ه
ما دمت تكلمت في السياسة وبدأت بمن اقترحت عليهم التفرغ لما هو أهم من السياسة المباشرة لإخراج تونس مما تردت إليه بسبب ستين سنة من التحريف النسقي لكل وظائف الدولة والمجتمع بسبب التحديث المستبد وسلطان المافيات الذي كان في يتنامى بقدر غرق بورقيبة في الشيخوخة والمرض-تسليما بأن تونس “دولة” في عصر العماليق بدخل خام لا يتجاوز ميزانية شركة متوسطة في الدول المتوسطة-وقد ذكرت هذه الوظائف العشر خمسة للحماية وخمسة للرعاية الثورة فضحتها ولست علتها.
والآن سأتكلم على من يحلمون بأثر حكمة تبديل السروج فيه راحة بخطة تحميل من يبدون قد حكموا بعد الثورة -حصرا في النهضة ومن حالفها-ما فضحته الثورة من آثار الستين سنة وكأنه من نتائج الثورة فأصبحت المرحلة التي تشبه بلوغ الأعراض ذروتها علة الأعراض وليست علة إبرازها وبيان أصحابها.
وأكثر من ذلك فإن أصحابها سرعوا الداء حتى يستغلوا خرافة عدم كفاءة الحكام الجدد بتخريب كل شيء وتعطيل كل شيء وتهديم كل شيء بقصد تعجيز البلد والعودة إلى حكمها من جديد حتى في ظاهر الحكم لأن باطنه لم يخرج من أيديهم في كل أنشطة الدولة والمجتمع ظاهرها وباطنها لأن المافيات ازدادت تغولا.
ولست أنفي بذلك أن للثورة اثرا أساسه سذاجة من كانوا يتصورون ان الثورة لها عصا موسى السحرية بحيث تحقق كل المطالب في لمح البصر. فكانت الفوضى بعضها طبيعي لأنه يعبر عن مطالب ظلت مكبوتة لعقود وجلها اصطناعي من قبل من يداوي الثورة بدائها. وهنا أذكر بقصة الباجي لما عينته المافية للحكم (بشهادة أحد وزرائه).
وأقصد قصة التارزي الروماني وكيف سيخيط لرئيس السوفيات كسوة تعجبه بدلا من التارزي الإنجليزي ويقصد أن الشعب التونسي لا يستاهل الحكم السابق وسيشارك في خياطة حكم أفسد وقد فعل قبل الانتخابات وخاصة بعدها بالكوكتال مولوتوف الذي سماه تقليدا لدوجول -وشتان بين الثرى والثريا-نداء تونس.
وكان معول التهديم النسقي ما اعتبرته ثمرة عفوية للثورة عند المحرومين وخطة استراتيجية عند أعداء الثورة وخاصة الاتحاد المخترق بيتامى اليسار والقومية الذين خدموا النظام السابق ولا يزالون وخاصة المافية التي كانت تناوشه في أواخر أيامه توهما بأنهم الوارثون بعد سقوط ابن علي فرفضهم الشعب في أول امتحان حيث أهين من لم يعلم أن العشب لا يقبل أن يهان.
وهؤلاء هم من يعتمدون “تبديل السروح فيه راحة” وقد انضم إليهم مافيات الإعلام وما يسمى بالمجتمع المدني وهو في الحقيقة المجتمع اللاوطني الذي يتدثر بالخدمات الاجتماعية الإنسانية والثقافية أصولا تجارية كانت بضاعتهم في حقوق الإنسان الذين يريدونهم دائما بضاعة “حقوق الإنسان” لعاقي الأوطان من الولدان. فتونس تعرف المجتمع الأهلي الغني عن التمويل الاجنبي. أما ما يقوم على التمويل الأجنبي فهو بالجوهر في خدمة مموليه لأنهم لا يتصدقون لوجه الله.
لكن العجيب الآن هو أن الشق الثاني الذي يقول “بشد مشومك لا يجيك ما أشوم” هم أيضا ممن استفادوا ممن يعتبرونهم مجرد “مكينة” انتخابات توصلهم إلى كراسي الحكم وهم من توابع النظام القديم أغلبهم كانوا مندسين في أحزاب الترويكا ثم انسحبوا منها بفضل تجارة النواب في سوق النخاسة السياسية أو ممن صار لهم وجود سياسي خلال تلك التجربة.
والآن يمكنني أن أصنف هذه النخبة السياسية التي فتحت “أصولا تجارية” لخوض الانتخابات حتى صار عدد الأحزاب أكثر من عدد النواب وأصبح جلها يعتمد على علم تشرح أعضاء بدن تونس وكلهم يدعون للوقوف معها بإيقاف حياتها التي صارت مجرد سوق ودلال في نخاسة خدمة الاختراقات من كل حدب وصوب.
حتى إن آخرهم وأكثرهم تجارة بالوطنية أصبح يدعو جهارا نهارا إلى تحويل تونس إلى ولاية أمريكية بتمويل من الثورة المضادة. وجلهم صار مثل النظام السابق يريد استعمال قوة الدولة للتدخل في ما ليس من مهام السياسة بل من مهام الحوار الثقافي والعقدي للجماعة تحسمه باعتباره صاحب السلطة الأصلية ولا يحق لأي أحمق من هؤلاء الذين يتعلمون الحجامة في رؤوس شعب ما يزالوا يتصورونه من اليتامى.
وحتى لا يبقى كلامي غامضا. فجل الحزيبات الجديدة التي صعدت على أكتاف الترويكا وجل ما يسمى بالمستقلين الذين تبنتهم النهضة وجل من خرجوا على المرزوقي ممن كانوا أقرب أعضاده إليه وجل من كانوا مع ابن جعفر وكل من تصور السبسي أنه يمكن أن يعمل منهم شيئا بديلا من حزب الدستور -خوفا من أن يتهم بكونه يواصل حزب ابن علي-لا علاقة لهم بالسياسة بمعناها السامي بل هم حسب رأيي المتواضع ذباب حول وهم عسل السلطة: مهما انتفخت أوداجهم بالقياسات الوهمية لبورسة الوجوه التي يلهون بهم الشعب على أنهم زعماء.
والمعركة الانتخابية إذا حدثت فعلا وعلمت النهضة كيف تقودها فهي ستعود في الغاية إلى الأصل قبل الثورة وحتى قبل ابن علي. فالأحزاب الطفيلية التي كانت تناور باسم الإنسان وحقوقه وهو آخر همومهم لا وزن لها وحتى الاتحاد فهو قد فقد المصداقية لفرط اندراجه في مناورات المرحلة. والإنشاءات الجديدة فلكورية حتى بشعاراتها.
المعركة هي بين القوتين الكبريين: ما كان يسمى بالدستور ثم التجمع من جهة وما كان يسمى بالحركة الاسلامية ثم حزب النهضة من جهة ثانية وهما صفا الحركة الوطنية من البداية في ثلاثينات القرن الماضي. فلا تزال نفس الرهانات بل ونفس الاصطفافات وخاصة في المدن الصغيرة والقرى والبوادي.
ولهذه العلة فقد توسمت خيرا -رغم علمي بتوظيف الثورة المضادة العربية لها-في محاولة إحياء الحزب الدستوري حتى ممن خانوا بورقيبة لما وقع عليه الانقلاب وعاشوا في حضن ابن علي فسكوتهم عن ابن على فيه نقد ذاتي لأنهم لا يريدون أن يذكر الناس خيانتهم لبورقيبة. ومجاراتهم مفيدة لوضوح المعركة.
فالمجاراة جزء من استراتيجية “الفلايتوكس” للذباب الذي نتج عن تفتت الحزب الذي كان حاكما وما ترتب عليه من خلط للأوراق ما يجعل الصف الثاني الذي صار يسمى إسلاميين وهم ثعالبيون مقابل الحزب الذي صار يسمى تجمعيين وهم بورقيبيون يستعيد هو بدوره تماسكه ويتخلص مما التف حوله من ذباب.
فإذا استعادت القوتان متانتهما أمكن لتونس أن تنجح في بناء الديموقراطية الفعلية التي من شرط نجاحها وجود قوتين كبريين قد تعملان معا وقد تتداولان على الحكم لأن كل من يعارض هذه الخطة -الحلف النزيه لإخراج تونس من معركة تجاوزها العصر لأعداد التداول لاحقا لا يعيش اللحظة وسيخسر السباق.
والمعلوم أني من البداية بل ومنذ أول خطاب سياسي في أول يوم للحملة الانتخابية التي شاركت فيها وكانت في ملعب سيدي بوزيد دعوت إلى هذا الصلح -صلح الأنداد-بين فرعي الحركة الوطنية حركة التأصيل (الثعالبي) وحركة التحديث (بورقيبة) من أجل وحدة تونس وإنجاح الثورة بصورة سلمية وديموقراطية.
فالنغمة الجديدة عند بعض الذين يدعون أنهم بورقيبيون والتي تردد نية الحرب على الإسلاميين بمعنى استئصالي يتجاوز المعركة السياسية إلى المعركة الحضارية ليسوا بورقيبيين إذ إن بورقيبة يختلف في فهم الإسلام لكن حزبه لم يكن يوما استئصاليا فالمدرسة الرسمية كانت تعلم حزبين من القرآن.
ولم نسمع حملة على الكتاتيب أو على الآذان أو على التربية الدينية وكل ما يلام عليه بورقيبة كان ذا علاقة بأثر الدين على السياسة لأنه كان يعتبر غالب رجال الدين كانوا عملاء ولنا في تعليم أبنائهم أكبر دليل على أنهم الرسميين منهم كانوا متواطئين ببرجماتية “العياشية والخبزيست”.
فإذا عادت القوتان وتحددت متانتهما ممثلين ليمين اليسار (البورقيبية) ويسار اليمن (الثعالبية) فإن اليسار ومعهم القوميون واليمين ومعهم الطائفيون سيصبحون هامشيين أو في أقصى الحالات خزانات إضافية عندما تتقارب القوتان فيكون الحسم الانتخابي بمن يغريه الحكم منهما ومن الوسط الانتهازي.
سيجادل القشوريون في تسمية البورقيبية بيمين اليسار وفي تسمية الثعالبية بيسار اليمين. والعلة هي الجهل بمعنى المفهومين. فبورقيبة علماني واجتماعي الرؤية لكنه ليس ماركسيا والثعالبي أصلاني واجتماعي لكنه ليس سلفيا بالمعنى المتأخر والمتخلف الحالي. وهما يشتركان في البعد الاجتماعي.
تقابلهما في المرجعية المؤسسة للخيارات الاجتماعية فلسفي وضعي عند بورقيبة وديني لا يقبل الوضعية عند الثعالبي لكنهما متقاربان سياسيا في ما يتعلق بالغايات ووظائف الدولة كالحال بين ييمن اليسار ويسار اليمين في الانظمة السياسية الحديثة. وإذن فهما قوتان سياسيتان حقيقيتان بالمعنى الحديث.
أما الطرفان اليسار واليمين بالمعنى الذي يقابل بين الشيوعية الكنسية فهما لا يعملان في الغرب إلا في الازمات وبمنطق الشعبوية والبوجاديسم. ولا يمكن أن يصبحا حزبين قادرين على الحكم في العالم الحديث لما فيهما من تعصب وانغلاق افق ولعل أبرز علامة هي يسار تونس ومسلفيوه: والقوميون لا شيء.
أما الاتحاد فكما بينت حتى عندما كنت مستشارا في ندوات وفي كتابات وحتى في نقاش مع بعض زعمائه فقد “فاته القطار” ما يزال خطابه تابعا لعقلية النقابات الشيوعية الفرنسية بكوادر ترجزت وبلغ الفساد والاستبداد فيها غلى النخاع ومن ثم فهم في حالة احتضار وما قوتهم الظاهرة إلا بسبب ضعف الدولة.
صحيح أن هذه المعادلة السياسية يخفيها مشكل صراع الحضارات الداخلي المستورد والذي ورثه أدعياء الحداثة تصديقا لخرافة صراع النماذج الحضارية التي هي أصل التحديث المستبد تقليدا للاستعمار ولخرافة ضرورة عموم البرجوازية لتجاوزها الليبرالي (هيجل) أو الشيوعي (ماركس). لكن ذلك خرافة.
فالبنية السياسية في كل المجتمعات هي ما وصفت لأن المعادلة السياسية هي نسبة بين دور الاقتصادي ودور الاجتماعي في برامج الأحزاب عندما يكون النظام محكوما بموقف الناخب. والناخب يحدد موقفه خاصة بهذين العاملين ويأتي بعد ذلك مشكل الهوية والحضارة إلا عند الطرفين الأقصيين اليمين واليسار.
ويمكن أن أقول إن تاريخ فرنسا -وقد عشته عيانا خلال دراستي في فرنسا-هي ما تحقق من تهميش لليسار الماركسي واليمين الديني فيها بفضل ذكاء دوجول وخلفائه بالنسبة إلى اليمين ومتران وخلفائه بالنسبة إلى اليسار فلم يبق للحزب الشيوعي وللحزب اليميني أدنى أمل في حكم فرنسا وقبل ذلك ألمانيا.
ففي سنة 1964 كانت أولى زياراتي إلى ألمانيا وأنا تلميذ في الثانوية -السنة الرابعة قبل الباكالوريا بسنتين-ضيفا على الحزب الاشتراكي الألماني مع مجموعة من 60 شابا ذكورا وإناثا وقضينا فيها أسبوعين وزرنا جدار برلين وتعرفنا على أقسامها المحتلة التابعة لأمريكا وفرنسا-وكنت حينها ممثلا للشبيبة المدرسية التابعة للحزب الحر الدستوري-فرأينا معنى تعاون الحزبين ودور النقابات المبدع.
وعندما أقارن دور النقابات الألمانية بالنقابات الفرنسية التي يحاكيها الاستبداد الفساد النقابي التونسي وعندما أعلم أن ذلك له صلة كذلك بالفرق بين العلمانيتين الفرنسية والالمانية أفهم علل تخلف النخب العربية عامة التي تدعي الحداثة اليعقوبية والنخب التونسية خاصة أفهم علتي أمراضهم.
ولا يعني تعريف السياسة بدور الاقتصادي والاجتماعي في البرامج الحزبية نفي دور المعارك القيمية والمرجعية. لكن السياسة الحديثة فصلت ببين النوعين واعتبرت هذه تابعة للجدل المجتمعي وعندما يحتد الجدل تلجأ الأمم الراقية إلى راي الشعب بالاستفتاء ككل الشعوب التي تعتبر مصرها بيدها هي.
فعندما أسمع “الشلايك” الذين لا وزن سياسي لهم يريدون استعمال قوة الدولة لتغيير عائد الشعب في أي مجال من المجالات أفهم أنهم في أعماقهم يتصرفون تصر المستعمر مع الأنديجان. فهم إذ يحتقرون شعوبهم ويعتبرونها متخلفة وهم مكلفون بما برر به الاستعمار قتل التنوع باسم التقدم التهديمي للتعدد.
ومن عيوب السبسي وهو في أرذل العمر أراد أن يتصرف كأرعن وصي على شعب يريد أن يخيط له كسوة مثل القصة التي حكاها في اليوم الأول الذي عينته فيه المافية حاكما على الثورة في لحظات عدم بروز قواها المؤثرة فأراد أن “يلغم” مسارها وقد نجح لكنه نجح في مآل توقعته: نهاية بائسة مثل بورقيبة.
ولما دعاني بعد أن حييت موقفه من إغراء المخلفين من الأعراب للانقلاب على نتائج الانتخابات وبقينا نتكلم في شؤون تونس مدة ساعة نصف لم أخف رأيي فكلمته على شروط الخلود في التاريخ إذا كان يريد أن ينزل منزلة زعيم: أن يصلح ما أفسده بورقيبة في شيخوخته وأن يحقق معالم فعلية وليس أصناما لا دلالة لها في شعب يكفر بكل ما هو صنم حتى لو ركب جوادا عربيا.
ووعد بمتابعة الأمر لكني لم أسمع ركزا فقد كلمته على مركز ابن خلدون ومركز علمي ديني لشبابنا في الغرب بجانب دار الثقافة التي هي من المعالم التي يمكن للزين أن يفخر بها وأن يعيد للقيروان دورها وأن يحقق الصلح بين البورقيبية والثعالبية حتى تستأنف الحركة الوطنية دورها التاريخي.
لكنه ضيع الفرصة. ولعله كان مأمورا كما قال ذات مرة في كلامه على “المسؤول الكبير”. لأني لا اعتقد أنه قليل الفطنة ولا الذكاء حتى يفهم أن التاريخ سيذكره بقانون المخدرات وبأصنام بورقيبة وبمشروع الفرائض وهي كلها ليست من مهام الدولة الحديثة بل من مهام المجتمع في الشعوب الحرة.