لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالصغار أو وأد طموح الشباب وريادته
لما علل الغزالي الحاجة إلى كتابة “تهافت الفلاسفة” وضميمته التي هي كتابه في المنطق باعتبارها شرطا في قراءته ذكر حجتين: 1. خلقية وهي التمييز بين الفلاسفة والمتشبهين بهم بمعيار العلاقة بالإيمان 2. ومعرفية وهي الخلط بين العلم وما يتوهمه أصحابه قادرا على الحسم في الماورائيات كل الأغبياء من أدعياء النخبة حائزون بامتياز على هذين الخلطين بل إن تعريفهم الدقيق هو عين ما دفع الغزالي لكتاب تهافت الفلاسفة. وحتى نستكمل تعليل الغزالي ولكن بصورة أبلغ فلنضف نظرية ابن تيمية في الأنصاف الذين يفسدون الأبدان والأديان واللسان والبلدان. وحتى نفهم هذه المعاني الاربعة نضيف إليها هم الغزالي وهو أصل هذه العلل الأربعة: فمفسدو الفرقان يجمعون بين إفساد الأبدان والأديان واللسان والبلدان لأن المتطبب والمتكلم والمتأدب والمفقه كل هؤلاء بسبب النصفية لا يفهمون أن الآثار الجانبية فيها جمعيا أشبه بمن يجهل شروط دواء كل داء. فيكون الغزالي بدافعيه قد حصر مفهوم الأنصاف التيمي في بعدي العلاقة بين البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة دراية بما وراء البصر والسمع والشم والذوق واللمس. فالأنصاف هم من يتصور الوجود قابلا للرد إلى مداركه التي هي حسية وعامية فلا يرى أن الوجود لا يرد إلى الإدراك. ومن يجهل هذه القاعدة الخلدونية -الوجد لا يرد إلى الإدراك-يتصور الفلسفة والعلم فيض خاطر فيتوهم أن كل ما يخطر بباله حقيقة ونتقبل مباشرة إلى التنفيذ خاصة إذا كان بيده سلطان ما في بلد السلطان فيه للأنذال مع غياب المحاسبة والسؤال فتكون الأمة متنامية الهزال إلى حد الزوال. وعليك أن تتخيل مثل هؤلاء العجلين مسؤولين عن في مخابر العلم الحديث. وتخيل أنهم يمرون مباشرة إلى تطبيق علوم الذرة مباشرة دون الاختبارات المخبرية فإن أول ضحايا هؤلاء الأغبياء ستكون شعوبهم التي مكنتهم من مثل هذا السلطان لفاقدي الفرقان. التجريب في تربية الأجيال أخطر من هذا المثال. والتربية اليوم ليست ما يحدث في المدارس وحدها بل كل الوجود الجماعي مدرسة خاصة في عصر التواصل الحديث. وغالبا ما يكون الممسكون بهذا النوع الثاني من التربية الفاقدة لكل زمام هو الأرذل خلقيا والأهزل معرفيا وأكثر الناس سلاطة لسان وقلة عناية بقيم الإنسان لأن الهم هو البروز بأقذر عنوان. والأدهى في ذلك كله هو أن الكثير قد يكون في ذلك على حسن نية لأنه يتصور الوجود قابلا للرد إلى الإدراك والفلسفة فيض خاطر والعلم هذر لسان وشبه بيان لا يحتكم إلى ما يؤهل فهم شروط الانقال من الأقوال إلى الأفعال أو من التصور المظنون إلى الإنجاز المضمون في كل عمل على علم. وفي هذه المحاولة سأتكلم على خمسة فنون أفسدها أصحابها فصارت من علل ما يعيشه الشباب من فوضى روحية وخلقية عطلت قدرتيهم: قدرة النظر والعقد أساس كل فكر مبدع وقدرة العلم والشرع أساس كل فعل مبدع. والفكر فعل يصور منظومات الرموز والفعل فكر يصور منظومات موضوعاته. والفنون هي: 1. الإبداع الأدبي 2. والنقد الأدبي أو فلسفة الأدب 3. الإبداع العلمي 4. النقد العلمي أو فلسفة العلم 5. النقد الأسمى أو الخلقي والروحي وبه تكون الجماعات صانعة مثلها الذاتية وعيا بمسارها الروحي والخلقي وبمراجعة دائمة في الحاضر للوصل بين الماضي والمستقبل والفن الخامس هو أصل الفنون الاربعة المتقدمة عليه. لكن الأخطر هو نظائرها السلبية التي دفعت الغزالي وابن تيمية وابن خلدون لقول ما بدأنا بالتذكير به. فالغزالي كتب التهافت لهذه العلة وابن تيمية كان عمله كله ناتجا عن علاجها وابن خلدون حسم الأمر بقولته وبنقلته إلى الإنجاز في المقدمة. فكتب في الادب ونقده وفي العلم ونقده وفي كل محاولات توظيف المباحث الدينية في النظر والعقد وفي العمل والشرع. فدرس هذه الفنون الخمسة بوصفها شروط التعمير أو بناء الأمم والدول إذا تمت بمقتضى سننها وشروط تهديم التدمير وتهديم الأمم إذا ظن أصحابها الوجود مردودا للإدراك وتجاهلوا السنن. وما كنت لأتعرض إلى هذه القضية لو لم تكن الظاهرات التي تصدى لها الغزالي وابن تيمية وابن خلدون قد عادت بصورة مطابقة تمام المطابقة لما حدث في أجيالهم وفكان نكبة على الأدب ونقده وعلى العلم ونقده وعلى الدين ومحاولات مراجعته بدعوى “العقلانية” الصبيانية لمن يتوهم الوجود مردودا لإدراكه. وسأبدأ فأسمي هذه الفنون بأسمائها: فالفن الأولان سميتهما الادب ونقده دون حصر في معناه الحالي بل هو معنى أقرب إلى معناه القديم أي الجمع بين الإبداع الفني عامة في علاقته بتاريخ الجماعة ليس في وجوده الفعلي بل في ما بين وجوده الفعلي ومثله المتخيلة في أسمى إبداعاته: بويسيس وما بعدها. فما يسمى بالوجود الفعلي للجماعات أو التاريخ الحدثي لوجودها جزء ضئيل جدا من كيانها الذي يكون فيه تاريخها الفعلي شبه “سمكة” تسبح في أقيانوس خيالها المبدع لمثلها لما تنجزه منها خلال سعي أجيالها المبدع لأحداث تاريخها. وهذا المعنى هو الذي يكاد ينعدم في لحظات الانحطاط الحضاري. وهذا الفن الأول ذو صلة حميمة بالفن الخامس والأخير أي بالعودة الدائمة على الذات في مستوى رؤاها الوجودية التي تتعين بأسلوبين عادة ما يتصورهما من يتكلم عليهم الغزال وابن تيمية وابن خلدون في تحديد دوافعهم النقدية متناقضين أعني الرؤى الدينية والرؤى الفلسفية. وعلة هذا الوهم هي رد الرؤى الدينية إلى الفن الأول ونقده بعد الحط من شأنه وظنه مقصورا على أحوال نفس الأدباء ونقادهم ورد الرؤي الفلسفية إلى الفن الثاني بعد الرفع من شأنه وظنه فوق الرؤى الدينية لتوهم المطابقة بين ما يتصورونه علما مطلقا للحقيقة والحقيقة. لكن الإبداع الفني أو الذوقي ونقده والإبداع العلمي ونقده يختلفان تماما عما يتصوره الواهمون بأن الوجود مردود إلى الإدراك وبأن الفن دون ما يسمونه “الواقع” حقيقة وأن العلم مختلف عن الفن بكونه مطابقا لما يسمونه الواقع. لكن الواقع مفهوم سيال لا يطابقه أي تصور فنيا كان أو علميا. ولولا ذلك لما وجد الدين والفلسفة. فهما في الغاية هذا الوعي الدقيق الذي قال فيه الصديق “العجز عن الإدراك إدراك”. الدين والفلسفة هو إدراك العجز عن الإدراك ومن ثم الوعي بالفاصلة اللامتناهية بين الوجود والإدراك وهو جوهر الوجدان الروحي وأساس كل الإبداع عامة. ولأسم الآن الفن الثاني ونقده أو الإبداع العلمي ونقده وسأطلق عليه الابستولوجيا بمعنى نظرية المعرفة الجامعة بين العلم نفسه من حيث هو صوغ لقوانين موضوعه وعودة على ذاته لصوغ قوانين القوانين أو درجة ثانية من المعرفة موضوعها المعرفة ذاته من حيث هو موضوع من بين الموضوعات. وإذا كنا سمينا الفن الأول ونقده بالبوويسيس أو الإبداع عامة دون تمييز بين الجمالي والمعرفي فلأن القصد هو أن المعرفي هنا ليس من جنس المعرفة التي يكون موضوعها ليس من إبداعها بل هو مثيل الادب وكل الفنون يبدع موضوعه وذاته ومن هنا فالرياضيات هي من الوويسيس. والقصد أن البويسيس هي الابداع الرمزي عامة ومنه الفنون الجميلة والفنون الرياضية والثانية شرط الأولى من حيث المعايير المعرفية والأولى شرط الثانية من حيث “الخلق عن عدم “أو وظيفة الخيال المبدع للمرجعية أو ما يحيل عليه الرمز كمرموز ليس له وجود خارجي رغم أنه لا يمكن تصور أي موجود بدونه. وطبعا بعد إبداعه أو إبداع التصورات التي تمكن من بنائه فهو يصبح ذا وجود خارجي يفرض أحكامه الناتجة عن تعريفات حدوده البسيطة ومبادئه أو قوانين التوليف بينها لكأنه حروف أبجدية للغة صناعية هي شرط الابداع الفني أو الإبداع العلمي الممكن من بناء نظام لما يقوم بذاته في المكان والزمان. لكن الفن الثاني الذي سميناه ابتسمولوجيا جمعا بين العلم ونقده فهو يمكن أن نسميه ترجمة الوجود الخارجي كما يتعين في التجربة باللغة التي صنعها الفن الأول من حيث هو إبداع رياضي لا يختلف في شيء عن الإبداع الجمالي في كل الفنون وهي بدورها قابلة للرد إلى الرياضي أيا كانت مادة تشكيلها. وحتى يكون الامر واضحا فلست أعني بالنقد في الحالتين العملية التي تشبه النقد في الأدب إذا كان من غير الأدباء أنفسهم. فناقد الشعر إذا لم يكن شاعرا فلا معنى لنقده. وناقد العلم إذا لم يكن عالما لا معنى لنقده. الفنان المبدع والرياضي المبدع لا يكون مبدعا من دون نقده الذاتي لعمله. فالفن ونقده والعلم ونقده بمستواهما أي الإبداع الجمالي والإبداع الرياضي يلتقيان مع الرؤية الدينية والصدق الوجداني للإبداع الفني والرؤية الفلسفية والصدق العقلاني للإبداع الرياضي. والخلقي أصلهما وأصل تعينهما في قيم حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود. والأمر هو كذلك لأن المبدع في الفن وفي الرياضيات لا يمكن أن يبدع ما يبدع من دون أن يتقدم على إبداعه فنه أو رياضته ابداع معاييرهما وقوانينهما إذ إن ما به تتحقق الأباديع هي قوانين الخلق عن عدم نفسه. وحتى نفهم ذلك فلنقارن الإبداع الأدبي بالتاريخ والإبداع الرياضي بالفيزياء. فلا يمكن تصور علم التاريخ من دون تصوره إبداعا أدبيا مطبقا. ولا يمكن تصور علم الفيزياء من دون تصورها إبداعا رياضيا مطبقا. فالمؤرخ لا بد أن يفرض أن احداث التاريخ ذات نظام شبيه بأحداث الأباديع الأدبية التي تحدد بنى الممكن في الشبكة الرمزية ثم هو يطبقها على الشبكة الفعلية في الحاصل. ونفس الشيء بالنسبة إلى الفيزيائي. من دون أن يعتبر وقائع الطبيعة ذات نظام قابل للتجربة بلغة الرياضيات لا يمكنه أن يكتشف قوانينها أو اسرار نظامها. فلكأن نظام الحاصل من التاريخ تعينات ما لنظام الممكن من أباديع الأدب ونظام الحاصل من الطبيعة تعينات ما لنظام الممكن من أباديع الرياضة. وهذه العلاقة العجيبة بين البويسيس في الإبداع الرمزي الجمالي والرياضي والتطبيقات في العالمين التاريخي والطبيعي والتي تبدو معكوسة لكأن الإنسان يبدع ما يذوقه ويعلمه من التاريخ والطبيعة وسيطا بين ما هما في إدراكه وما هما في ما ليس مما هو فيه أو الوجود الخارجي هي معضلة الرؤيتين.