لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله ما الذوق؟
حاولت أن أفهم علة تسمية إدراك الجمال بحاسة الذوق في حين أن الجمال لا يدرك به بل بحاستين دون سواهما وحصرا فهيما هما: حاسة البصر وحاسة السمع؟ وقد بينت أن إدراك الجمال مهما جردناه يبقى ليس بمعنى توسط الحواس فيه لأن ذلك ضروري حتى للعلم بل بمعنى أنه بالجوهر شعور يصحب هذين الحاستين. فهو يصحب السمع الذي يدرك نظام الزمان والصوت الموزع عليه ويصحب نظام المكان والشكل الموزع عليه. اللسان للأول والألوان يزيدان تحييزه الثقافي. ومعنى ذلك أن إدراك نظام الزمان بتوزيع الصوت عليه وإدراك المكان وتوزيع الشكل عليه هما المستوى الكوني من الجمال الأبسط والأبلغ والأكثر كونية. لكنهما يتحيزان ثقافيا أكثر فيتمايزان بحسب الثقافات والعصور في نفس الثقافة بإضافة اللسان للأول والألوان للثاني بإضافة معان أكثر تعينا وخصوصية. فضم اللسان لنظام الزمان بتوزيع الصوت يجعله معبرا عن قيم قد لا تكون كونية بحق بل خاصة بثقافة فيجعله غناء وليس موسيقى فيطغى الخاص على العام. وضم اللون لنظام المكان بتوزيع الشكل يجعله معبرا عن قيم قد لا تكون كونية بحق بل خاصة بثقافة فيجعل الرسم إمضاءها فيطغى الخاص على العام كذلك. وبهذا المعنى فأول ضم للسان في الموسيقى يحيزها في الزمان هو تحويل الزمان إلى تاريخ أو أيام الجماعة وهو بالأساس غناء أو أناشيد دراما حياتها. وأول ضم للألوان في الرسم يحيزها في المكان هو تحويل المكان إلى جغرافيا أو أوطان الجماعة وهو بالأساس عمران الجماعة ومواضع منازلها وتجاورها. فتنقلب العلاقة: أرخنة الزمان بـ”ايام” الجماعة الغنائية هي أصل فن نظامه الموسيقى وجغرفة المكان بتنازلها العمرانية هي أصل فن نظامه الرسمي. فالإدراك الحسي مصحوب بأمر جمالي هو الذي ينتقل بعلمية تجريد كونية تحاكي تحويل الزمان إلى تاريخ باللسان وتحويل المكان إلى جغرافيا بالألوان. وهذا الأمر الجمالي يسمى ذوقا. فلماذا سمي ذوقا وحاسة الذوق تتعلق أساس بمذاق المأكولات وليس المسموعات ولا المرئيات. ما العلة؟ جواب فرضي طبعا. وللجواب الفرضي الذي أقدمه عدة مستويات كلها فرضية لكنها مبنية على خصائص الإدراك الحسي وعلاقته بمسافة الجوار مع الموضوعات التي تدركها. وهذا المستوى الأول يغلب عليه وصف كليات هذه العلاقة ويقل فيه بعد الافتراض لأن ما اعتمد عليه فيه لا يشككك فيه أحد إذا كانت حواسه سليمة بحق. فبمعيار البعد والقرب من موضوع الحواس: يأتي البصر الأول يليه السمع يليه الشم يليه الذوق وفيها جميعا لا بد من اللمس الذي هو شرطها جميعا. فموضوع البصر عندما يتباعد يبقى مدركا من أبعد مسافة يليه السمع يليه الشم يليه الذوق وفيها كما أسلفت لا بد من اللمس ليحصل إدراك الموضوع. وشرط السلامة علتها أن هذا القانون لا يصح على الاعمش ولا على ثقيل السمع ولا على ضعيف الشم ولا على قليل الذوق أو ثقيل الجلد فلا يشعر بالملموس. أما المستوى الثاني من الجواب الذي يتجاوز الترتيب بالمسافة فأمران مستنتجان من كلام القرآن على الحواس: 1. فالحواس قد تعمل كحواس دون فائدتها. 2. والبصر قد يعمل دون فائدته. فماذا غاب؟ البصيرة. وهي إذن شرط فائدته. فقست عليه السميعة والشميمة والذويقة واللميسة شروط فائدتها. وسميتها حوادس. فصار للإنسان خمس حواس بالمعنى المعلوم شروط فائدتها سواء كان معرفية أو ذوقية وهي خمس حوادس: البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة. ولما كانت بصيرة مشتقة من بصير صيغة مبالغة من بصر فإن هذه الحواس الخمسة على وزنها وتدل على قدرة إضافية من جنس ما يفوق به العليم العالم. وهذه الإضافة ليست مكتسبة مثلها مثل الحواس. الحوادس قوة إضافية في الحوادس تزيد وتنقص مثل الحواس في التلقي العادي لكنها اصطفاء في الإبداع. أشار الغزالي إلى الاحساس بجمال الموسيقي والشعري وقاسه على الإدراك الديني في المشكاة ليبين أن الإدراك الحسي المشترك متراتب وليس متساويا. وهذا لا يقتصر على إدراك الجمال المصاحب للحس بل ولإدراك كل اصناف القيم الخمسة التي تكلمت عليها سابقا: الحقيقة والخير والجمال والجهة والمطلق. جميع البشر لهم قدر من الحوادس مع الحواس. لكن المبدعين منهم في العلم والعمل والفن والحرية والاشرئباب إلى المطلق هم أصحاب الحظ الأوفر منها. لم أصل بعد إلى علة تسمية إدراك الجمال بـ”الذوق” حتى بعد أن بينت أن الذوق مصحوب بالذويقة مثل البصر بالبصيرة والسمع بالسميعة إلخ…في البقية. وهنا أقدم على فرضية أقل وجاهة من الفرضيات السابقة: ما علاقة الذوق الفني بالذوق الغذائي؟ علاقة عضوية ببدن الذائق وعلاقة بانثروبولوجية الأكل. ألم نذكر أن أصل موسيقى أي الجماعة هو أولا غناؤها الذي ينتظم به الزمان في تحوله إلى تاريخ بمقتضى أيامها فيكون الإيقاع واللسان شرطين فيه؟ حضور اللسان في هذه العملية وحضوره في الذوق الغذائي أمر لا ينكره إلا معاند: فالأغاني ترددها الجماعة في الأفراح وفي الاتراح: أيام التاريخ. لكن حضور الألوان في عملية تشكيل المكان بالعمران لها علاقة بالغذاء كذلك ليس خلال الأكل بل خلال جمع المأكول التي تحول المكان إلى جغرافيا. فسواء نظرنا إلى توزيع البشرية في المعمورة أو توزيع جماعة منها في أرضها سنجد علاقة وطيدة بين عمرانها وشروط عيشها وخاصة الماء والغذاء. فالألوان في المأكولات من ثمرات الأرض واللسان في أغاني جامعيها وخاصة في بدايات الإنسانية قبل أن تغيب الطبائع وتحضر الصنائع من شروط العمران. فرضيتي: الأرخنة بنظام الزمان وإيقاع اللسان والجغرفة بنظام المكان وإيقاع اللسان هما مصدر استعارة “الذوق” للدلالة على حدس الجمال في الكيان. وما كنت لأضع كل هذه الفرضيات عبثا أو للبحث الفلسفي فحسب بل لفهم التلازم بين فساد الذوقين الأول (الغذاء) والثاني (الجمال) مع معاني الإنسانية؟ لماذا جعلت العلوم والأعمال الزائفة الأمة تنحط إلى قانون التاريخ الطبيعي فيفسد فيها الذوقان الغذائي والجنسي فتأكل وتلمس مع الحيوانات؟ ما الذي يجعل من يسمون “علماء” يحرمون لذائذ الحياة المشروعة والتي هي من مقومات العرفان لرب الإنسان فتصبح مجرد سد لحاجة حيوانية بلا ذوق؟ تلك هي العلة التي جعلتني أقول إن كل ما يقال عن فوائد الصوم الروحية مخالف لما يقال عما هو من شروط روحانيته: فن المائدة وخلق التآنس. فالأكل في رمضان عبادة وليس عادة. ففي هذه سد لحاجة البدن وأشغال شاقة للطباخة. وفي تلك يكون الأكل عرسا للجميع. وفيه تأنس الأسرة ببعضها. تكون المسألة في هذه الحالة تربوية وليست من كيان الشخص الذي لهذه صفاته. فرغم أنهما ليسا مكتسبتين فهما قابلتان للتهذيب بالتربية والعادة. كل هذه الفرضيات شديدة التجريد لأنها بعيدة عن العادات الفكرية لكن من يتدبرها سيدرك أنها تفسر كونية تسمية إدراك الجمال بالذوق الذي لا يدركه وقولي إن حوادس الذوق المصاحبة للحواس المدركة للوجود العيني عامة في التلقي واصطفائية في الإبداع لا يعني أن فطريتها تلغي الحاجة لتهذيبها. فذوق تلقي الجمال وذوق إبداعه كلاهما قابل للتهذيب رغم كونهما غير مكتسبتين. والمعيار في قوة الأذهان من جنس الكفاءات في الرياضة وقوة الأبدان. وقد اشتهر عن ابن تيمية القول بأن الفروق في قوة الأذهان أكثر بكثير من الفروق في قوة الابدان. وكلتا القوتين غير مكتسبة لكنها قابلة للتطوير. هل صحيح أن الحواس الثلاثة الأخرى-الشم والذوق واللمس بذاته وليس كشرط فيما عداه من الحواس-لا دور لها في حدس الجمال؟ نعم في حدسه المباشر. ذلك أنها ثلاثتها لا ترى ولا تسمع الإيقاع (اساس الموسيقى) والشكل (أساس الرسم) شرطين في كل ظاهرة جمالية. لكنها ذات دور أهم بالوساطة الحيوية. فثلاثتها لا تدرك الجمال إلا بتوسط اللذة الغذائية والجنسية. فهما من محفزات هذين الذوقين ويضفيان خصائص جمالية على ظهور الإيقاع والشكل فيهما. وبذلك يمكن القول إن جميع الحوادس المصاحبة للحواس تدرك الجمال إما مباشرة (إيقاعا وشكلا) أو بتوسط الغذاء والجنس. وهذان يحفزان الحوادس الخمسة. فالغذاء والجنس هما أهم محفزات حوادس إدراك الجمال. إدراك الجمال خمستها ولا معنى للجمال في ذوق الغذاء والجنس من دون دور الحوادس الخمسة فيهما. وعندما يغيب أحد الحوادس يكون الغذاء والجنس ناقصين فلا يصاحب الجمال اللذة فتصبح منقوصة أو لا يبقى فيها إلا ما فيها من حيواني بلا جمال. وبكل فخر اعتقد أني قد اكتشف سرا آخر بهذه الفرضيات يفهمنا منزلة الجنس خاصة والجمال البدني العبادية في القرآن الكريم وحتى في جزاء الآخرة. لكن التوسط في الغذاء والجنس يجعله في آن ذا دور بحضوره في المأكولات و”الممسوسات الجنسية” فتنقلب العلاقة ويصبح الجمال هو المحفز لفعل وسيطي. وأختم هذا البحث بالقول إن ما ذكرته ليس سر ذوق الجمال فحسب بل هو سر الإبداع بكل أصنافه الفني ثم النظري (الرياضيات) والعملي (الأخلاقيات).
الكتيب