مأساة التربية النظامية واللانظامية العربيتين – الفصل الثاني

****

-الفصل الثاني –

أنهيت الفصل الأول بما يشبه الاعتذار للجميع:
• اعتبرت تونس من جنس “ثم في الهم ما تختار” بالقياس إلى بقية العرب
• واعتبرت المعلم معذورا بالقياس إلى وضعه
• واعتبرت التلميذ معذورا باعتبار عدم الحاجة للتكوين السليم
• واعتبرت الأسرة معذورة خوفا على المستقبل
• واعتبرت رب العمل معذورا لأنه تابع.
ألست بذلك وكأني أقصر المسؤولية على من بيده السلطة السياسية فأكون قد برهنت على عكس ما أردت البرهان عليه؟
في الحقيقة ليس ذلك ما ينبغي استنتاجه بل هو النكوص الذي يعبر عنه هذا الاعتذار الذي قلته بوصفي ناطقا بلسانهم تعبيرا عن النكوص إلى منطق التاريخ الطبيعي: التكيف مع الموجود.
فاعتباري تونس ينطبق عليها مثال في “الهم ثم ما تـختار” بالقياس إلى بقية العرب حصرا للمسألة في المقارنة بمن يعتبرهم التونسي دونه في المسألة التربوية- وهو اعتبار فضلا عن عدم صحته- فإنه حتى بهذه الصفة لن يزيل المشكل التونسي ولا يفيد أن العرب الآخرين حتى لو كانوا أفضل هم بخير لأن الداء عام حقا.
وما أظنني بحاجة إلى الدليل. فالعناوين التي قد تجعل البلد العربي الفلاني على رأس القائمة العربية لا تعني شيئا لأن الأول بين الفشلة ليس ناجحا علما وأن تقدمه على البقية ليس لنجاح في التكوين بل في إمكاناته والغش الأكبر فيه. فاعتبار عمل الورادين وكأنه عمل أهل البلد خدعة لا تنطلي.
ومن السخف معاملة التربية مثل الرياضة: تشتري اللاعبين في كرة القدم ممكن وقد يقبل لكن الكفاءات التي تسير الأوطان وتنتج ما يسد الحاجات المادية والروحية لا يمكن أن يستعاض عنها بشرائها وخاصة بتواطؤ خطير بين باعة الشهادات وشراتها.
مثال ذلك إذا سمعت بأن الجماعة الفلانية -في السعودية مثلا-أنها مذكورة في ترتيب الجامعات الكبرى فاعلم أن ذلك لا يدل على حقيقة سعودية أو عربية بل على وجود متعاونين أجانب ينشرون باسمها أو بالاشتراك مع بعض أبناء البلد وخاصة في البلدان التي لأهلها القدرة على شراء الشهادات.
ولست أعرض بأي بلد عربي فقد بدأت ببلدي. فما تزال تونس بعد خمس وسبعين سنة من التغريب الاستعماري وما يقرب منها بعد الاستقلال متخلفة في البحث العلمي وفي التربية إلى حد جعل “التكيف” الاسمي مع هذا الواقع المتردي يحول دون تحقيق شروط النظام التربوي المحرر بحق للجماعة في الرعاية والحماية.
ما زالت تونس مثلها مثل بقية العرب تستورد من الابرة إلى المنشار ومن الأنسولين إلى الفيتامين بحيث إنها ليس لها من التحديث الموهوم إلى بروباغندا التقدم المزعوم.
والعلاقة القاطعة أن أثرياءها وحكامها لا يتداوون فيها وحتى في مصحاتها الأرقى ناهيك عن نظامها الصحي المتردي الأشبه بالمسالخ.
ففي خلال السنة الوحيدة التي كنت فيها وزيرا مستشارا لدى رئيس حكومة الثورة الأولى مسؤولا عن ملف التربية اكتشفت أن حال العمران المدرسي في تونس أشبه بمراحيض المقاهي والبارات ذات المستوى المتدني واكتشفت أن ميزانية التربية كلها رغم تقدمها على الوزارات الأخرى لا تكفي لعمران مدرسي لائق.
وليس هذا هو البعد الأول من العامل الأول من الخلل البنيوي في النظام التربوي أعني من منزلة التكوين والبحث في ثقافتنا والوعي بعلاقتهما في حل مشكل الرعاية والحماية شرطي السيادة لأن البعد الثاني هو منزلة المعلم عامة. فهو في وضع مزر لا يتخيله عاقل لأن أجره لا يمكن أن يحصنه ضد “المسكنة” شبه الحتمية.
المعلمون بكل مستوياتهم من الروضة إلى الجامعة “مساكين”. ولذلك فأغلبهم صاروا توابع لذوي الجاه يستخدمونهم في غير ما هم معدون له ومن ثم فوظائفهم النبيلة جعلت أدنى شيء يمكن أن يكون علة لحياة محترمة فجعلوا من ضرورات بقائهم أحد أمرين:

  1. خدمة النظام وإهانة التعليم
  2. أو استغلال المتعلم.
    هذا هو الداء الأول: تمويل التكوين الذي يمكن من علاج العلاقتين العمودية (العلاقة بالطبيعة) والأفقية (العلاقة بالتاريخ) شبه مستحيل سواء في ما يتعلق بالتجهيز العمراني والأدواتي في البحث العلمي والتقني أو في تحقيق كرامة المعلم من الروضة إلى الجامعة.
    فما هو الداء الثاني الآن؟
    إذا كان الداء الأول اقتصاديا فالداء الثاني ثقافي:
    ما يزال التعليم عند العرب معتمدا على ثقافة ذات غايتين كلتاهما تقضيان على كل تكوين هادف لتحقيق شروط الرعاية والحماية أعني لمقومي السيادة في أ ي أمة لها وعي بمنزلتها في التاريخ الإنساني:
    • الثقافة العامة
    • والوظيفة الإيديولوجية للمدرسة.
    فخذ مضامين التعليم في أي بلد عربي وستجد أنك لو تحررت من هذين العاملين العقيمين لاستطعت أن تتخلص من أكثر من 90 في المائة من تكوين الإنسان أولا ومن إعداده لوظيفتيه من حيث هو ذو سهم في توزيع العمل المنتج لسد الحاجات المشروط بالتعاون والتبادل وفي التعارف المشروط بالتواصل والتآنس.
    فالمدرسة تسهم في تكوين الإنسان عامة إذا صارت جماعة إنسانية بكل معاني الكلمة بمعنى أنها تصبح حياة الجماعة في شكل مصغر أهله يقومون بكل الوظائف التي تجعله قائم على نفسه وليس مجرد “ثكنة” لتلقي الدروس فتكون المدرسة شبه دولة مصغرة فيها كل وظائف المجتمع ويقوم بها أهلها.
    وهي تكون الإنسان من حيث إعداده ليكون ذا دور في توزيع العمل في الجماعة الكبرى فتكون هذه الأدوار هي الاختصاصات التي تعد المؤسسة التعليمية طلبتها إليها خلال حياتهم المدرسية التي هي حياة كاملة وليس لتعلم الاختصاص فسحب بل لتعلم الحياة كلها بالممارسة فيكون خدما لأنفسهم فيها.
    لا معنى لإعداد الإنسان إلى الحياة عامة وإلى سهمه في توزيع العمل بعد التخرج خاصة إذا لم يكن ذلك خلال ممارسة الحياة كاملة في المدرسة أولا كإنسان وثانيا كمتعلم يستعد لدور في تقسيم العمل بعد التخرج. المدرسة ينبغي أن تتغير لتصبح عينا مصغرة من الجماعة ككل فلا تبقى للتلقي القولي.
    وما يتعلم ينبغي أن نميز فيه بين أمرين: ما يتعلم من أدوات التعلم وما لا يحتاج إلى تعليه بعد الحصول على أدوات التعلم لأنه يصبح مما يتعلم بالتعلم الذاتي. وهذا يقتضي أن تصبح المدرسة في آن مكتبة ومتحف طبيعي وحضاري ومكتبات مختصة وتجهيزات البحث العلمي كلها بحسب الاختصاصات.
    وليس ذلك لأن المسلمين كانت لهم هذه المؤسسات التي أتكلم عليها بل لأن المدرسة في ذلك الوقت كانت المجتمع كله في أعيان منه هي القبائل العربية التي تخرج منها قادة كبار في كل مجالات الحياة الخمسة:
    • في السياسة التي تعبر عن الكلي في إرادة الأمة.
    • وفي المعرفة التي تعبر عن الكلي في خبرة الأمة (معرفة العصر)
    • وفي الاقتصاد الذي يعبر عن الكلي في سد الأمة لحاجاتها المادية.
    • وفي الثقافة التي تعبر عن الكلي في سد الأمة لحاجاتها الروحية.
    • وفي الفنون التي تعبر عن الكلي في ذوق الأمة
    • وفي الرؤى التي تعبر عن الكلي في خيارات الأمة الوجودية.
    وهذا الأصناف من الكليات لا يمكن أن تكون عفوية وإلا فلا معنى للتكوين والتموين خلاله: لذلك فقد اعتبر أفلاطون أن “وزارة” التربية أهم حتى من رئاسة الدولة. ومن ثم فإذا كان يشترط في ترؤس الدولة الفلسفة-وهو يعني المعرفة الكلية في النظر والعقد وفي العمل والشرع -فمن باب أولى أن يشترط ذلك في من يعتبره أهم من رئيس الدولة.
    لكنك تجد التربية في بلاد العرب مهملة تماما لأنه ليس الوزير وحده لا علاقة له بهذه الكليات الخمسة بل حتى المصالح التي تختص في البرمجة وفي التفقد وفي التنظيم التكويني والتمويني خاضعة لأدنى شروط التمكن منها. فما رأيت واحدا من المسؤولين على هذه المصالح عرف بشيء من البحث العلمي في مجال الاختصاص الذي تديره. كلها خاضعة لمعايير سياسوية وإيديولوجية.
    ولهذه العلة لم أجد حقا ما أفعله لما كلفت بالقطاع التربوي وزيرا مستشارا لرئيس الحكومة ففهمت أن التكليف كان ترضية رمزية ليس القصد منها أن أفعل شيئا بل أن أوهم بأني مكلف بأمر مهم عندي لكنه عند “المسؤولين” آخر اهتمامهم. ولعلهم معذورون فالأمر عام وليس خاصا بهم. وحتى لو أرادوا فعل شيء لاستحال ذلك بسبب العادات وخاصة بسبب استبداد النقابة بالأمر والاعتراض من المعارضات وحربها الإيديولوجية على كل من يريد أن يحرر التكوين من الثقافة العامة والايديولوجيا: ذلك أن الثقافة العامة تابعة للخيار الأيديولوجي في الحرب الاهلية التي تعتبر التربية فيها أحد أسلحة كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث.
    ولأزد الداء الثاني شرحا فهو أخطر حتى من الداء الاقتصادي لأنه هو الذي يفاقمه. فالحشو الناتج عن الثقافة العامة وخاصة عن الوظيفة الأيديولوجية للمدرسة العربية هو الذي يجعل التعليم لمدة عشرين سنة على الأقل قابلا لأن يلخص في أقل من نصفها لو تحررنا من الحشو الناتج عنهما كما أبين.
    ولأبدأ بالوظيفة الإيديولوجية: فالمدرسة العربية ورثت عن المدرسة الإسلامية التقليدية ثقافة اللغو مما يسمى علوم الملة الغائية والأداتية وورثت الصراع بين الحداثة والأصالة من المدرسة الفرنسية التي تدعي الثورة على الدين. وهذا هو جوهر ما يسمى بالمدرسة الجمهورية في الرؤية اليعقوبية.
    ولا يكفي أنه يفسد تحصل أي من الثقافيتين لا التأصيلية ولا التحديثية بما ينتج عنه من صراع عقيم بينهما وبين الطلبة -ولك مثال في جيل النكبة الذي يفسر ما عليه تونس اليوم من صراع الهوية-فإن يؤدي إلى تنافس نوعين من الحشو في ما سميته الثقافة العامة والخيارات الإيديولوجية اللتين يكون التكوين بهما “كمن يغذي المتعلمين بالتبن”.
    ولما تعلم أن كلا النوعين من الحشو مضاعف في المدارس العربية لأنه يتألف من ثقافتين عامتين ومن خيارين إيديولوجيين كلاهما لا يبني شيئا إيجابيا في حقيقة الأمر بل همه الأول والأخير هو الحرب على الثاني فهمت مآل المنظومة التكوينية ومضمونها التمويني وعلل التخلف في التأصيل والتحديث في آن: حرب بين كاريكاتورين مما يزعمان تمثيله.
    وبخلاف ما قد يتوهم الكثير فإن ذلك ليس خاصا بالمغاربة. فالمشارقة هم بدورهم تأثروا بالمدرسة اليعقوبية لأن مصر وخاصة باشواتها قبل الاستعمار الانجليزي صاروا يعتبرون البريستيج يستمد من الفرنسية ولأن بعثاتهم الأولى كانت لفرنسا فاستمرأوا سخافات الثقافة العامة والتنوير اليعقوبي المزعوم.
    وبهذا المعنى فالمدرسة العربية ضحية للكاريكاتورين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث وكلاهما إيديولوجي ولا علاقة له بشرطي قيام الأمم:
    • علاج قضايا الرعاية
    • وعلاج قضايا الحماية
    فالرعاية والحماية هما ما من دونه لا يمكن للفرد ولا للجماعة أن يكونا قائمين بذاتيهما قادرين على الاستقلال من التبعية.
    فالكثير من الناس يعتقدون أن التبعية سياسية فحسب. صحيح أن الظاهر من التبعية هو الوجه السياسي وعلاماته البارزة على نوعين:
    • التبعية في الرعاية وعلامتها مد اليد. للمعونات -التسول-الغالب على “فقراء” العرب
    • والتبعية في الحماية وعلامتها مد اليد للحمايات-القواعد-الغالب على “أغنيائهم”.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي