****
-الفصل الثالث –
لكن هل هذا المظهر السياسي -تسول المعونات وتسول الحمايات-سياسي بذاته؟
أم هو سياسي لأن ما كان يمكن أن يغني عنه من طبيعة أخرى هو ما نسبته إلى النخب الأربعة الباقية التي قبلت بأن تعتبر هذا الوضع السياسي حقيقة لا بد من التكيف معها وعدم البحث في عللها لعلاجها وهي من “عندهم”؟
من منا يصدق مع نفسه ولا يعترف بأن النخبة السياسية المعارضة لا تختلف عن النخبة السياسية الحاكمة إلا في مرحلة المعارضة؟ وأنها بمجرد أن تصبح حاكمة لا تتصرف إلا بالتكيف مع نفس الوضعية؟
ولنا في ذلك تجربتان:
- ثورات ما بعد نكبة فلسطين العسكرية أو حقيقة استكمال لنكبة سقوط الخلافة وتقسم جغرافيتها وعلامتها سايكس بيكو نتيجة هذه النكبة وشرط تلك.
- ثورات الربيع العربي أو ما بعد نكبة كل الاقطار العربية بـ”الدولة” القبلية والعسكرية (وهي في الحقيقة محميات وليست دولا). فـمن يجهل ذلك؟
لكن هل النخب الاربع الباقية بصنفي كل واحدة منها بريئة من هذا “التطبيع” مع الوضع والتكيف معه بما يتطلبه من “فساد معاني الإنسانية” الخلدوني؟ هل يوجد ما هو أفسد من نخبة المعرفة بصنفيها عندنا؟
وقس علينا نخبة القدرة بصنفيها ونخبة الذوق بصنفيها ونخبة الوجود بصنفيها: التكيف مع الوضع.
لا أحد يكون صادقا مع نفسه ويمكن أن يرى الاستبداد والفساد مقصورا على النخبة السياسية حاكمها معارضها بل إن ذلك عام وشامل لنخبة المعرفة ولنخبة القدرة ولنخبة الذوق ولنخبة الرؤية الوجودية.
إنها ثقافة عامة نكصت بالإنسان إلى قانون التاريخ الطبيعي فيتكيف مع الموجود ولا يهتم بالمنشود.
ولأذكر بما يعنيه ابن خلدون بفساد معاني الإنسان وطابعه النكوصي في كل مظاهر الحياة الإنسانية: “ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم: - سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل
- وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في=ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه
- وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا
- وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك
- بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين” (المقدمة الباب 6 الفصل 40).
ولا أعتقد أن أحدا يصدق نفسه يمكن أن يعتبر هذا الوصف الخلدوني قاصر وصف حال العرب اليوم في شيء يذكر: فلكأنه يعيش بيننا ويصف ما يجري في نكوصنا إلى منطق التاريخ الطبيعي في مجتمعاتنا.
ونصل الآن إلى الداءين الأخطر من هذين الأولين واللذين أصبحا من علامات الفشل الأصلي لكل فشل: - داء الدولة الحاضنة أعني في الحقيقة الدولة المستبدة بالأرزاق ومن ثم الحائلة دون شروط الحرية الفعلية للإنسان الذي يتحول إلى عالة على إدارة بيروقراطية تحول دون حيوية الجماعة المنتجة لشروط بقائها رعاية وحماية.
- وداء مجانية أهم بضاعة وخدمة في الجماعة لأنها هي الشارطة لكل ما عداها من البضائع والخدمات أعني بضاعة تكوين الإنسان عامة وتكوين المسهم في الانتاج المادي والروحي خاصة.
وبعد هذين الداءين واستكمال المربع المرضي الذي تعاني منه الأمة أصل إلى الأصل الذي تترفع عنه هذا لا دواء الأربعة وهو عين ما آل إليه أمر الامة من انحطاط أعني انحراف الرؤية الدينية والفلسفية في مسارنا الحضاري بسبب الصراعين بين العلم والإيمان وبين القانون والأخلاق تحريفا للإسلام.
فماذا تعني الدولة الحاضنة؟
بخلاف أوهام الكثير من أدعياء الشعبوية والحرية والتنوير الدولة الحاضنة هي بالضبط الدولة المستبدة والفاسدة لأنها تحول ما وظيفته تنظيم حماية الجماعة ورعايتها لذاتها إلى بديل من دور الجماعة الحرة يجعل بعضها مسيطرا عليها بدعوى حمايتها ورعايتها فتصبح جماعة عبيد لا أحرار.
وسأضرب مثالين أحدهما عشته شخصيا والثاني نراه في ما حصل في الثورة السورية مثلا عندما تحولت إلى ما يشبه الحرب الأهلية بعد أن سيطر أمراء الحرب عليها فأفسدوها لأنها من دونهم كانت ستنتصر على النظام ومليشيات إيران وإيران وحتى على بوتين الذي أنقذهم من ثورة الشعب السوري.
المثال الأول عشته شخصيا في التجربة التي سميت بتجربة التعاضد في تونس.
فأنا من البادية ومن أسرة مزارعة. التعاضد كان تأميما متنكرا للأرض والزراعة. صار فرع قبيلتي عمالا عند الدولة ففسدت الزراعة صار الجميع تابعا للسلطة السياسية عامة والحزبية خاصة وفقدت الأشياء قيمها تماما. كنا أحرارا فصرنا عبيدا. كنا نستطيع ألا نحتاج إلى السوق لنعيش لأن كل أسرة كانت في الصيف تضمن أمرين:
• غذاءها على الأقل لسنة مقبلة.
• وبذور زراعتها في الفصل الزراعي المقبل.
ولم يكن للدولة إلا دور واحد: حماية الناس والحقوق في الداخل وحماية الجماعة من الخارج وطبعا بتجنيد الشباب للأمن والدفاع.
لكن الله لطف وتوقفت التجربة فكان فشل ما يسمى بالإصلاح الزراعي دليل نجاح الجماعة في التحرر من استبداد الدولة والمستبدين بها برعايتها.
إلا أن توقفها لم ينه اعتماد العشب على الدولة في الرعاية وتجاوز دورها الحماية. فأصبح جل الشباب عاطلا لأنه ينتظر التوظيف من الدولة وأصبحت الأسر حتى في البادية محتاجة للسوق يوميا بحيث إنه لو حدث حرب مثلا لحصلت مجاعة بعد أسبوع.
المثال الثاني من سوريا وهو أكثر تفاؤلا.
من يكتفي بالمظاهر سيقول إن الحرب السورية وقعت في المدن الكبرى وأن الصمود جاء منها. وهذه كذبة تغطي عن أمر آخر أهم وأعمق. فلو لم تكن الارياف التي حافظت على شروط البقاء في الرعاية المستقلة عن الدولة لانهزمت الثورة السورية بعد أسبوع.
لولا الأرياف واستقلالها الغذائي عن الدولة الحاضنة لاستحال على الشعب السوري الصمود ثمانية سنوات وطبعا هي لم تكف بدليل اللجوء والهجرة لكنها مكنت من شروط البقاء والصمود للثورة والثوار وخاصة لحاضنتها التي حققت غايتين: الاستقلال الغذائي لأسر الثوار -الغوطة مثلا-ومطاولة المقاومة.
وليس معنى ذلك أني ضد التقدم والمدينة واحبذ حياة الارياف لكني أقصد أن المجتمع الاهلي هو الذي ينبغي أن ينتج ما يسد حاجاته ولا تتكفل الدولة بذلك لأنها تقع في خطأين هم سر نكبات الدول العربية في الاقتصاد: - يصبح الاقتصاد مؤمما ويصبح المنتجون موظفين عقيمين.
- تبعية سد الحاجة للاستيراد صارت عامة في بلاد العرب.
وأقوى الأمثلة هي الحالات المحيرة: حالة العراق وحالة الجزائر ناهيك عن حالة السودان.
فهذه البلاد العربية الثلاثة تستورد حاجاتها الضرورية للحياة في حين أنها كبيرة وفيها الماء وسكانها ليسوا قليلا ولها من الثروات ما لا يقدر لو كان شعبها يعتمد على نفسه بدلا من دولة فاشلة تدعي الحضانة.
ونأتي الآن إلى مجانية التعليم.
هي حق يراد به باطل.
أولا التعليم بين بفساده أنه لم يعد مجانيا لأن كل الأولياء يدفعون ما هو أكثر من عدم المجانية أعني كلفة الدروس الخصوصية. وهي فساد مضاعف: لأنها ليست استكمالا للتكوين في المدرسة الرسمية بل هي بديل منه وهي بديل فاسد لأنها رشوة الولي للمعلم للحصول على الدرجات وليس على التكوين المكمل لتكوين صار شبه مفقود في المنظومة التربوية الرسمية.
وهو فاسد لأنه ليس للتكوين بل هو بنحو ما رشوة للحصول على العلامات وليس على التكوين. ذلك أن التكوين لا يمكن أن يحصل في الدروس الخصوصية إذا لم مكملة للدروس الرسمية. فإذا صارت تلك بديلا من هذه التي لم تعد تقوم بواجبها فمعنى ذلك أن المدرسة الرسمية ضياع وقت الخصوصية رشوة للإيهام.
تلك هي الأدواء الفرعية الأربعة ذكرتها وحاولت تشخيص دلالتها ووصلتها بكل ما تعاني منه الأمة معاناة جمعها ابن خلدون في مفهوم “فساد معاني الإنسانية” وفي مفهوم “العالة”.
نحن أمة صارت عالة على غيرها لأنها لم تعد قادرة على تكوين الإنسان التكوين الذي يحقق شروط الرعاية والحماية الذاتيتين له ولأمته.
والسؤال الآن هو لماذا اعتبرت ذلك ناتجا عن تحريف الإسلام الذي أدى إلى انحطاط الامة بسبب الصرع بين المتكلمين باسم الإيمان والمتكلمين باسم العلم في النظر والعقد (متكلمون وفلاسفة) وبسبب الصراع بين المتكلمين باسم الأخلاق والمتكلمين باسم القانون في العمل والشرع (فقهاء ومتصوفة)؟
بمعنى فلسفي -وهذا هو منظوري للأمر-لماذا اعتبر أصل الداء هو تحريف الإسلام من خلال تحريف رؤيته للنظر والعقد في مجال سيادة الإنسان على شروط مهمته الأولى أي الاستعمار في الارض ورؤيته للعمل والشرع في مجال سيادة الإنسان على شروط مهمته الثانية أي الاستخلاف فيها؟
كل من يدعي أن علوم الملة الخمسة وعلومها المساعدة أو علوم الأداة فيها يكذب إذا زعم أنها يمكن أن تعالج هذين الوجهين من وظيفة النظر والعقد لتعمير الأرض وسد الحاجات الأساسية لوجود الإنسان العضوي أو من وظيفة العمل والشرع للاستخلاف فيها وسد الحاجات الأساسية لوجود الإنسان الروحي.
ولهذه العلة ما تزال الأمة تعيش إما على الثروات الطبيعية والزراعة البدائية-تدين باستخراجها وتحويلها إلى الاستعمار-أو إلى التبادل اللامتكافئ ببيع المواد الخام واستيراد ما بات ضروريا لحياة غير بدوية مع ذهنية بدوية لأن من ليس له ما بين الطبيعة والحضارة من أدوات لن يخرج من البداوة.