مأساة التربية النظامية واللانظامية العربيتين – الفصل الرابع

****

-الفصل الرابع –

وطبعا لا يمكن أن يكون فساد معاني الإنسانية الذي وصفه ابن خلدون في مسألة التربية مقصورا عليها ولذلك فهو قد اعتبره أيضا موجودا في الحكم.
وعلل الوجود في الحالتين بنوع سلطة المربي وسلطة الحاكم.
ونحن تكلمنا على تحريف الإسلام باعتباره أصلا لهذه الأدواء الأربعة: فكيف نفهم ذلك؟
سيعجب الكثير من قولي إني أبحث المسألة بمنظور فلسفي ثم أشخصها بكونها ناتجة عن تحريف للإسلام ألا أكون بذلك قد جعلتها دينية؟ طبعا من يعترض هذا الاعتراض يبدو محقا لكنه في الحقيقة ينطلق مما وصفته بالرؤية التي أدلجت دور الفكر ففرضت عليه الرؤية اليعقوبية الفاصلة بين الديني والفلسفي.
فما حرف هو فلسفة الإسلام في التربية وفي الحكم وهي رؤية يمكن أن تصاغ دينيا ويمكن أن تصاغ فلسفيا لأن ما هو رؤية فيها هو تتحد فيه الفلسفة والدين أعني المهمتين اللتين تكلمت عليهما: الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. وقد يخالف البعض في الثانية. لكنه خلافه لفظي وليس حقيقيا.
فلا أتصور أنه يمكن أن يعتبر الإنسان مستعمرا في الأرض أي مطالبا بتعميرها مثل الحيوانات التي تستغلها ولا تعمرها بل هو حتما يعتقد -حتى وإن كان ملحدا-أن الإنسان في الأرض يطلب أمرين هما عين مفهوم الاستخلاف أي أن يكون حرا وسيدا وأن يجعل الغاية خيرة وليس مجرد الأكل أكل الأنعام.
والفشل في تعمير الارض علته أبستمولوجية أولا أو تصور فاسد للنظر والعقد كان علة العجز دون التعمير وعدم تحقيق ما سميته ثورة نوح في تفسير سورة هود والفشل في الاستخلاف علته أكسيولوجية أو تصور فاسد للعمل والشرع كان علة العجز جون الاستخلاف وعدم تحقيق ما سمتيه ثورة موسى في تفسيرها.
تراهم يكثرون من الكلام على نوح وينسون ما طلب منه ربه قبل أن يمتطي السفينة: أن يأخذ من كل زوجين اثنين ليعيد تكوين شروط الحياة. وهذه هي ثورته في تحرير الإنسان من الخضوع للضرورة الطبيعية فيستنبت شروط قيامه بعلمه وعمله في استئناف الحياة الإنسانية بعد الطوفان.
وتراهم يثرثرون حول موسى ومعجزاته ولا بصيرة لهم في فهم طبيعة الثورة الثانية بعد الأولى التي كلف بها نوح. وحضور موسى ونوح الطاغي في القرآن لا يفهم دلالتها إلا من كان فاقدا للبصيرة.
فهذه الثورة الثانية لها منزلة الثورة الاولى: بعد ثورة التعمير ثورة الاستخلاف أو الحرية السياسية.
صحيح أن مفسدي الثورة الثانية أعادوا دين العجل الذي ما يزال مسيطرا على البشرية ببعديه: بمعدنه أصل الربا المادي أو سرقة المال (الذهب المستعار من المصريين) وبخواره أصل الربا الروحي أو خداع البشر بالإيديولوجيا. وكل تحريف للقرآن مصدره هذان الاصلان وخاصة في غياب الثورتين وثمراتهما للجهل بمفهومي الاستعمار والاستخلاف.
إذن وقع تحريف أبستمولوجي لرؤية القرآن للنظر والعقد بسبب الصراع بين المتكلمين والفلاسفة حول العلاقة بين العلم والإيمان فأفسدوا العلم والإيمان. ووقع تحريف أكسيولوجي لرؤية القرآن للعمل والشرع بسبب الصراع بين الفقهاء والمتصوفة حول العلاقة بين القانون والأخلاق. فأفسدوا العمل والشرع.
وفيم تمثل الفساد؟ في جعل النظر والعقد لا يطلب علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة لسد حاجته بل يطلب ما وراء الطبيعة والإنسان ليقدم أساطير يتوهمها علما وهي في الحقيقة بمقتضى نص القرآن (آل عمار 7) وهم بالإحاطة إما باسم وراثة النبي أو باسم العقل المحيط. وكلاهما كذبة.
فلا النبي أدعى علم الغيب فيرثون منه ما يحررهم من آل عمران 7 ولا العقل محيط فيجعل ما يسمونه علما عقليا اصلا والدين يرد إليه بالتأويل لأنهم يدعون الرسوخ في العلم الذي يمكنهم من أن يعطفوا علمهم على علم الله في آل عمران 7 كما يفعل ابن رشد في مناهج الأدلة في عقائد الملة.
وهذا هو الوجه الأول من التحريف الأبستمولوجي للرؤية القرآنية. ويترتب عليه أنهم تركوا ما أمر به القرآن واختاروا ما نهى عنه لينشغلوا به. فالقرآن بين أن الاحاطة ليست في متناول الإنسان وأن الغيب مفهوم حد يميز بين العلم الإنساني غير المحيط والعلم الإلهي المحيط: نفي نظرية المطابقة.
ونفي نظرية المطابقة تحرر مطلق من أساس الفلسفة القديمة والتي تواصلت في العصر الوسيط بخلاف ما بين القرآن استحالته. وحتى القرآن فليس فيه علم بالغيب فيه إعلام بوجود الغيب لكن ليس فيه علم بما ليس بشاهد أبدا. لما أعلمك بوجود شيء دون أن أعطيك حقيقة مضمونه فليس ذلك علما به بل إعلام.
أما ما أمر به القرآن -فصلت 53- فهو أن نرى ما يرينا الله من آياته في الآفاق وفي الانفس لنتبين أن القرآن حق وهو ما يعني أن معرفة حقيقة القرآن ليست في التفسير اللفظي لآيات نصه بل في البحث العلمي لمعرفة قوانين الطبيعة والتاريخ في الأعيان (الآفاق) وفي الأذهان (الأنفس).
وكلاهما آيات من عالم الشهادة وليس من عالم الغيب. وهما لا تعلمان إلا بالبحث العلمي في الطبيعة والتاريخ خارج أنفسنا ثم في أنفسنا لأننا نحن أيضا مؤلفون من طبيعة غالبة على أبداننا وتاريخ غالب على أرواحنا. كل ذلك أهملوه وتقاتلوا على تأويل المتشابه لزيغ في القلب ولابتغاء الفتنة.
والزيغ في القلب وابتغاء الفتنة ليس من أجل ثمرة النظر والعقد في التعمير ولا من أجل العمل والشرع في الاستخلاف بل من أجل سلطة في التربية هي الوساطة وسلطة في الحكم هي الوصاية.
والسلطتان في غياب العلم بما كان ينبغي أن يكون مجال سلطة الإنسان الحر والسيد هما علة “فساد معاني الإنسانية”.
لذلك فالمعركة بين المتكلم والفيلسوف ليست حول العلاقة بين الإيمان والعلم بل هي حول سلطة الوسيط وهي ليست وساطة بين الإنسان وربه فحسب بل هي تنافس بينهما من أجل سلطان يستمدانه من أرباب الأرض وليس من رب السماء بحجة أنهم يمكن أن يكونوا بها يدعونه منها وسطاء بين ذوي السلطان و”العامة”: المتكلم يجعل الدين والمتفلسف العقل لطلب سلطان على الإنسان ولفشلهما في جعله معمرا.
وقد لا يكون ذلك جليا في الصراع بين المتكلم والفيلسوف لأنهما يبدوان وكأنهما يبحثان في النظر والعقد العاليين فيوهمان بأنهما ليسا طالبي سلطان على الإنسان بل معرفة الحقيقة لكن ذلك يتجلى من أول واقعة أي محنة ابن حنبل. لم يصارعهم بل رفض أن يصبح الحاكم بابا: تأسيس الكنسية في الإسلام.
لكن ذلك لا يحتاج إلى دليل في معركة الفقهاء والمتصوفة. فليس مشكلهم العلاقة بين القانون والأخلاق لأن الفصل بينهما ليس فيهما بل في الحكم الذي قد يقرض قوانين غير خلقية. لكنهم هم جميعا ليسوا إلافي خدمة صاحب السلطان الذي يفرض ما ليس بقانون ولا بأخلاق بل هو إرادة المتغلب التي يبررونها.
وبذلك فبوعي أو بغير وعي كان المتكلم والفيلسوف والفقيه والمتصوف جميعا-الشواذ عن ذلك قلة ولا يقاس عليهم-طلبي سلطة من سلطة لا علاقة لها بالإيمان ولا بالعقل ولا بالقانون ولا بالأخلاق لان هذه جميعا بمنظور القرآن رهن تحقيق شروط التعمير والاستخلاف وهم حالوا دون ذلك بتخريفهم.
وبذلك يتبين للقارئ أن ما نراه الآن من صرع بين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث ليس إلا مواصلة للمعركة بين المتكلم والفيلسوف وبين الفقيه والمتصوف حول شبيه الإيمان وشبيه العلم وشبيه القانون وشبيه الأخلاق ولا يوجد في أي من ذلك إلا الفشل في معناه الحقيقي أي التعمير والاستخلاف.
ولست بحاجة لأن أثبت ذلك فهم بأنفسهم يعترفون بأنهم ورثة المتكلمين والفلاسفة والفقهاء والمتصوفة بمعنى أن كاريكاتور التحديث يدعي تجديد الاعتزال والرشدية وكاريكاتور التأصيل يدعي تديد الفقه والتصوف. كاريكاتور التحديث يشرب من النكوص إلى القول بالمطابقة ابستمولوجيا وأكسيولوجيا.
وعندما تسمع الواحد منهم يتكلم على “عقلانية” الاعتزال والرشدية فلا يمكن إن كنت فاهما القصد بالعقلانية وخاصة النقدية إلا أن تموت ضحكا. ذلك أنه لم يعد أحد يعتقد أن العقل محيط في النظر والعقد وخاصة في العمل والشرع: خرافة التحسين والتقبيح العقليين من علامات الحمق لا العقل.
فالقيم لا يمكن أن تتأسس على العقل إلا بمعنى العقل الذريعي أي العقل الذي يعتبر صاحبه القيم ناتجة عن حساب المنافع والمضار. وهـي إذن قيم الأخلاق النفعية الخـالصة. أو البديل الخلقي المؤسس على العقد الديني بمعنى الإيمان بأن الإنسان كائن حر فوق النفعيات ويؤمن بقيم متعالية لأنه يسلم بأن للكون شارعا حدد قيما فيها ما هو معلوم وفيها ما هو من الغيب يعمل بها لإيمان دون أن تكون منافية للعقل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي