ما الانسان؟ أو ما معنى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمِيٌ فَهُمُ لَا يَعْقِلُونَ}؟ – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله ما الانسان؟ أو ما معنى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمِيٌ فَهُمُ لَا يَعْقِلُونَ}؟

ودلالة الإدراك المتجاوز للإدراك الحسي التي من جنس البصيرة وراء البصر ليست خاصة باللسان العربي فكل الألسن فيها ما يجانسها. فكلمة “اسمع” بالفرنسية لها معنى السمع الحسي ومعنى الفهم وكلمة “أرى” لها دلالة الرؤية الحسية وإدراك المعنى إلخ.. والكلام كبث له معنيان كذلك التلفظ والإفادة. والعقل تلقيا له كذلك معنيان تلقي المعقول من الدرجة الأولى وما ورائه وغالبا ما يكون رهن الوصل بكل عناصر سياق التلقي خلال عملية التواصل الحي ولذلك فالتداول هو أعسر وجوه التواصل اللساني الحي الذي لا يعوضه أي تواصل مكتوب مهما حاول النص تضمين محددات المعنى والدلالة في المتن والتهميش لذلك فالسؤال يتعلق بما غاب لدى من يوصفون بـ{صُمٌّ بُكْمٌ عُمِيٌ فَهُمُ لَا يَعْقِلُونَ}. فما هم بفاقدي السمع ولا النطق ولا البصر ولا العقل” لكنهم يوصفون بهذه الصفات لعدم حضور المكملات السياقية للإدراكات الحسية التي يتميز بها الإنسان حتى تكون محققة لمعاني حقيقة الإنسان المتجاوزة لبعدها المادي. ما المفقود عند الأصم الذي يسمع؟ وما المفقود على لأعمى الذي يرى؟ ولماذا يكون نطقه بكما؟ وفهمه لا عقلا؟ إذا اعتبرنا أن وراء السمع سميعة ووراء البصر بصيرة فما تكون النطيقة وراء النطق والعقيلة وراء العقل؟ ألسنا نميز في النطق درجات وفي العقل مستويات؟ ما طبيعة هذا التمييز؟ بعبارة أوجز: هل يوجد عالم يمكن الخروج إليه بالطفو فوق عالم السمع والنطق وعالم البصر والعقل أي وراء العالم المقتصر القيام المادي وأثره سواء كان فينا أو حولنا أم إن الإنسان حتى عندما يجنح خياله يبقى حبيس هذا العالم وكل ما عداه ليس إلى تعويضا للوعي بما ينقصه؟ وكيف يعي بالنقص؟ هل ا لوعي بالنقص إضافي إلى الكمال النسبي فأكون مثلا أنقص من حيث الثروة من جاري الذي يملك ما أتمنى امتلاكه ولا أستطيع؟ حسن لكن جاري مائت مثلي فلماذا أعتبر موتي نقصا؟ وجاري يمرض مثلي فلماذا أتمنى ألا أمرض؟ وما الذي يجعلني أعتبر الفناء دون البقاء قيمة؟ من أين لي بمعنى الفناء والبقاء؟ والأهم من ذلك ما معنى “أعي”؟ يمكن اعتبار الميكروفون يسمع ويضخم الصوت لكن هل يعيه؟ ويمكن اعتبار آلة التسجيل تنطق بما سجلت هل تعي ما تنطق به؟ ويمكن اعتبار أي جهاز كمبيوتر “يعقل” ما يتلقاه من مدخلات إذا تمت بحسب البرمجات التي فيه فهل يعي أنه يعقل؟ المشكل هو “يعي”. هي تعني الوعاء. الكمبيوتر “وعاء” ومخ الإنسان “وعاء”. لكن الوعاء الثاني يعي والاول لا يعي. والوعاء الثاني يعي أن وعيه يفترض من هو أوعى منه ومن هو الأوعى بإطلاق. لكن الوعاء الأول لا يعي ولا يعي أنه صنيعة من يعي وأن صانعه يعي أنه صنيعة من يعي أكثر منه حتى لو نسب ذلك إلى الطبيعة لأنه يكون قد روحنها. عندما أضع وراء السمع السميعة ووراء البصر البصيرة ووراء الشم الشميمة ووراء الذوق الذويقة ووراء اللمس اللميسة فلست اعتمد المقارنة النسبية بين الاكثر قدرة على السمع مني كما يكون الامر عندما أقارن سمعي بسمع الموسيقار المحترف فأكون مجرد ثقيل السمع بل القصد معنى آخر. فيمكن أن أكون أثقل سمعا من الموسيقار لكني سميع وهو أصم. ويمكن أن أكون أعمش بصرا واقوى بصيرة من الرسام. إلخ…ومن ثم الامر لا يتعلق بفرق في قوة الإدراك الحسي بل بما يمكن أن نصطلح على تسميته البروحنة أو بما يسميه ابن خلدون معاني الإنسانية التي تفسدها التربية والحكم العنيفان. وهذا المعنى أسمى من الإبستمولوجي والاكسيولوجي المستندين إلى المقوم المادي الضروري وغير الكافي للوجود الإنساني. فالإدراك بالمعنى الذي وصفنا من دون المفقود المتعالي على الموجود طلبا للمنشود الذي وراء قيام الإنسان المادي كاف وزيادة للعلمي أداة وللقيمي العضوي غاية: الحيوان له ذلك. فالحيوان يعلم بالسمع والبصر وينطق بثا ويعقله صنيفه تلقيا (مستوى الادوات) لتحصيل الغذاء والجنس (مستوى الغايات) وهذه هي شروط القيام العضوي المشتركة بين الحيوان عامة والحيوان الإنسان خاصة. وحتى لو أضفنا الجمال والخير والجلال بالمعنى المادي فذلك لا يغير من الامر شيئا. لأن الجمال يكون في خدمة الغذاء والجنس والجلال يكون في خدمة السلطة عليهما والخير هو تحصيلهما فيكون أسمى ما في الإنسان المادي عائدا إلى ما فيه من أصل ماديته أي الغذاء والجنس: الجمال في اختيار المأكول والمنكوح والجلال في السلطان عليهما والخير في الزيادة منهما. وهذه هي أبعاد الرؤية المادية للوجود أبستمولوجيا وأكسيولوجيا. ومعنى ذلك أنه لا يوجد في الغاية عند الإنسان ما يتعالى على المرحاض نهاية الاكل والحيض والنفاس نهاية الجنس والموت نهاية الحياة. وهذه رؤية تبدو واقعية. لكن من أين يأتي اليقين بأنها هي الحقيقة وأن التي تتعالى عليها هم؟ ما الذي يجعل هذه الرؤية حقيقة وليست قابلة لأن تعتبر هي بدورها دوجم؟ ما الدليل على أن كل ما يتعالى على كيان الإنسان العضوي ينبغي أن يرد إليه رغم أننا لسنا على يقين من أمرين يفترضهما أصحاب هذه الرؤية مفروعا منهما: 1. هل نعلم فعلا حقيقة العضوي والمادي؟ 2. وهل الوجود يرد إلى الإدراك؟ ما أن نسأل هذين السؤالين حتى نتأكد من أن أصحاب هذه الرؤية رغم انتفاخ أوداجهم ودعواهم احتقار “التكتب الصفراء” كتبهم سوداء لأنهم يصادرون على المطلوب. يتوهمون أن نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة حقيقة مطلقة فيتوهمون أن الوجود مردود إلى الإدراك ومن ثم يردون كل شيء إلى المادة. فيعرفون الإنسان بكيانه العضوي: “يسمع وينطق ويرى ويعقل”. لكن القرآن يبين أن هذا التعريف يتعلق بالشرط الضروري للإنسانية لكنه ليس كافيا. فقد بينا أن كل الحيوانات تسمع وتنطق وترى وتعقل وذلك كاف للدور العضوي أي للتواصل من أجل الغذاء والجنس والحياة الدنيا المشتركة لكل حيوان. وقد أعترف للحداثي “الغالط في نفسه” بموقفه النزيه من ذاته لو تواضع فاعتبر ذلك اعترافا بأنه لا يرى في نفسه إلى كيانه العضوي الذي يرده إلى ما يتوهم نفسه قد علمه منه. لكنه يزعم أن ذلك هو الحقيقة المطلقة ويضحك ممن يؤمن بأن للإنسان منزلة أسمى وليست منزلة التعويض الفيورباخي. فيكون معنى “صم” ليس عدم السمع بل السمع الحيواني. وأبكم ليس عدم النطق بل النطق الحيواني. وعدم البصر ليس عدم الرؤية بل الرؤية الحيوانية عدم العقل ليس عدم الفهم بل الفهم الحيواني. القصد غياب السميعة والنطيقة والبصيرة والعقيلة التي تجعل العلمي والقيمي يتجاوزان العضوي إلى الروحي فرد الجمالي إلى الوظيفة العضوية يجعله جزءا من مغريات الغذاء والجنس فيفسر بهما ورد الجلالي إلى الوظيفة العضوية يجعله جزءا من مغريات السلطان الذي هو أداة أدوات المقومين الاولين للعضوي أي الغذاء والجنس مع الأبهة المصاحبة للسيطرة عليهما. وهذا هو الأفق المطلق للحياة الدنيا والمادية. لكن عندئذ ينبغي أن يتخلى صاحب هذه الرؤية عن الكلام في العدل والحرية إلخ.. لأن ذلك مناف للقانون الطبيعي كما يحدده كاليكلاس قديما واليمين المسيحي الأمريكي حديثا وكل الفاشيات والدكتاتوريات والمافيات التي تحكم العالم. فلماذا يتناقض الحداثي العربي فلجعل كلامه مثل فعله حيث هو حليفهم؟ ما حاجته إلى التقية فجعل قوله وكأنه ذو نزعة مثالية وروحية يدافع علن الحقوق والقيم وفعله ذو نزعة واقعية ومادية يحالف الفاشيات القبلية والعسكرية في الداخل وأسيادهم واسياده الذين كلفوهم غوافير وطراطير لإدارة المستعمرات التي ما تزال محميات بسبب رؤية هؤلاء الحداثيين بالتقليد؟ هل هم حقا يعادون الدين من حيث هو دين أم يعادون الإسلام دون سواه من الاديان رغم أنه ليس أحد الأديان بل هو الديني في كل دين كما يعرف نفسه ويثبت تعريفه بالتاريخ النقدي للتحريفات الدينية التي هم أجبن الناس على الكلام فيها لأن إسرائيل وإيران واليمين الغربي وكل الفاشيات تتأسس عليها؟ لم أسمع أي متشدق بنقد القرآن قال كلمة واحدة في التوراة وهي أبشع نص ديني عرفته البشرية. ولا يمكن لأحد السكوت عن بشاعتها إذا لم يكن من المؤمنين بنظرية شعب الله المختار (إسرائيل) أو بنظرية اسرة الله المختارة (إيران) ومن ثم باحتقار نفسه ومحاولة الانضمام إلى من يعتبره “جوهيم”. لذلك فلا يمكن أن يكون الحداثيون العرب وخاصة من يتشدق بنقد القرآن منهم إلا “أصم وأبكم وأعمى ولا يعقل” لأنه قرأ القرآن ويدعي نقده دون أن يكون كيانه العميق قد تزلزل بحق فأدرك أن كل تخريفه حول الحداثة دليل جهل ليس بالدين فحسب بل خاصة بالفلسفة التي يدعون الكلام باسمها. فلا يوجد فيلسوف يعتد به في تاريخ الفلسفة -وهذه ملاحظة غزالية في مقدمات التهافت-يقول بما يقول به المتشبهون بالفلاسفة -وهؤلاء هم علة كتابة التهافت-ممن يتصور أن الفلسفي من حيث الانتساب إلى حب الحكمة قابل للفصل عن الديني من حيث هو الانتساب إلى حكمة الحب.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي