ما بعد الأخلاق أصل المابعدين التاريخي والطبيعي – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الصغار أو وأد طموح الشباب وريادته

كلنا يعلم أن ابن خلدون ختم المقدمة بأرقي شيء في كل حضارة: نظرية الذوق الأدبي. وهي الفرع الأول مما سيمناه البويسيس وعلق على الهندسة فذكر بوصفها “صابون” العقل. طبعا من ينسى ما قال عن تردي الذوق في كلامه على الشعر العربي لن يفهم قصده ولن يدرك العلاقة بما نحن بصدده. فما قاله ابن خلدون عن الشعراء في عصر انحطاط الحضارة العربية الإسلامية يمكن قوله اليوم على جل النخب العربية وخاصة على من يسمون صحافيين وخبراء في التحليل السياسي الذي فضحتهم ثورة الشباب وبالأخص منهم من صاروا “علماء” في النقد الديني و”التخريف الفلسفي”. والظاهرة التي يرد إليها ابن خلدون تردي الذوق الشعري وابتعاد الأفاضل عن تعاطيه وشبه الاقتصار على الأراذل هي ظاهرة التكدي التي يمكن أن نصفها الآن بارتزاق القلم بل وحتى بمليشيات القلم في الساحة الإعلامية والـ”خبروية” في التحليل السياسي عند النخبتين دعية التحديث ودعية التأصيل. وليست ظاهرة “الذباب” بالأمر الجديد. الجديد فيها هو كمها لا كيفها وكمها علته الأصيلة في وسائل التواصل الاجتماعي الحالية. لكن كل أبناء جيلي ممن كانوا يسمعون صوت العرب ونباح الكرب يعلمون أن معارك الأنظمة العربية وطراطيرهم لا تختلف عن معارك “حارزات الحمام العربي”. فلماذا اعتبر ابن خلدون نظرية الذوق غاية الحضارة والذوق الادبي غاية الغايات؟ لعلتين: 1. من بين كل الفنون الشعر يجمع بين مقومي وظيفة الإبداع التشكيلي. فهو رسم بالمبنى والمعنى وهو موسيقى بالصوت والإيقاع وكلاهما ضاع عند الضباع ممن يسمون شعرا تخريفهم الأيديولجي السطحي. غاب عن أذهان الكسالى ممن زادهم اللساني فضلا عن المعاني لا يساوي زاد تلميذ لم يتجاوز المرحلة الابتدائية أن الخليل أسس اللسان معجمه وموسيقاه على فنين رياضيين الأول هو رياضيات التواليف بين الأصوات (معجم العين) والثاني رياضيات التواليف بين الحركات (بحور الشعر) لا على أحوال نفس الشعراء. بعض الشعارات على المقاومة وبعض الشعارات على “الوجوديات” من روبافيكا التقريب الجمهوري للمعاني الفلسفية وهذا كاف لتصبح قائد فرقة يسارية تغني بخبز أمها. بئس الشعر إذا كان هذا هو أرقى الفنون التي تعبر عن وجدان الإنسان عندما يشرئب إلى ما يتعالى على المكان والزمان ليلامس نفس الرحمان. وحتى لا أعمم فلست أنكر أنه يوجد بعض الشعراء لهم نفس شعري يمكن أن يلامس ما قصده ابن خلدون في كلامه على الشعر وفنون الادب في غاية المقدمة. لكنهم أندر من الكبريت الأحمر. وقس عليه جل الفنون العربية التي لا تقيم بمعايير الفن بل بإيديولوجية لجان الجوائز “الانتخابية” في نخاسة الشللية. لكن العلة الثانية هي الأهم: 2. الشعر هو الفن الذي لحمته وسداه هما حقيقة الإنسان. فمادته هي اللسان وصورته هي البيان وبهما يعرف الإنسان. وإذن فالشعر هو حقيقة الشعور بمعنييه: الوعي عامة أو الوجدان بمعنى الوجود والوَجد والوعي المعرفي أو الوعي بالذات من حيث هي قبالة غيرها. وكون الشعر هو غاية الشعور فهو إذن كثافة الوجود Etre وحرارة الوَجد Amour spirituel وقدرة الوِجد أو عدم الفقر Richesse وهذه المعاني الثلاثة تجتمع في مفهوم الشعيرة التي هي الشعور إزاء المطلق والتعين الفعلي للشعور في العبادة. ولذلك فلا يمكن تصور نصا دينيا خاليا من هذه المعاني وضدائدها. فضديد كثافة الوجود هو الخواء الذي تراه في من عاب عنه القرآن قول ما لا يفعل. وضديد حرارة الوجدان هو بلادة الذهن وهو ما يعيب عليه القرآن كونه أصم وأبكم وأعمى لا يذوق ولا يفهم وضديد الوَجد لهيث الكلاب وراء السراب وضديد الوِجد عبد الدرهم والدينار في عصر أرذل التجار. ولولا ما أفسدوا به معنى “الصعاليك” الذي صار مرادفا “للعضاريط” لقلت إن الفنون-كلها وليس الشعر فحسب- في حضارتنا اليوم أحوج إلى الثورة من واقعنا السياسي والاقتصادي. فكما سبق أن بينت في المحاولات السابقة لا ثورة بحق إلا إذا حصلت أولت في الإبداع الأكسيولوجي ذوقا ومعرفة. فما هي المنزلة التي تليق بالإبداع القيمي (الأكسيولوجي في آفاق العمل والشرع-الفنون- وآفاق النظر والعقد – الرياضيات) والتي يكون فيها الإنسان شبه خالق لشروط علوم التاريخ وعلوم الطبيعة التي هي تطبيقات لما يبدعه الأكسيولوجي من غايات لوجود الإنسان وأدوات لتحقيقها الفعلي في مستوييه؟ والمستويان حددهما ابن خلدون من ألأدنى إلى الأعلى فسمى الأدنى أو مجال ضرورات الكيان الإنسان بدنه “العمران البشري لسد الحاجات” وسمى الثاني أو كماليات الكيان الإنسان روحه “الاجتماع الإنسان للأنس بالعشير”. وهذا شرطه الابداع الذوقي وذات شرطه الابداع الرياضي. وتوجد مفارقة في موقف ابن خلدون في مسألة الإبداع الأكسيولوجي وهي ذات علاقة بموقفه من عنفوان الحياة الروحي رغم عنفها المادي وعنف الثقافة رغم هزالها الروحي. ويتبين ذلك في كلامه على المقابلة بين أثر الترف وأثر الشظف على قوى الإنسانية الحيوية. وبهما يحدد أعمار الدول والجماعات. فعنده أن الترف ملازم لشيخوخة الجماعة والدولة وأن الشظف ملازم لشباب الجماعة والدولة. ويعتبر شباب الجماعة والدولة أميل إلى فضائل الارستوقراطية وأن شيخوختهما أميل إلى رذائل الاخلاد إلى الارض وعبودية النزوات والغرائز والتحلل الخلقي والقيمي والضعف الحيوي في قوى الإنسان. وقد يتعجل قراء ابن خلدون فيتصورونه يتهم الفنون الجميلة بذلك لأن ازدهارها متلازم مع درجات العمران الحضري الارقى وليس مع درجات العمران البدوي الأدنى. ونفس ما يقال عن الفنون يمكن أن يقال عن العلوم. لكن هذين الحديين الأقصيين يشبهان الطفولة والشيخوخة في النموذج العضواني. لكن نظرية ابن خلدون فيها خمسة مراحل عمرية يمكن وصفها بغير لغته على النحو التالي: القلب منها هو غاية الكمال (سن الأربعين) وقبله الطفولة والكهولة الأولى وبعده الكهولة الثانية ثم أرذل العمر. براءة الطفولة وضوضاؤها وعجز الشيخوخة وفوضاها لا ينبغي أن يغالطانا في فهم المفارقة. ما يحررنا من المفارقة هو الكهولتان من ما بعد المراهقة إلى ما بعد النضوج الأربعين يعيش الإنسان والجماعة والدولة أزهى عهودها: تجمع بين العنفوان الحيوي والعطاء الحضاري وهما معيار الإيداع الأكسيولوجي في حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود. والمشكل الذي يعنيني هو التحرر من الطابع الدوري لهذه الطريقة في تصور التفاعل بين الطبيعي والثقافي لنتحرر من الصعود في التعمير بقيم الاستخلاف والهبوط في التدمير بأضدادها. ومن معتقدات المسلمين أن الأمة لا بد لها على راس كل قرن من مجدد لرمز عنفوانها أي رؤيتها الدينية وكذلك الفلسفية. ومدار الإشكال كله حول مفهوم “الترف” وهو مفهوم مركزي في القرآن وفي مقدمة ابن خلدون وحتى في فلسفة أفلاطون. فيكون العلاج هو في كيفية التحكم في الترف. وأدرى الناس بضرر الترف في تاريخ الإنسانية هو العرب. فقد أضاعوا كل فضائلهم بسبب ما حل بنخبهم وحكامهم من “لهيث الكلاب” بمصطلح القرآن. والترف يعود إلى لهيث الكلاب عندما تصبح بيئة الفن مقصورة على وحل الرذائل وهي لا تصبح كذلك إلا بسبب إخراجها من دائرة الفضائل بسبب سطحية “علماء” الدين. فلا الدين ولا الفلسفة يخرجان الإبداع الفني إذا كان ابداعا يرفع من “معاني الإنسانية” من دائرة الفضائل الروحية لأنه أساسها. وإذن فليس الإبداع الأكسيولوجي -فنونا ورياضيات-هو السبب في التردي الحضاري بمرض الترف بل هو عدم وجودهما لأن هذا الإبداع من أعسر أعمال الإنسان ولا يمكن أن يقوم به رواد الحانات ومدمني المخدرات لأنه مبني على المفهوم الرياضي والبناء التشكيلي وكلاهما خلق عن عدم للعباقرة. فليس لكل إنسان عين الرسام وأذن الموسيقار وأنف العطار ولسان الطاهي ومس اللماس. ذلك أن هذه رغم أنها مواهب إلهية لا يمكن أن تبدع إذا ظلت مواهب خاما لم يهذبها التكوين الصارم في اساس الرسم والموسيقى وذوق الانف واللسان والبشرة. وهي ثلاثتها تبلغ الذروة في فني المائدة والسرير. والتسيب الغذائي والتحلل الجنسي لا علاقة لهما بفني المائدة والسرير بل هما الدليل على فقدان هذين الفنين والنكوص إلى حياة البهائم التي يرمز إليها القرآن بعبارة يأكلون أكل الأنعام وطبعا يتلامسون تلام البهائم دون ذوق ولا خلق: الترف الذي يخصص له ابن خلدون فصلا طويلا عن الانحطاط فيعود الإشكال إلى مسألة التربية الحكم أي بعدي السياسة: وهنا نتذكر اهتمام ابن خلدون بهذه القضية ليس في عبارة “الناس على دين ملوكهم “فحسب بل في عبارة أشمل وأوسع تبدأ بالعلاقات الأسرية” الأطفال على دين آبائهم” إلى الدولة “الناس على دين ملوكهم”. استبداد التربية والحكم وفسادهما هما الداء. ولهذه العلة فإن أهم شيء يعمق هذه الظاهرة هي المستوى المتدني للآداب العربية قديمها وحديثها. فخلافا لكل الآداب نظامها مقلوب تماما. فمنطق “الواقعية الادبية السخيفة” جعلوا الأمر الواقع مثالا أعلى للأمر الواجب. ومرة أخرى فإني السينما المصرية فهمت علة ما تعاني منه مصر وكل العرب. فالصورة الغالبة على المرأة العربية أنها مستعدة-مثل نخب العرب-أن تبيع كل شيء من أجل بريق علامات الثراء لكأن المنتجين للأفلام في بلاد العرب ليس لهم غير تحويل ومشتقاته إلى فن تعميم الرذيلة وقتل الفضيلة حتى وإن نافقوا بأن جعلوا بعض البطلات تكذب فتدعي القناعة لربع ساعة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي