مواصلة لتصنيف عقد السنة
1-ما الثمرة المنتظرة من تحليل المفهومات التي تتألف منها معادلة الأزمة التي تمر بها الحضارة العربية الإسلامية متعينة في مكونها السني؟ والمفهومات هي: الخلافة والأمة والهوية (ج1 و 2 و 3) والشريعة والتراث.
2-الجواب مضاعف: ذلك أن ثـمرة فعل من هذا الجنس أعني فعلا يفكك العقد والمركبات التي تعاني منها السنة ليبني الموقف الواثق من نفسه والمتحرر من رد الفعل له وجودان حتما أحدهما يكون الإنسان والثاني يؤسس أدوات عمله.
3-والوجودان مع حفظ المراتب والمقامات حددته السياسة التي اتبعها الرسول الأكرم: ويمكن أن نسمى الأول منهما الوجود المكي والثاني الوجود المدني. وكلاهما يسعى لتحقيق ما ظنه هيجل مستحيلا أي الدولة التي يتساوى فيها البشر على أساس الأخوة (النساء 1).
4-وبترجمة حديثة لهذه المعاني يمكن اعتبار الوجود المكي هادفا إلى تكوين النخب والرجال الذين سيحققون الوجود المدني أي المؤسسات التي هي أدوات تحقيق الأهداف من الرسالة الإسلامية.
5-وطبعا فقد من الله علينا بالأصلين المكي والمدني إذ هما منبع كل تاريخنا ولذلك فهما بصورة صريحة أساس المطلوب والمبني عليهما: الاستئناف الذي هو مواصلة تحقيق نفس الرسالة ومبدؤها الأساس تحقيق شروط الأخوة البشرية (النساء 1) بمعيار لا تفاضل فيه إلا بالتقوى (الحجرات 13).
6-لكن النخب ممثلة المرحلة المكية تكوينا والمرحلة المدنية تحقيقا والمؤسسات أدوات التحقيق المترجم للتكوين كلاهما يخضع لتوالي الأجيال.
7-وعندما تمر أمة من الأمم بمرحلة الانحطاط يصبح التوالي المنقطع بسبب الانحطاط بحاجة للاستئناف خاصة إذا تبع الانحطاط التشويه الاستعماري.
8-نحن إذن ننتظر من تحليلنا لعقد السنة ومركبات نقصها التي لخصناها وفككناها لتحريرها منها فأرجعناها إلى ما يحيط بـالمفهومات الخمسة من أدواء وضعية شديدة التعقيد تقف بيننا وبين الثمرة المباشرة.
9-وهذه الوضعية المعقدة تتالف من:1-الانحطاط الذاتي 2-الانحطاط المستورد 3-التأصيل المستبد 4-التحديث المستبد 5-الفوضى الروحية والأهلية.
10-وقبل أن نحلل عناصر هذه الوضعية لا بد من تصنيف النخب التي لا بد من استئناف تكوينها مع بيان معين التكوين والمؤسسات الضرورية للاستئناف.
11-سأستعمل مفهوما قد يستثير من يريدون التبسيط لظنهم أن الشعب بسيط مثهلم ولا يفهم اساسيات العقل السليم التي هي جوهر الفطرة الإنسانية.
12-وهذا المفهوم هو مفهوم التخلق بأخلاق القرآن ومن ثم الأخذ بالنزر الممكن للإنسان من صفات الكمال الإلهي أي أهلية الإنسان للاستخلاف.
13-وهذه الصفات هي الإرادة الحرة والعقل الواعي والقدرة الفعلية والحياة المبدعة والوجود المستقل وغير التابع: شرط التكليف للأفراد والجماعة.
14-وبين أن الفرد الطبيعي مكلف عينا ومن ثم فلا بد له منها جميعا. لكن الجماعة ليست فردا طبيعيا بل هي فرد معنوي. ومن ثم فتكاليفها كفائية وشروطها تتقاسمها الجماعة (وذلك أمر كوني لا تخلو منه جماعة والفرق بين الجماعات هو في طبيعة النموذج الذي يؤسس لهذه الشروط رغم أن الفطرة المشتركة تدعو إلى التخلق بأفضل الممكن).
15-لذلك فكل جماعة سوية وحرة (ليس من الغير فحسب بل ومن الإخلاد إلى الأرض أصل العبودية) تنتخب من أبنائها من يمثل هذه الصفات المستمدة من أهلية الاستخلاف ومن الأخذ من صفات الذات الإلهية وهو معنى التخلق بأخلاق القرآن: من يمثل إرادتها الحرة وعقلها الواعي وقدرتها الفاعلة وحياتها المبدعة ووجودها المستقل وغير التابع لتتصف بها كجماعة.
16-ولا يمكن تصور الجماعة مستقلة وغير تابعة إلا بهذه النخب الممثلة لما ذكرنا وبالمؤسسات التي تحقق ذلك وتحقق بفضله شروط بقاء الجماعة حرة أعني خاصة قادرة على الحماية والرعاية الذاتيتين.
17-وإذن فالنخب الممثلة للأمة هي:1-ممثـلة الإرادة للحكم السياسة2-ممثلـة العقل للابداع العلمي3-ممثلـة القدرة للابداع العملي4-ممثلـة الحياة للإبداع الذوقي5-ممثلـة الوجود للوعي بالاستقلال وعدم التبعية.
18-والمشكل كل المشكل يكمن في النخبة الخامسة التي سميناها نخبة الوجود والتي تمثل الوعي بشروط الاستقلال وعدم التبعية: إنها النخبة التي تتحدد بما به يتبين استقلال الفرد المعنوي أي الجماعة استقلالها المادي والروحي كما يتعينان في قدرتها على الحماية والرعاية الذاتيتين.
19-وهذه النخبة يتنازعها موقفان متنافيان في الظاهر ومتطابقان في الباطن وهما في الحقيقة حدا الموقف الوجودي مترجما إلى نظام حياة روحية وفكرية: إنهما الموقف الديني والوقف الفلسفي المراوحين بين الشك واليقين حول مدلول الوجود المطلق ومعناه.
20-النخب إذن خمس: ممثلة إرادة الجماعة وممثلة عقلها وممثلة قدرتها وممثلة حياتها وممثلة وجودها المستقل وغير التابع. ويتعين الاستقلال إيجابا في الابداعات التي ذكرنا وهو سلبا عدم التبعية الروحية.
21-والتنازع والتنافس بين الموقفين الفلسفي والديني ملازم لحياة الأمم الروحية وهو من جنس التقابل بين وجهي نفس العملة. إنـهما نفس العملة لكنهما وجهان للحقيقة كوجهي جانوس.
22-ولنضع الأسئلة التي علينا طلب جوابها. فسؤالنا الأول: هل النخب العربية الحالية تمثل حقا ما من المفروض أن تمثله؟ أم هل هي لا تمثل شيئا منه؟ ولا يمكن أن يكون الجواب الأول صحيحا بسبب وضعنا.
23-والسؤال الثاني: هل يمكن تفسير ذلك من دون فهم المعيقات التي يمثلها كلا الانحطاطين؟ ينتج عن السؤال السؤال الثالث: كيف نفهم حال النخب ونفسره؟
24-وعن الأسئلة الثلاثة ينتج السؤال الرابع: كيف نفهم حال النخب وعقم المؤسسات التي ينقلونها إما عن ماضينا أو عن حاضر الغرب رغم فاعليتها الذاتية في ماضينا وفي حاضر الغرب ؟ ومن الطبيعي ألا تقبل النخب هذا التشخيص.
25-وما أيسر أن يتهم المتكلم بأنه يستثني نفسه مما يشخص. لكأنه من شرط الطبيب ألا يكون مريضا بما هو مختص في علاجه. وهكذا نصل إلى السؤال الأخير: ماذا علينا أن نعمل لكي نتدارك الوضع الذي تعاني منه السنة فنعد بمنطق استراتيجية الترتيب بين المرحلة المكية والمرحلة المدنية شروط تحقيق الاستئناف الجدير بنا ؟
26-عندنا مسألتان معقدتان ونتيجان تنتجان عنهما هما مسألتان أكثر منها تعقيدا لنصل إلى مسألة الاستئناف التي هي المطلوب تحقيقه:1-النخب 2-الانحطاطان (الذاتي والمستورد) 3-المؤسسات 4-العقمان (عقم المؤسسات والنخب) 5-الاستئناف.
27-نطبق القاعدة التي ذكر بها ابن خلدون: “بداية العمل آخر الفكرة“. وبداية الفكرة هي الغاية التي هي الاستئناف. وآخرها هو النخب الذين عليهم تحقيق الغاية. وبالنخب يبدأ العمل: أي ما يناظر مرحلة مكة.
28-وهذا الترتيب منطقي: فالاستئناف يحول دونه العقمان. والعقمـان في منتج النخب والمؤسسات ومنظومتها هي الدولة. والمؤسسات يشوبها الانحطاطان. والانحطاطان في عقول النخب وفي تربيتهم.
29-وهذا الترتيب المنطقي يجعل المؤسسات هي قلب المعادلة. فبينها وبين الغاية داء هو العقم. وبيـنها وبين العاملين عليها داء هو الانحطاط. وبذلك فالعقبة مضاعفة: عقم النخب والمؤسسات وانحطاط النخب والمؤسسات.
30-والعقبة واحدة كعملة بوجهين: فبظهورها كمعلول هي عقم وبظهورها كعلـة هي انحطاط وتتعين العلة والمعلول في منتج المؤسسات بين الغاية والبداية.
31-وتيسيرا على القاريء– دون أن نعمل بمنطق دعاة التبسيط– سنعتمد تقسيم الإشكالية إلى أجزاء. اكتفينا اليوم بتحديد العناصر والخطة وتعليلهما منطقيا ثم نعود إلى أقسامها الواحد بعد الآخر.
ما ثمرة تفكيك عقد السنة النقدي لعلاجها؟ – الجزء الأول – أبو يعرب المرزوقي