مأساة التربية النظامية واللانظامية العربيتين – الفصل الخامس

ه

-الفصل الخامس –

الفصل الأخير

وصلنا الآن إلى غاية البحث بعد أن حققنا أمرين مهمين:

  1. جبر الكسر بين الماضي والحاضر من خلال بيان التواصل في الأمراض التي تعاني منها التربية في حضارتنا
  2. والتخلص من كذبة أننا كنا مبدعين بأي من علوم الملة بل كنا نقتات على الصدف والموروث دون أبداع يذكر لأن علوم الملة كلها عقيم.
    ولن يستطيع أحد اتهامي بكوني أحقر من الحضارة الإسلامية إذ ليس يمكن لأحد أن يزايد علي في محبتها وخدمتها لأن التشخيص الخاطئ غش للأمة وليس غيرة عليها. لم ننحط بالصدفة لأن التحديات التي قد نعلل بها الانحطاط هي من جنس الهجوم الجرثومي الخارجي الذي لا يتغلب إلا بسبب ضعف المناعة.
    وتحقق جبر الكسر جبرا موجبا بالوصل بين طموحات المستقبل ورؤية الإسلام المتعقلة بالاستعمار في الارض والاستخلاف فيها. وهما مفهومان قرآنيان عليهما أسس ابن خلدون ثورته العلمية أي أول تأسيس للعلوم الإنسانية دون أن تكون الأخيرة مثلما أن تأسيس ارسطو لعلوم الطبيعة كان أولا وليس الأخير.
    فبات المطلوب واضحا: كيف نجعل نظامنا التربوي (طبعا شرطه نظمنا السياسي) محققا لشروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. وللجواب عن هذا السؤال الملخص لكل عناصر المحاولة أبدأ الأن بتقدم العلاج بعد التشخيص والتعليل: قدمت بعد صورة المدرسة التي ينبغي تأسيسها وطبيعة التكوين المطلوب.
    والآن اعرض العلاج:
    • أولا التحرر من الدولة الحاضنة وإرجاع الإنتاج ا لمادي والرمزي للمجتمع الذي لا يمكن أن يكون حرا ما ظلت الدولة حاضنة وهو شرط لكنه لا بد أن ينتظر حتى يثمر إصلاح التعليم بالصورة المقترحة لتخفيفه وتحريره من داءيه الاكبرين:
    • الثقافة العامة
    • والتوظيف الإيديولوجي.
    وهذا التخفيف سيقلل من كلفته لأن جل الحشو فيه علته هذين الداءين.
    فمثلا في تونس عندنا حوالي 100 ألف أستاذ ثانوي. وبهذا التخفيف يمكن أن ينزل عددهم إلى النصف. وطبعا لن يطرد النصف الثاني بل ينبغي التعامل معه بالحد منه من فوق ومن تحت: لا يعوض المتقاعدون حتى لا يبقى إلا نصف العدد الحالي ونأخذ نسبة مهمة للبحث والتوثيق في الاختصاصات. لكن الكلفة تبقى مع ذلك كبيرة لأن المقترح يقتضي أمرين كلاهما مكلف ومكلف جدا:
    فكلفة المدرسة كما صورتها مكلف جدا لكنه ثمرته رفيعة جدا.
    وكلفة كرامة المعلمين بكل مستوياتهم من الروضة إلى الجامعة مكلفة جدا لكن الثمرة أيضا رفيعة جدا.
    والثمرة في الحالة الأولى هي تغير نوعي في الثقافة العربية التي يمكن اعتبارها قاتلة للمواهب لأنها تجعل التكوين تلقينيا ولا تمكن من تجليها خلال التعلم الذاتي.
    وهي في الحالة الثانية كذلك تغير نوعي لأن حرفة التعليم تصبح جذابة للمؤهلين لاكتشاف المواهب وتنميتها بمجرد أن يصبح التعليم مجزيا ماديا ومحققا لشروط الكرامة والمنزلة في الجماعة فضلا عن ابعادهم عن الحاجة إلى ما هم مضطرون إليه حاليا مما لا يليق بالمربي.
    وهذه لا يمكن أن تبقى على كاهل الدولة التي لا ينبغي أن تبقى حاضنة ولكن التخلص من الوضع الراهن لا يتم إلا بالتدريج بحسب تحقق الـمشاركة الفعلية من الأطراف الأربعة الباقية. فمن هي الأطراف الأربعة الباقية:
    • الأسر التي تعلم أبناءها
    • اصحاب الأعمال الذين يحتاجون للخريجين
    • المتعلم
    • المعلم.
    كل هؤلاء ينبغي أن يسهموا في الجزء الخاص من التعليم. ويكون ذلك بإلغاء التعليم الخاص المحض والتعليم العام المحض فلا يبقى إلا تعليم نصف تمويله خاص ونصفه عام. فتكون المدرسة هي بدورها أحد أنواع الاستثمار الذي تموله الجماعة وهو استثمار مربح حتى بالمعنى الاقتصادي المباشر.
    فالأسر عليها أن تسهم بكلفة تعليم أبنائها على الأقل بالحد الذي تدفعه حاليا لواحد من الدروس الخصوصية وليس لها كلها. فهذا يحرر أبناءهم ويحفظ كرامة معلميهم. ورجال الأعمال عليهم ان يسهموا في تكلفة تكوين الكوادر الذين يحتاجون إليهم في أعمالهم إذا كانوا حقا يريدون إنتاجا حديثا شرطه البحث العملي والتكوين المهني ليكون عملا على علم وتخطيط وليس عملا ساذجا.
    والتلميذ في مستوى معين ينبغي أن يسهم في تعليمه ولو في شكل استدانة يسددها لما يتخرج فيرجع دينه للمنظومة التربية التي كونته ووفرت له دورا في الانتاج الذي هو مورد رزق الجميع.
    وتبقى الدولة التي عليها أن تدفع نصف الكلفة. وليكن النصف بقدر ما تدفعه حاليا سيتضاعف مستوى المدرسة والمعلم.
    فإذا فرضنا أن ذلك سيجعل المدرسة كما وصفت وسيضاعف أجر المعلم بعد تخفيف المضامين والتبكير في الاختصاص التكويني مع مراكز بحث في كل اختصاص دون المبالغة في الثقافة العامة ودون الحرب بين ثقافتين بحجة التأصيل وبحجة التحديث فإن عقدا واحدا قد يجعل المدرسة العربية على رأس الترتيب.
    وطبعا سيكون الإشراف الإداري والعلمي على المنظومة مزدوج: نصفه للسلطة السياسية الشرعية-وأوكد الشرعية أي التي تمثل حقا ثقافة الأمة وليست العميلة للاستعمار-ثم مربع الأطراف أي الأسر ورجال الأعمال والتلاميذ من سن التعلم بالقرض والمعلمون بكل مستوياتهم في شركات خفية الاسم.
    والشيء الثابت أن هذه المنظومة التربوية ستحقق أهم دورين في كل منظومة ذاتية الرعاية والحماية: فهي أولا ستسهم في تموين التكوين بمعنى أنها هي التي تنتج مضمون تكوينها ولا تستورده (الكتاب والتجهيزات العلمية والبرامج إلخ..) ما يمكن أن يجعلها مصدرة لمنتوجها التربوي وليست موردة له.
    • والأمر الثاني وهو الأهم لن تكون التربية قطاعا غير منتج أو يقتصر إنتاجه على التكوين والتموين الذاتي بل ينبغي أن يصبح القطاع منتجا للكثير من الأشياء وخاصة للبراءات التي تطور الانتاج المادي والإنتاج الرمزي في الجماعة. وذلك بالبحث العلمي الأساسي والتطبيقي كما في الجامعات الأمريكية خاصة.
    فمثلما أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى لها مشاركة في الإبداع العلمي فكذلك ينبغي أن يكون للمؤسسات التربوية مشاركة في الإنتاج الاقتصادي أيا كان الاختصاص. ففي الأولى العمل المباشر من حيث هو تقني يحرك البحث الأساسي للإبداع وفي الثانية كذلك يكون البحث الأساسـي بقابلية التطبيق محركا للعمل المباشر. فيتغاذى البحث الأساسي والبحث التطبيقي في نوعي المؤسسات.
    ولما كان ذلك يشمل العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة في مستوى النظر والعقد والعلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان فهو إذن شامل للتعمير (خاصة علوم الطبيعة) وللاستخلاف (خاصة علوم الإنسان). وعندئذ يمكن القول إن الامة قد تخلصت من تحريف رؤية الإسلام لهذين الوجهين من دور الإنسان.
    ولست غافلا على أن هذه المحاولة لن ترضى عنها لا اقول اليهود والنصارى بل أصحاب إيديولوجية الدولة الحاضنة والتعليم المجاني. وأعلم أن كل الذين لا يريدون بالحق إلا الباطل فإنهم سيعتبرون ذلك ردة على حقوق مستقرة وأنها موقف رأسمالي إلخ… من الكلام الذي أنهى الكرامة باسم الكرامة.
    فلا يمكن لتعليم عقيم أن يحقق كرامة أحد. ولا يمكن لتعليم صار لا يعتبر ضروريا في سلم الارتقاء الاجتماعي لأن الانتخاب في التعليم وفي العمل لا يعتمد عليه بل على الفساد والاستبداد لا يمكن أن يمكن أي أمة من النهوض والتحرر من التسول في الرعاية وفي الحماية ومن ثم التبعية لصاحبيهما.
    كما أني لست غافلا عن أن هذا الحل لن يجعل تونس مثلا دولة فتكون قادرة على البحث العلمي المحقق للرعاية والحماية لأن منتوجها القومي الخام لا يكفي حتى للبحث العلمي في مجال واحد من مجالات البحث العلمي الذي يحقق ذلك. لكن هذه مسألة الحجوم المناسبة للعصر مسألة أخرى.
    وما ظل حجم “الدول” العربية كما حاليا ولم يفهم العرب ما فهمته أوروبا حتى تكون ندا لعماليق العصر فإن كل تكوين في بلادنا هو في الحقيقة إضاعة للوقت بالنسبة إلى العموم وتكوين لكوادر للدول الكبرى تهاجر إليهم بعد أن نكونهم لأنهم لن يجدوا ما يفعلونه بتكوينهم لدينا بسبب غياب شروط البحث. فالبحث العلمي الاساسي له قاطرتان كلتاهما ليست في متناول الدول القزمة بمعايير عصرنا:
    • القاطرة الأولى هي الاقتصاديات ذات الحجم العالمي.
    • القاطرة الثانية غزو الفضاء وأسرار المادة والحياة.
    وكل ميزانية تونس مثلا لا تكفي للبحث حتى في الطب ناهيك عن البايولوجيا ومن ثم فلا يمكن أن يوجد بحث علمي جدي لأنه من دون هذين المجالين يكون عاجزا دون الشروط الدنيا وأقصى ما يمكن أن يسهم فيه هو التكوين “الصحفي” بقراءة النظريات في الكتب والذي يمكن من تخريج بعض الشباب ذوي المواهب والمعدين للتصدير للمجتمعات القادرة عليهما.
    لذلك فإذا صادف أن وجد بين شبابنا عباقرة وهم موجودون فهم بين خيارين: إما أن يهاجروا ليجدوا موقعا في مراكز بحوث تمكن من ذلك أو يبقوا عندنا وأقصى ما يصلون إليه هو شرب قهوة في مكتب ليس فيه عمل بل فيه مجرد دوام للثرثرة والتنكيت الإيديولوجي ككل النخب العاطلة في جل بلاد العرب.
    وقد حاولت سابقا لبيان دور ما وضعت له نظرية الاحياز التي تحدد الحجم المناسب لما يقبل اسم الدولة التي من شروط سيادتها أن تكون قادرة ليس على الأوتارسيا-الاكتفاء المطلق-لكن القادرة على رعاية ذاتها وحمايتها وهي في عصرنا ما صارت دول أوروبا تعتبر نفسها دونها منذ الحرب الثانية.
    لكن العرب لسوء الحظ صاروا أمة الغباء المطلق بعد أن جعلهم الإسلام أمة الدولة الكونية كل قبيلة فيها تدعي أنها دولة بل وتكذب على نفسها وعلى شعبها فتدعي أن وزير “خارجيتها” أو وزير “دفاعها” تحادث مع وزير خارجية أمريكا او الصين حول المحاور الاستراتيجية للأمن في العالم.
    لكن غفراء هذه “المحميات” لما يمرض حتى بالوعواشة سرعان ما تجده في مصحة ألمانية أو فرنسية أو خاصة أمريكية ليتعالج ويترك مستشفيات بلاده للعامة. ففي بلاد كليات الطب فيها عمرها قرن ما يزال أنصاف اثريائها يتعالجون في الخارج ناهيك عن ناهبينها من حكامها وأمرائها وأزلامهم.
    أف وألف أف من قوم يزعمون أنهم أحفاد دولة الإسلام وأبطالها. لما تنظر في صدور من يتصفون حتى بالماريشالية من جنس السيسي وليس وحده فأنت أمام الكاريكاتور في كل شيء. وما كان لأي مسرح هزلي أن يضاهي في المسخرة ما عليه هذه الشعوب التي أذلها كلابها من أدعياء نخبها.

خاتمة

لا بد من خاتمة دقيقة حول المضمون المعرفي والخلقي والإطار المناسب لذلك لتكون التربية قاطرة للجماعة بوصفها تحقق في العمران والاجتماع ما تحققه الطبيعة والحياة في قيام النوع وبقائه: فهي سر حياة التراث والثروة المتشارطين فكلاهما شرط الثاني وثمرة اللقاء الحي بين الجغرافيا والتاريخ.
ومن ثم فالتربية هي المعمل الثاني لصنع الجماعة للأجيال التي تواصل بقاءها بما تستعد له من وظيفتي رعايتها وحمايتها. والمعمل الأول هو الأسرة ولها وظيفة التكاثر أو تجديد الأجيال عضويا فتكون بذلك المؤسسة التي تغلب عليها الوراثة العضوية للزاد العضوي والمدرسة تغلب عليها الإرث الثقافي.
ومثلما أن الوراثة العضوية والتراث الثقافي كلاهما ينقسم إلى وظيفته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد ووظيفة عامة يشاركه فيها بل ويغلب عليه فيها دور الجماعة والمجتمع.
فالزاد العضوي للأسرة فيه الانجاب لكن الرعاية وإن كانت تمر بالأسرة فهي اجتماعية لأنها انتاج الجماعة وتقاسم العمل.
ومعنى ذلك أن الأسرة تختص في العضوي الخالص الذي يمر بالأم خاصة (على الأقل 27 شهرا وهي المدة التي تجعل الطفل يبدأ التمكن من الكلام بلغة أهله: 9 للحمل و9 مضاعفة للرضاعة إن تمت) لكن شروط الغذاء والدواء كلها جماعية أي إن الإنتاج بالعمل المتقاسم في الجماعة هو الدي يقيم الأجيال ويبقي تواصلها النوع. وهذا بين ولا يحتاج إلى مزيد شرح.
وما أطلت فيه إلا لبيان الخطأ الذي تقع فيه التربية عندما يصبح دورها الثقافة العامة والإيديولوجيا. فلكأن الأسرة تحولت إلى مصدر الغذاء والدواء بدلا من الاقتصار على التوريث العضوي والمرحلة الأولى من التغذية والعلاج الذي لا يمكن أن يقع إلا فيها أو ما يماثلها في الوظيفة (المحاضن).
ينبغي أن تكون المدرسة مثل الاسرة ضرورية لوظيفتها والباقي يعود إلى المجتمع والتعلم الذاتي. الثقافة العامة والخيارات القيمية هي ما يحصل عليه المتعلم بعد أن تكون المدرسة قد أعدته للتعلم الذاتي وكونته في وظيفتيه من حيث هو مشارك مقبل في نظام الإنتاج المادي والروحي للجماعة.
والمقصود بالإنتاج المادي هو الثروة أو شروط القيام العضوي للفرد والجماعة وهو مفهوم الاستعمار في الارض القرآني. والمقصود بالإنتاج الثقافي العلوم وتطبيقاتها والفنون وتطبيقاتها أي شروط القيام الروحي للفرد والجماعة وهو مفهوم الاستخلاف: موضوعا المقدمة العمران والاجتماع.
ومثلما أن الأسرة بمجرد قيامها بوظيفة التوالد تواصل زاد الجماعة العضوي فتكون في آن وصلة بين كل الماضي العضوي وكل المستقبل العضوي لجماعتها فكذلك المدرسة بالتكوين في العلوم وتطبيقاتها وفي الفنون وتطبيقاتها تكون في آن وصلة بين كل الماضي الثقافي وكل المستقبل الثقافي لجماعتها.
بل أكثر من ذلك وهذا بين في المدرسة أكثر مما هوبين في الأسرة: كلتا المؤسستين تواصلان الزاد الثقافي والزاد العضوي للبشرية كلها لأن التورث العضوي والتوارث الثقافي لا يعترفان بالحدود السياسية والعرقية التي حتى لو لم يتم تجاوزها سلما فتجاوزها يحدث حربا حتى بالسبي الجماعي في الحروب.
ولو أخذت أسرة تونسية اليوم وكان بالوسع متابعة شجرة النسب لوجدت دون شك فيها أن فلان الفلاني قد يكون في شجرته الفرنسي والعربي والأمازيغي والتركي والبيزنطي والوندالي والروماني والقرطاجني وهلم جرا إلى بداية الجنس البشري ثم سيتوالى الأمر بما سيحصل في المستقبل. وكل ذلك في كيانه العضوي وفي كيانه الثقافي.
وهنا نصل إلى الحقيقة الموجودة والحقيقة المنشودة في القرآن الكريم. ففي النساء 1 تقرير حقيقة موجودة وهي أن البشر أخوة لأنهم من نفس واحدة. وفي الحجرات 13 تذكير بحقيقة منشودة وهي أن البشر الأخوة شعوب وقبائل للتعارف معرفة ومعروفا متساوون ولا يتفاضلون إلا بالتقوى.
ما أريد إذن تحديده مضمونا للتكوين االمتحرر من الثقافة العامة والخيارات الإيديولوجية التي يتعلمها الإنسان بذاته لما تكونه المدرسة في شروط التعلم الذاتي وتعده لوظيفتيه التعميرية والاستخلافية حتى لا يكون كلامي على تخفيف المضمون مجرد أماني بل هو أمر واجدب ولا بديل عنه.
وهذا أمر لم يعد خيارا ولم يبق صعبا. وهو لم يعد خيارا لأن الحشو مهما بالغنا فيه لا يمكن أن يستوعب الثقافة العامة التي صارت الإنسانية ترزح تحت طوفانها إذ إن ما ينتجه الفكر الإنساني حاليا في يوم يتجاوز ما كان ينتجه في قرن. وهو لم يعد عسيرا لتوفر أدوات التواصل والمعلومة والبحث للاطلاع.
ولا ينبغي أن نثقل دور المدرسة بما هو من مهام مؤسسات أخرى: فالتربية المدنية والدينية لا يحصل المرء عليهما بالكلام بل بالسلوك الفعلي. يكفي أن تكون المدرسة هي بدروها خلية اجتماعية قائمة بكل مهام الجماعة حتى تحصل التربية المدنية والدينية فيها كما في خارجها. فينبغي أن تتضمن المؤسسات التي تؤدي هذه الوظائف فتعلم تاريخ الأمة وعقائدها بوصفهما جزءا من الحياة العامة يطلبها الإنسان من حيث هو مشارك فيها وليس كمادة للتدريس.
وما يسهل مهمتي في تحديد تعليم ما يغني عن تجاوز ما يجانس ما نسبته إلى الأسرة في التكوين العضوي. يوجد في التكوين الثقافي ما يغني عن نفس النسبة في التكوين العضوي. ومعنى ذلك ان الأسرة توصل الطفل من مرحلة الجنين إلى مرحة الاعتماد عن النفس في وظائفه العضوية وقيامه كذات مستقلة عضويا.
فيكون السؤال: ما المرحلة التي تجعل الشاب مستغنيا عن التعليم بالتلقي إلى التعليم بالبحث العلمي الذاتي في مجال اختصاص يحبه أو وجه إليه لأن المشرفين على التكوين وجدوا فيه ميولا وقدرات تؤهله لأن يكون فيه أقدر من مجالات اخرى ليس له المؤهلات التي تمكنه من يكون جهده فيها مثمرا حقا.
لكن قبل ذلك يوجد ما هو شرط في أي اختصاص أي ما هو شرط التعلم سوء في مرحلة التلقي القصيرة أو مرحلة التعلم الذاتي. وهنا لا بد من التذكير بالقسمة الشهيرة بين العلوم الغائية والعلوم الأداتية. فالتعليم ينبغي أن يحسم مسألة العلوم الأداتية قبل التركيز على العلوم الغائية.
والعلوم الأداتية خمسة وهي كونية بمعنى أنه كل البشر يشتركون فيها وهي تتعلم عفويا في الحياة العامة لكنها لا تصبح أداة للعلوم الغائية إلا بعد أن يصبح التمكن منها تمكنا هو بدوره وكأنه غاية أي إن تعلمها ينبغي أن يصبح نسقيا ونظاما لأن من لا يسيطر على الآلة والأداة يسيء استعمالها.
فما هي هذه العلوم الأدوات أو الوسائل التي من دونها لا يمكن تحصيل العلوم الغائية والتي هي علوم لا متناهية التعدد بحسب تعدد الاعمال التي تنتج عن تقسيم العمل في الجماعة المنتجة لما يسد حاجاتها المادية والروحية أي لما تحتاج إليه في التعمير وفي الاستخلاف (العمران والاجتماع خلدونيا). وإليك هذه العلوم الأدوات:

  1. اللسان
  2. المنطق
  3. التاريخ
  4. الرياضيات
  5. أصل كل الأدوات أو حضور الذات لذاتها (الوعي بالذات وبما يحيط بها) ولعالمها المحيط بها ببعديه الطبيعي والتاريخي وبما بعديهما أو ما يسميه القرآن تبين الحقيقة من خلال رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس أو بكلمة بسيطة بصيرة الملاحظة لإدراك النظام في ما يجري للتخلص من الغرق فيه.
    وهذا الأصل هو الأصعب لأن الأربعة المتفرعة عنه قد تصحب حائلة دونه. ولذلك اعتبرها ابن خلدون حجبا بمعنى أن الكثير من المتعلمين يغرق في الألفاظ أو في الأدلة أو في جمع عناصر المعطى (وهو معنى التاريخ كمنهج وليس تاريخ كذا أو كذا) أو في الحساب الفرضي ولا يلتفت إلى كيفيات الظهور.
    جل علوم الملة فاسدة لأنها أهملت هذا الأصل وتحولت إلى ثرثرة (شروح لفظية) وبزنطة (استجلال سوفسطائي حول الغيبيات) وخرافات (حول الأحداث دون تأكد من حدوثها) وإلى حساب من جنس التنجيم (وليس من جنس الفلك) وأخيرا إلى فقدان للبصيرة لتجاهل فصلت 53.
    ويكفي أن تسمع من يسمون كبار العلماء. فتسمع ساردا لمحفوظات لفظية ومستدلا بـ”قالت العلماء” وذاكرا لأحداث لا شيء يثبتها إذ غالبها من الغيب المحجوب ومستعملا بعد الأرقام المهملة وأخيرا غافلا تماما عن “الشيء” الذي يتكلم عليه لأنه لم يفتح بصيرته ليرى مجراه ويلاحظه فيفهم ما فيه فعلا في الأعيان مكتفيا بما خزنه من محفوظات الأذهان من آراء فلان أو فلتان.
    وهنا يأتي الكلام على الإطار المدرسي. لا ينبغي أن تكون المدرسة حتى بعد هذا التركيز على تعليم أدوات التعلم مقصورة على الفروع الأربعة بمعزل عن الاستعمال في الأعيان وخلال حضور الشيء الذي يتعلق به الكلام والمنطق والتاريخ والرياضيات والملاحظة العينية. لا بد من وجود الموضوع “الشيء”.
