مأساة التربية النظامية واللانظامية العربيتين – الفصل الأول

****

-الفصل الأول –

لماذا يمكن الجزم بأن إصلاح التربية والتعليم في أي بلد عربي صار مستحيلا؟
وهو ليس الوحيد من حياتنا الجماعية على هذا الوضع الحائل. فمآزقه تراكمت لعلل كثيرة.
وسأكتفي بالكلام عليهما في تونس.
فالوضع لم يعد بالإمكان علاجه بدون عملية جراحية كبرى. لكن ذلك يقتضي التشخيص الأمين.
وكل تشخيص أمين ينطلق من منظومة معايير تقاس بها الحالة كما في الطب مثلا حيث إن ما يريد تحديده هو حالة البدن بمعايير تتعلق بوظائفه والمعدلات التي تعتبر الصحة موجودة أو معدومة بمقتضى ما تحدده من هامش بين الأدنى والأقصى الذي يعتبر سليما وما دونه وما فوقه يتعبر دالا على خلل صحي.
وكل وظائف المجتمعات ودولها خاصة -تسليما بأن لنا دولا لأنها عندنا محميات وليست دولا بسبب عدم توفر رمزي السيادة أي القدرة على الرعاية على الحماية الذاتيتين-تخضع لهذا النوع من التعيير المشروط في التشخيص.
ويمكن رد هذه المعايير إلى جنسين:
• نوع الإنسان المطلوب
• بأدواره في الجماعة.
والجنس الأول-نوع الإنسان المطلوب-أعسر تحديدا لأنه ينتسب إلى الأكسيولوجي.
والجنس الثاني-وظائف الإنسان في الجماعة-أيسر لأنه ينتسب إلى الإبستمولوجي العام والمطبق على الوظائف التي يؤديها الفرد في الجماعة وهي على نوعين في نظام التبادل أو توزيع العمل وفي نظام التواصل شرط حكم الجماعة لذاتها.
ومثلما أن الجنس الإبستمولوجي على نوعين فكذلك الجنس الأكسيولوجي على نوعين لأن الإبستمولوجي يتعلق بالشروط التقنية في النظر والعقد لعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة لسد حاجاته بالتبادل والأكسيولوجي يتعلق بالشروط القيمية في العمل والشرع لعلاقة الأفقية بين البشر بالتواصل.
وبذلك فقد حددنا سلم المعايير التي تمكن من تحديد السوي وغير السوي في مسألة التربية والتعليم بوصفها بهدفين هما:
تكون الإنسان بمعايير سأحاول بيانها وقد سماها ابن خلدون معاني الإنسانية
وإعداده لوظائف في حياة الجماعة التي ترعى نفسها وتحميها سأحاول بيانها وهي شروط العيش المشترك. وتيسيرا لتحديد هذا السلم المحدد للمعايير التي تشبه معايير الصحة والخلل الذي يمكن تشخيصه فيها فيمكن الاقتصار على عنوان مقدمة ابن خلدون:

  1. شروط العمران
  2. شروط الاجتماع.
    فالأولى تساكن للتعاون في سد الحاجات: في الرعاية والحماية.
    والثانية تساكن للتواصل في الانس بالعشير: تعايش وأنس.
    وإذن خمسة معايير سنحاول تطبيقها لمعرفة الحالة الصحية لنظام التربية والتعليم في بلاد العرب عامة معتبرين تونس عينة منها:
    • هل يصلح معاني الإنسانية أم يفسدها في:
    • تحقيق شروط الرعاية
    • تحقيق شروط الحماية
    • تحقيق التعايش السلمي
    • تحقيق التآنس أم التناغص بين البشر.
    لا أعتقد أني بحاجة للجواب في الأسئلة الأربعة المتفرعة عن الاول.
    فالجميع يعترف بأن نظام التربية والتعليم لا يحقق شروط الرعاية (كل العرب متسولون بمن فيهم من يتصورون أنفسهم أغنياء من أصحاب الثروة الطبيعية) ولا شروط الحماية (كل اقطار العرب محميات) ولا شروط التعايش ولا أخيرا التآنس.
    لا أعتقد أنه يوجد عربي واحد إذا صدق نفسه القول يمكن أن يقول إن نظام التربية والتعليم في بلادنا يحقق شروط الرعاية والحماية الذاتيتين أو يحقق شروط التعايش السلمي في الجماعة أو خاصة شروط التآنس فيها بل ما نراه هو التسول في الرعاية وفي الحماية والتناحر والتناغص في كل بلاد العرب.
    وما يزعجني حقا هو التشخيص الساذج الذي يرد ذلك كله إلى النخبة السياسية وينسى أنها هي بدورها منتج هذا النظام التربوي والتعليمي الذي -وهنا يأتي دور ابن خلدون-صار مفسدا “لمعاني الإنسانية” في كل النخب الخمسة حتى وإن بدا المرض في النخبة السياسية خاصة بسبب ما لها من سلطان هو رمز الفساد.
    لكن التشخيص الذي أنوي عرضه يجعل “السلطان” الذي يفسد معاني الإنسانية ليس مقصورا على سلطان النخب السياسية بل هو موزع على النخب الاربعة الباقية: نخبة المعرفة ونخبة القدرة ونخبة الذوق ونخبة الرؤية الوجودية. وكلها مضاعفة مثل النخبة السياسية التي هي نوعان: حاكمة ومعارضة.
    • فنخبة المعرفة مضاعفة طبيعية وإنسانية
    • ونخبة القدرة مضاعفة مادية (الاقتصاد) ورمزية (الثقافة)
    • ونخبة الذوق مضاعفة (الفنون والملاهي)
    • ونخبة الرؤى مضاعفة (المنظور الديني والمنظور الفلسفي).
    وإذن فنحن أمام عشرة سلاطين كل واحد منها له سهم في الوضع المتردي لنظام التربية والتعليم.
    والسهم مضاعف: مباشر لأن لكل من هذه النخب دور في التربية والتعليم النظاميين (خلال حياة التمدرس) وله دور في المناخ العام الذي هو أيضا نظام تربوي غير نظامي هو نظام التبادل وتوزيع العمل ونظام التواصل وملء الوقت في ما عداه من الحياة المشتركة بين البشر أو أوقات “الأنس” بالعشير.
    وأفضل مثال يبين القصد بهذين القسطين من المسؤولية المباشرة غير المباشرة هو فساد نظام الانتخاب في التربية النظامية وفي التربية العامة. فالانتخاب في التعليم لا يعتمد على قدرات المتعلم وكفاءته بل صار محكوما بمعيار الوساطة والعلاقات المستفيد من الوضع المتردي للمعلمين والحط منهم.
    والأخطر منه هو فساد نظام الانتخاب في النظام التربوي اللانظامي أعني في التوظيف بعد التخرج. فهنا يغيب تماما دور القدرات والكفاءة ولا يبقى إلى دور الوساطة والجاه والسلطة التي لأصحاب الجاه ما يجعل التعليم النظامي وكأنه أمر لا فائدة منه ولا معنى له فضلا عن كون الشهادات مغشوشة.
    والمسألة في الحالتين ليست مسألة أخلاق بالمعنى العادي فحسب بل هي فساد نسقي لشروط التبادل ولشروط التواصل يؤديان إلى الفشل المطلق في علاج العلاقة العمودية بالطبيعة (مسألة ابستمولوجية تؤدي إلى الفشل المعرفي التقني: لا وجود للعلم وتطبيقه): مناخ الخصاصة علة صراع سد الحاجات الأولية.
    والأهم من ذلك الفشل المطلق في علاج العلاقة الأفقية بين البشر (مسألة أكسولوجية تؤدي إلى الفشل الروحي والخلقي: لا وجود للتعارف وتطبيقه): مناخ التنافس في الندرة الماحقة تؤدي إلى صراع المنازل في السلم الاجتماعي ليس بشروطه المشروعة بل بالتحيل والغش والخداع “فساد معاني الإنسانية”.
    والحصيلة أنك لا يمكن أن تفهم ما يجري في مجتمعاتنا بالنظر إليه على أنه مجتمع إنساني يخضع للتاريخ الحضاري بل هو مجمع ما دون إنساني يخضع للتاريخ الطبيعي لكنه معكوس: في التاريخ الطبيعي إن سلمنا به وهو الظاهر يكون التغالب مفيدا للانتخاب الطبيعي لأنه خاضع لعوامل القوة العضوية.
    لكنه في المجتمع الإنساني دليل نكوص وليس تغالبا بما يتميز به الإنسان من قوة بل بما يتخلى عنه الإنسان من شروط قوته ـأي قدراته العقلية وصفاته الخلقية. فينعكس عنده سلم الانتخاب: في البايولوجيا سلم الانتخاب هو القوة الحيوية. ومن المفروض ان يكون عند الإنسان القوة العقلية والخلقية.
    لكن ما نصفه من فساد في النخب الخمسة المضاعفة يقلب العلاقة فيبعد هذه القوة ويعوضها بقوة السلطة في الإرادة حكما ومعارضة وفي المعرفة طبيعية وإنسانية وفي القدرة اقتصادا وثقافة وفي الذوق فنا ولهوا وفي الوجود دينا وفلسفة: كل ذلك يصبح مغشوشا بسبب “فساد معاني الإنسانية”.
    وداهية الدواهي هي أن الأطراف الخمسة المتدخلة في التربية النظامية كلها دون استثناء مشاركة في هذا الإفساد النسقي بل وتدفع من اجله الاموال حتى يبقى ساري المفعول. فالأطراف الخمسة هي:
    • 1 و2 المتعلم والمعلم
    • 3 و4 أهل المتعلم والمحتاجون للمتعلم أو رجال الاعمال
    • 5.الدولة.
    وكل هؤلاء يسهمون في إفساد التربية بمستوييها:
    • التكوين العلمي أولا بعدم إيلاء أهمية لـأمانة التكوين الحقيقي في العلم بحد ذاته والكفاءة المترتبة عليه.
    • والتكوين الخلقي بعدم إيلاء أهمية لعدل الانتخاب والترتيب العادل للمتعلمين بحسب المؤهلات والكفاء الفعلية.
    ولأبدأ بالواضح والبين: الأولياء ورجال الأعمال.
    فالولي الذي يدفع المال لينجح أبنه دون أن يعنيه تكوينه السليم هل يسهم في الغش أم لا؟
    ورجل الأعمال الذي يوظف بالوساطة ولا تعنيه الكفاءة هل يسهم في الغش أم لا؟
    ثم الدولة التي تغض الطرف عن ذلك هل تسهم في الغش أم لا؟
    ولنأت الآن إلى الطرفين اللذين من المفروض أن يكونا منزهين عن الغش.
    فالمتعلم حتى لو لم كن يطلب التكوين السليم لذاته فمن المفروض أن يطلبه لأنه شرط نجاحه في معترك الحياة.
    لكن لما يعلم أنه لم يعد شرطا فإنه يصبح مسهما بقصد في الغش نعم في غش نفسه بأن ينجح حتى بالغش في الامتحان.
    والمعلم من المفروض أن يكون أمينا ونزيها حتى بسبب احترامه لنفسه. لكن احترام النفس لا يمكن أن يصمد أمام مجتمع لا يحترم إلا النجاح المادي ويهزأ ممن يتكلم على النجاح الخلقي بل يعتبر المتمسكين به سذجا ويحتقرهم. فإذا أضفنا الوضعية المادية المزرية فقد نفهم ما يدفع إلى نفس الخلل.
    وللمعلم وظيفة ثانية أهم حتى من التعليم: إنها وظيفة الانتخاب.
    فكما بينت في محاولة الانتخاب يصعب التعليم اكتشاف المواهب وترتيب المتعلمين بمقتضى سلم يكون فيه المعلم حكما. والحكم اشترط فيه القرآن شرطين (النساء 58): الأمانة والعدل.
    وغالبا ما يتعلق الفساد الخلقي في وظيفة الانتخاب بهذين الوجهين من وظيفة التعليم فضلا عن الخلل العلمي والمنهجي اللذين يمكن إصلاحهما بسهولة.
    لكن الأمانة للقيم الانتخابية والعدل في الترتيب في السلم الناتج عنها هما مناط الصلاح والفساد في التعليم وخاصة في نتائجه لاحقا عندما ينتقل المتعلم من مرحلة التحصيل إلى دوره في الجماعة من خلال تقسيم العمل والمحل الذي سيشغله فيه. وغالب نكبات الأمة في الانتاجين المادي والثقافي وفي القيام عليهما عندما يكون المرء مكلفا بإدارتهما والسهر عليهما سواء في مسؤولية مباشرة او في مسؤولة على المسؤولية المباشرة (السياسة) تضيف فساد الانتخاب الثاني في العمل بعد فساد الانتخاب في التكوين.
    بعد هذا التشخيص الذي حرصت فيه على الأمانة والصدق والذهاب بالأمر إلى غايته دون الخجل من بيان ما عليه حال التربية في بلاد العرب ولا اظن ما وصفت في تونس هو الأسوأ فاعتقد -نظرا إلى ما رايته في مصر وما سمعت عنه في الخليج-أن الوضع في تونس هو “مما يختار من الهم” (مثل تونسي).

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي