المناخ العام لدلالة الأشياء والأفعال.
8-والمثال هو أن الإنسان لا يمكن أن يقفز على عاملي تطور الإنتاح المادي والرمزي وشروطهما لتحقيق ما يحلم به. فإيقاع التاريخ يغلب عليه التغير الـموضوعي الـمادي والرمزي اللذين لا يخضعان للأماني.
9-وهذه المستويات الأربعة تتأصل في المستوى الذي يعتبر ابن خلدون نفسه قد اكتشفه وأسس عليه فلسفة التاريخ والعلوم الإنسانية: ثورة المقدمة.
10-فيم تتمثل ثورة المقدمة التي يهملها الكثير من قرائه للاقتصار على طلب غيره فيه (مدى ماركسيته أو ماديته أو كونتيته إلخ… من المطالب السخيفة)؟ إنها النقلة الثورية من “ما بعد الطبيعة” تجاوزا لغشاوة الرؤية اليونانية إلى “مابعد التاريخ” لتأسيس فهم أصيل للرؤية القرآنية.
11-ما معنى ذلك؟ ما بعد الطبيعة لا يمكن أن تكون أساسا قبليا للمعنى حتى وإن كانت أساس بعديا للمبنى لأن الإنسان لا يتعامل مع الطبيعة مباشرة بل من خلال موقف تأويلي لظاهراتها ومفعولها.
12-وهذا الموقف التأويلي من الطبيعة ومفعولها الفعلي والوهمي في الإنسان ينتج عن مناخ روحي معين أو عن ذهنية هي التي تحدد المعنى والدلالة. ولا شيء يمكن أن يكون بمعزل عن هذا المناخ: فبين الإنسان والطبيعة يوجد ما يشبه النزال الدائم مع حشية رمزية هي بنية الموقف التأويلي للجماعة أو مرجعيتها الروحية.
13-وهذا يعني أن العلوم الإنسانية متقدمة على العلوم الطبيعية في فهم الوجود والتاريخ تأويليا حتى وإن تقدمت هذه على تلك تحليليا للتعامل معه فنيا وتقنيا. والتقدم التأويلي مؤسس لكل تحليل.
14-من هنا أصبح “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني” موضوع المقدمة شرطا في فهم أي ميتافيزيقا. ولهذا كانت بنية الباب الأول منها مزدوجة تجمع بين العامل الطبيعي والعامل الرمزي وبيان أثرهما في العمران.
15-فبعد الجغرافيا الطبيعية ووصف المناخ وصل ابن خلدون تأثيرهما المادي في العمران بدور الذهنية السحرية والخرافية والفنون البدائية اي بدور العامل الرمزي ومنطقه في العمرانين البدوي والحضري.
16-ومنطق العمرانين البدوي والحضري هو في آن منطق التاريخ المديد المتعلق بالتطور البطيء للانتاج المادي والرمزي وما ينتج عنه في الذهنيات التي لا تتغير إلا ببطء وموضوع المقدمة بنص ابن خلدون هو درس هذا التغير إطارا للتاريخ القصير.
17-نحتاج لهذه المقدمة في فلسفة التاريخ وعلمه قبل التقدم في دراسة ثمرات تحرير الأمة من عقدها بالتفكيك النقدي لأن المليشيات تسيطر بالجهل.
18-وجهلها لايقتصر على الفلسفة الغربية التي يمضغون كليشيهاتها بل وكذلك على الفلسفة العربية والإسلامية التي يجهلون النتائج الوخيمة لتوظيفاتها الباطنية: لا فرق عندهم بين تشويه الحقيقة لغرض سياسي ومعرفتها لذاتها.
19-سنتكلم في المسائل الأربع الباقيات (1-النخب 2-الانحطاطان 3-المؤسسات 4-العقمان) في ترتيب معكوس بعد بدئنا بالاستئناف و سنطلب الحقيقة دون توظيف لأن من أهم شروط الفاعلية المعرفة الموضوعية.
20-ولا يعني ذلك أننا ضد توظيف العلم. فهذا لا يقول به عاقل بل المطلوب هو التوظيف الخير لا الشرير: فالهدف هو تحرير الأمة من التحريف والعقد حتى تنتقل من رد الفعل إلى الفعل ومن المحاكاة إلى الإبداع.
21-وهذا هو ما رمزنا إليه بالمرحلة المكية التي تكون الرجال وتربي الجماعة. لكن المرحلة الغاية هي المدنية التي تبني المؤسسات والدولة: لا بد من استعمال العلم لتحقيق شروط الاستئناف موضوع الجزء الثاني.
22-تحريف الليبرالية إذا فهمت حق الفهم لا تعادي الإسلام إلا بإطلاقها في المجال الخلقي.وذلك ليبارتنيسم أي تحلل خلقي مناف للعقل والنقل.
23-فالإسلام تحرري في الاقتصاد (حرية الملكية والمبادرة) وفي السياسة (الحكم ليس حقا إلهيا) وفي العلاقات الاجتماعية (تجاوز الطبقية) دون تشجيع التواكل على الجماعة. وما يرفضه ليس الليبرالية بل الليبرتينيسم أي التحلل الخلقي (المعنى الوحيد الذي يستهوي جل ليبراليينا).
24- والإسلام لا ينافي التعددية الدينية بل هو يفرض على دولته تمكين الأقليات غير الإسلامية من ممارسة شعائرها (الأديان الاربعة التي يعترف بها: اليهودية والمسيحية والصابئية والمجوسية).
25-والإسلام لا يفرض نظام حكم ولا يعتبر الحكام رجال دين أو مقدسين إذ حتى النبي فهو يعتبره بشرا وليس قابلا للتأليه الذي هو أساس كل تحريف (آل عمران 79 وما يليها).
26-نخب الانحطاط المستورد تخلط بين هذه المعاني وتحريفها الاستعماري فتستعملهما أسلحة لطيفة بتأييد من القوة العنيفة لمحو ثقافة الأمة: لم أفهم ليبرالية وعلمانية غير ديموقراطية وتحالف عسكر الاستبداد والفساد.
27-فالسيسي وبشار وحفتر وصالح الذين تؤيدهم المليشيات الطائفية والعلمانية والليبرالية نكاية في أنظمة بلدانهم علمانيون وليبراليون بالدبابة. وهم مقاومون لأمريكا التي تنسق معهم التعاون الاستراتيجي لمحاربة السنة التي أصبحت بين عشية وضحاها إرهابية وتكفيرية ووهابية ورجعية إلخ.
28-في الحقيقة كلهم مثل الحوثي وجماعته. فالدعاء على امريكا والرصاص للشعب اليمني. وجميعهم كذلك خطابهم مقاوم لأمريكا وأفعالهم حرب على شروط الاستئناف ووحدة الأمة وحريتها خدمة لآل ساسان.
29-ومن يقتل ربع مليون ويشرد نصف شعبه ويستعمل كل الأسحلة وكل مليشيات الحقد على السنة أصبح هو الوطني والمقاوم للاستعمار والثوار بحق يعدون إرهابيين وتكفيريين من أصحاب المذاهب التي هي بالجوهر مصدر الإرهاب ومكفرة لكل من عداها.
30-ومن يجوع أطفال المخيمات الفلسطينية لا يمكن أن يحرر فلسطين بعد أن باع الجولان ناهيك عـمن يعتبر الغزيين إرهابيين وكل السيناويين إرهابيين أو من يقصر الوطنية على القوميين الفاشيين الذي يستعملون القومية للتغطية على الطائفية.
31-هذا هو المنطق الذي لم أستطع عليه صبرا فعزمت على المقاومة اليومية بـما في الوسع أي بالكتابة التي تساعد الشباب الثائر بالزاد المعرفي وخاصة بالرؤية الاستراتيجية التي تحقق الغايات بأقل كلفة لتجنبها الخبط.
32-ومثل هذه المهمة لا يمكن أن ينهض بها فرد مهما بذل من جهد واتصف بالإحاطة. لذلك فالمحاولات بدايات لعلها تكون فتحا لتعاون الكثير من الإرادات الخيرة. ولحسن الحظ فالتواصل مع شباب الأمة بجنسيه لم يعد يحكمه إلا إرادتهم بفضل الوحدة في الفضاء الافتراضي.
33-ولا شيء يعوض التطوع في الاجتهاد الناتج عن الإيمان بقضية. فهو نوع من الجهاد ييسر النصر في معركة القوة اللطيفة التي تحد من كلفة القوة العنيفة لأنها تضفي العقلانية على استعمالها بالحدود المجدية.
34-والأمة لا تشكو من نقص في القوة المادية عدة وعديدا. فليس النقص المادي هو ما يجعلها إلى حد الآن عاجزة عن تحقيق الغاية بل ما يحول دون نقل ما لها بالقوة إلى الفعل بتوحيد الحيزين (مكانها وزمانها) ليعودا إلى سلطانها بتحريرهما من التفتيت.
35-وتوحيد المكان (الجغرافيا) شرط للقوة المادية (الثروة) وتوحيد الزمان (التاريخ) شرط للقوة الروحية (التراث) والشرطان هما أساس الاستئناف والسيادة أي الحماية والرعاية للأمة الحرة وغير التابعة.
ما ثمرة تفكيك عقد السنة النقدي لعلاجها؟ – الجزء الثالث – أبو يعرب المرزوقي