    والشيء ليس أمرا عاما غير قابل للتحديد الجامع المانع. فهو أولا العلوم الأدوات نفسها بمعنى أن المتعلم يتعلمها كممارسة قبل أن يعود عليها كموضوع تنظير مثلا يتعلم اللغة كممارسة ثم يعود عليها ليفهم عللها النحوية والصرفية إلخ… من أنظمة للتمكن من اللغة وهي ليست علوما بل قواعد عملية. والبقية موضوعات الاختصاص:
    • الأشياء الطبيعية
    • الأشياء التاريخية
    • أشياء علاقة التاريخ بالطبيعة أو التقنيات
    • أشياء علاقة الطبيعة بالتاريخ أو القيميات
    • أشياء ما وراء تلك الأشياء أي هي ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ وما وراء النظر والعقد وما وراء العمل والشرع.
    وكل واحد من هذه الأجناس الكبرى يتفرع إلى ما لا يكاد يتناهى من الأنواع بحسب تطور الجماعة والحضارة وهي تتحدد في الاختصاصات إما من حيث هي ممارسات عملية منتجة للأشياء أو من حيث هي ممارسات نظرية منتجة لنظرياتها ومناهجها. تلكما هما وظيفة التكوين التربوي. ما عداهما عبث.
    فكيف تتحدد ميول التلاميذ ليتم التوجيه إلى الاختصاصات؟
    لهذه المسالة علاقة مباشرة بالشكل الذي اقترحته للمدرسة. فوظيفتها الاولى تعليم العلوم الأدوات الخمسة التي ذكرتها أي الاربعة في إطار الخامس أي ممارستها من خلال امثلة نموذجية بالمعاينة لا بالكلام عليها أي ملاحظتها خلال الممارسة. وإذن:
  6. فاللسان يتعلم بممارسة نصوص نموذجية مع وجوب استعمال الفصحى في التعليم.
  7. والمنطق بممارسة حوار نموذجي فيه صور الحجاج خلال مناقشة وضعيات فعلية.
  8. والتاريخ بجمع معطيات وضعيات نموذجية لأن ما يعني في التاريخ هو منهج جمع المعطيات والمعلومات وليس الموضوع أو المجال المدروس.
  9. والرياضيات بصوغ منطقي لمعطيات معينة في وضعيات تقيس (الكم) وترتب (الكيف) أيا كان المجال الذي يراد صوغه رياضيا بإبداع بنية رمزية تحاكي علاقات فعلية في ظاهرة معينة.
  10. وكل ذلك بإيقاظ دائم للملاحظة النسقية التي تجيب عن أسئلة نموذجية والاختبار النهائي هو القدرة على التعلم الذاتي.
    وهذه القدرة يقع اختبارها بالممارسة في نواد تطبيقية للتعلم الذاتي في الحرف والمهن الأساسية التي تتعلق بأهم الاختصاصات التي توجد في سوق العمل المادية(الاقتصاد) والرمزية (البحث لعلمي) والجامعة بينهما أي التطبيقات العلمية والاقتصادية وفيها تتحدد ميول الشباب لمدة كافية لتحديد الميول.
    وتخلو هذه المدة الكافية من أي امتحان يرتب التلاميذ بل يكفي وصف سلوك التلميذ التعلمي وتحديد مراكز اهتمامه التي تؤهله لما سيختاره من التخصصات. وبعد ذلك يتم التوجيه في ضوء ملف كل تلميذ بذاته دون مقارنة بين التلاميذ حتى يختار كل واحد منهم ما يعتبر نفسه مؤهلا له وهو في الغالب يكون مبدعا في اختاره إذا تم ذلك بحرية دون فرض. فتكون المرحلة الأولى مضاعفة:
    • واحدة لتعلم العلوم الأدوات وهي تعليم نسقي من خلال ممارسة كل واحد منها بنماذج من أفضل ما يوجد فيها لسانيا ومنطقيا وتاريخيا ورياضيا وإيقاظ الملاحظة الحية لأشياء تتعين فيها هذه العلوم الأداتية.
    • النوادي التي تتجلى فيها المؤهلات ولإبراز المواهب والميول وهي ليست خاضعة لبرامج مشتركة بين المتعلمين بل هي متروكة لهم يختارون منها ما يميلون إليه بكامل الحرية.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي