لماذا لا ينتصحون ؟

لم أفهم علة تمسك الساسة العرب حتى بعد الثورة بالكراسي. كتبت في الصائفة الماضية نصا نصحت فيه كل الذين شرفتهم الثورة بأن أسهموا في وضع أسس الجمهورية الثانية أن يتجنبوا ما يعيبونه على النظام القديم من مرض التمسك بالكرسي وعدم تركه إلا إلى القبر اختيارا أو اضطرارا.
نصحت الرؤساء الثلاثة (المجلس والحكومة والدولة) بأن يبقوا على الحياد في المعركة الانتخابية التي ستلي الانتهاء من وضع الدستور وحكومة الانتخابات التوافقية. لكن لا أحد منهم انتصح. أحدهم ترشح للنياية والآخران للرئاسية. وفي ذلك حسب رأيي حد مما كان يمكن أن يحصلوا عليه من تشريف في المجتمع والدولة.

وأعلمت رئيس الدولة بأنه أكرم له أن يبقى رئيسا أشرف على مرحلة كتابة الدستور من أن يخوض معركة خاسرة سواء ربح الانتخابات أو خسرها. وذكرت لمستشاره الذي اقترح علي الانضمام إلى لجنة مساندته بأني سأعمل كل ما أستطيع لمنعه من البقاء رئيسا لأني لم أكن موافقا على اختيار النهضة له حتى في المرة الأولى. ومع ذلك يتجرأ الصديق المستشار فيدعي أن أغير رأيي بسرعة دون أن يقدم أي مثال من ذلك رغم أن الأمثلة في حقبة المشاركة في الحكم بينت أني الوحيد الذي بقي ثابتا على المبدأ واستقال بعد سنة ولم يدخل حزبا للحصول على كرسي.

لماذا المعركة خاسرة بالنسبة إلى المرزوقي سواء نجح في الانتخابات أو فشل فيها؟
إذا ربح فلن يبقى في الكرسي إلى إذا قبل بذل أشد من الذي عانى منه طيلة السنوات الثلاث الماضية. وهو لعمري لا يليق بمن يحترم نفسه. لكن الأخطر من ذلك كله: سيقبل بالسلوك الاستئصالي الذي سيمارسه اليسار بعد أن يقنع بقية النداء بأن النهضة هي التي أوقعتهم في هذا المأزق ومن ثم فسيضحي المرزوقي بمن اعتبرهم “نعاج بانيرج” من شباب الثورة عامة والنهضة خاصة حتى يتم مدته.
وإذا خسر فإن ما سيحصل من صدمة للشباب قد يؤدي إلى أحد أمرين أحلاهما مر: إما أن البعض منهم سينحرف إلى العنف أو أنهم جميعا سيصابون بإحباط ليس له مثيل ما يعني أن دعي الثورة سيكون قابرها.

لكن وهذا هو الأهم: إحياء كل النعرات للوصول الى الكرسي مع العلم بأن وجوده عليه لن يغير من الأمر شيئا بل هو سيسرع الصدام وقد يؤول الأمر إلى ما لاتحمد عقباه خاصة ونجاحه يعني أن النهضة بدأت الصدام ضد النداء فيسرت محليا وإقليميا ودوليا على اعتبارها خلية من خلايا الإخوان التي جرموها واعتبروها ممثلة للإرهاب والتكفير ما يعني أن الاستئصاليين في النداء لن يحتاجوا إلى كبير عناء لتحقيق حلمهم.

وأخيرا فإن النهضة -التي لم أنتسب إليها في حياتي فضلا عن أن أكون من قادتها-إذا ظلت طامعة في الحكم ولو شكليا فذلك دليل على أن قياداتها جاهلة بشروط السلامة السياسية حتى عند العزم على مساعدة البلاد للخروج من أزمتيها الأمنية والاقتصادية.

فإما أن المشاركة تكون بحسب الحجم الحقيقي حتى تنال عوضها في مسؤولية ما سيؤخذ من إجراءات صارمة وغير شعبية لتحقيق النجاة للبلاد (أي أن تكون القوة الثانية في السلطة التنفيذية وليس كأي حزب آخر بعد الأول) أو أن تبقى في المعارضة الإيجابية حتى لا تتحمل إلا ما تقبل بمساندته من القرارات بوصفها معارضة.

لذلك فكل ابتزاز أو تطميع ينبغي ألا يدخل في حسبان قرارت النهضة بخصوص الدور الثاني: رأيي من البداية أنها ينبغي ألا تصوت لأي من المرشحين وأن تختار الورقة البيضاء لتبين أنها صف ثالث يوحد التوانسة ويرفض الاصطفاف لأي من المغامرتين:

  1. مغامرة ممكنة لإعادة النظام القديم بغلبة اليسار الاستصالي : منظومة ابن علي معدلة لصالح اليسار الذي كان كمبارس فيصح التجمع هو الكمبارس.
  2. مغامرة الثوري المزيف الذي يفتت الشعب ببهلوانيات ليس له وسائلها. لذلك وصفته بكونه قدافي مفلسا وتلك هي حقيقته: الثورة لا يمثلها من ليس له قاعدة أو من يطمع في افتكاك قاعدة النهضة وهو وهم لأن الكثير -ولست الوحيد -سيحول دون ذلك بكل الوسائل.

وفي الأخير فإن كل تحليل موضوعي يجعل ما سيجري محكوما بأمرين:

  1. موقف السبسي الذي يحدده سنه وصحته: فليس له الوقت الكافي ليخوض مغامرة الحرب على الإسلام السياسي لعلمه أنها شاقة وأن لا بورقيبة ولا ابن علي قدر عليها. ولا يظنن أحد أن الظرف موات لهذه المعركة لأن القدرة على المقاومة باتت أكبر مما كانت حتى لو اضطروا الإسلاميين إلى موقف علي وعلى اعدائي. وهو ما لا يمكن لعاقل أن يقدم عليه. ولست أشك في أن السبسي عاقل بل وأكثر من عاقل فهو شديد الحذر والخوف من هذه المغامرة. ولهذه العلة فهو ألف مرة أفضل من المرزوقي.
  2. موقف الاستئصاليين في حزبه وحوله. وهؤلاء يمكن أن يعتبروا الموقف السابق عائقا دونهم وهدفهم. ومن ثم فلا أستبعد أن يتآمروا على السبسي نفسه حتى يزيحوه. ومن ثم فيمكن أن يساعدوا المرزوقي على النجاح ليتخلصوا من السبسي أولا وهو الأمر الأعسر ثم بعد ذلك من المرزوقي وهو الامر الأيسر بالنسبة إليهم.

لهذه العلة فإني اعتبر المؤامرة إن حدثت -وهي ليست مستبعدة-ستكون في النداء أولا ثم ضد النهضة ثانيا. وبذلك فمن المفروض أن يفهم عقلاء النداء أنهم هم الأكثر حاجة إلى النهضة من النهضة إليهم. ذلك أن ما وصفنا من وضع السبسي وحاجته لختم حياته بشيء مشرف أي بتجنب الحرب الأهلية تجعله عائقا أمام الاستئصاليين ومن ثم فهو المستهدف الأول منهم.

ليس هذا إلا مجرد سيناريو. لكن المغامرين كثر والخونة أكثر. اخذه بعين الاعتبار من الحزم والروية حتى وإن كنا نتمنى ألا يحصل: فالحذر واجب وتونس في وضع خطير جدا أولا بسبب الحالة الأمنية والاقتصادية وثانيا بسبب الجروح التي تولدت عن حملة خرقاء من كلا المترشحين وثالثا بسبب الوضع الإقليمي ورابعا بسبب الوضع الدولي الذي يريد إنهاء الربيع لأنه تحول إلى بداية الاستئناف الإسلامي وأخيرا بسبب بعض المغامرين في صف المترشحين الإثنين. وكلي رجاء بألا يحصل شيء من ذلك كله.


أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي