تعليل الموقف
من المعلوم أن أي مواطن له الحق بأن يعلن عن موقفه وأن يعتقد أنه مسؤول حصرا أمام ضميره وأمام شروط الموضوعية الممكنة في مثل هذه الحالات الصعبة.
فلست منتسبا لحزب ولا قائدا لجماعة.وبهده الصفة فإني أومن بحقي في بيان ما بدا لي من أخطار قد يلحق بالثورة وبالبلاد والعباد إذا قبلنا بأن يتحول الأمر إلى معركة بين مغامرتين:
- مغامرة من يريد استعادة ما تستحيل استعادته أي النظام القديم حتى وإن كان الإقليم والغرب يسانده في ذلك: أعني السبسي الذي يعتبره اليسار مجرد مطية في مغامرته. فاليسار حاليا يظن أنه القوة الحقيقية في حزب النداء وهو يتصرف لكأن ذلك حقيقة (قائد الحملة والناطق الرسمي وألأمين العام وغالب المتكلمين باسمه في البلاتوهات الإعلامية). وقد يؤيد هذا الظن فشل التجمعيين والدساترة في محاولة الاستقلال وتكوين احزاب واضطرارهم إلى الإلتحاق بحزبه في الانتخابات. وهم يعتبرونه مطية لحين بسبب سنه ومرضه ولذلك فهم اختاروه واجهة حتى يتمكنوا متصورين أنه سيعجز قريبا أو سيموت فيرثوه. والمرشح معلوم.
- ومغامرة من يدعي الدفاع عن قيم الثورة مع علم الجميع أنه لا تتوفر لديه القدرة والقاعدة الشعبية فضلا عن الاستراتيجية. فما قام به فريقه خلال الحملة بلغ درجة من الاندفاع والسذاجة غلبت عليه السعي لدفع البلد إلى الانقسامات البدائية. وهو أمر قد يعد لحرب أهلية مناطقية وطبقية وإحياء النعرات القديمة التي حاولت تونس التخلص منها خلال العقود الستة الماضية. ومن ثم فعدم فهمه للوضع المحلي والإقليمي والدولي يثبت أنه ليس أهلا للقيادة وأنه يغرر بمن يستعملهم في مغامرته كالمقامر بمال غيره (شباب الإسلاميين ليسوا من حزبه وحزبه لا يكاد يذكر شعبيا كما بينت الانتخابات النيابية).
لذلك كان الفرق بينه وبين السبسي الذي يعتبره اليسار مطيته لاستعادة استحواذه على مقدرات الدولة هو أن المطية في هذه الحالة ليست هو بل هي النهضة والحركات الإسلامية وكل شباب الثورة البريئ مستعملا هذه القواعد عامة وشبابها خاصة حتى يتمكن.
ولست أشك لحظة في أنه سيقبل بضربهم ثمنا لبقائه رئيسا ولو شكليا إذا هددوه بالعزل .
خطر المغامرتين على البلاد والعباد
ومعنى ذلك أن المغامرتين ستعيداننا إلى ما حاولت القوى السياسية والاجتماعية تجنبه بالحوار الوطني -على ما به من مطاعن بينت بعضها خلال الإعلان عن موقفي منها في حينها. وتعود هذه المطاعن جميعا إلى ما ترتب على عدم تجنب ما أوصل اليها أعني ما بسببه استقلت كما هو معلوم قبل الوصول إلى تلك المرحلة فضلا عن كوني التزمت بالبقاء سنة لا غير بمقتضى الالتزام الأدبي قبل الانتخابات.
فالمغامران يريدان إعادتنا إلى وضع متفجر أشبه بما تقدم على ما لطف منه الحوار. وهو بصورة أكيدة أخطر بسبب الدفع بالصراع إلى غايته دون الاستعداد له : من كلا طرفي المغامرة:
- فلا السبسي ضامن حقا لسلطان القوى الليبرالية الوطنية غير اليسارية على حزبه ليكون بيده القرار.
- ولا المرزوقي بضامن حقا قدرته للدفاع عن الثورة أو حتى إرادته إذا خير بين ذلك وبين البقاء حتى الشكلي.
والأدهى هو أن القوة في صف السبسي واللاقدرة في صف المرزوقي متحالفتان موضوعيا لإيصالنا إلى هذه الحالة : ذلك أننا لو تساءلنا عمن أعاد النظام القديم صراحة -إذ هو لم يختف إلا في الظاهر- لأجبنا صادقين بأنه بالإضافة إلى أخطاء النهضة وحكومتها الأولى:
أ- كل الأحزاب التي تحالفت مع السبسي جهرا : أحزاب جبهة الإنقاذ الشهيرة. ولست أفهم لم يتباكون الآن على الديموقراطية وقد شوهوها إلى حد الكاريكاتور من المعارضة السياسية الصبيانية. وعلى كل فهي أخطاء أنهت هذه الحزيبات.
ب- والحزبان المتحالفان مع النهضة بمزايدتهما عليها في الثورية وتفجرهما تاركين إياها وحدها تصارع من كان ينبغي أن يصارعاه مع بقية الاحزاب التي حالفته للإطاحة بحكم الإسلاميين.
والمستفيد الوحيد من تلك المؤامرة هو اليسار بصنفيه المندس في حزبه والمحيط به كأحزاب وكمنظمات مجتمع مدني وإعلام واتحاد أي كل الدولة العميقة. لكن الصف الذي يؤدي دور المطية في مغامرة المرزوقي والذي هو المستهدف من كل ما يجري محليا وإقليميا ودوليا ـ أي ما يصدق عليه المثل الشعبي بلسان كبش العيد»حزوهم راهم يتعاركوا على راسي « ــ ينبغي أن يقبل منازلة الثورة المضادة وحده لأن البقية ليست مستهدفة مثله. وكل ذي عقل في مكانهم ينبغي أن يرفض الدفع به إلى المهالك بتيسير اتهامه بالإرهاب رغم أنه في الحقيقة إذا حصل سيكون دفاعا شرعيا عن الوجود. ورأينا ذلك في مصر وفي ليبيا وفي اليمن وتباشير التدخل موجودة في تونس.
أسس الموقف في شكل سؤال وجواب
السؤال الأول:
هل الحملة الانتخابية ستمر بسلام أم هي قابلة لأن تنزلق بسبب التشاحن بين المغامرين وجمهورهما؟
الجواب الأول :
إذا انزلقت الحملة الانتخابية فقد تصل إلى الحرب الأهلية وإلى االتدخل الأجنبي الذي يوجد بعد على الأبواب (في ليبيا). وإن تمت بسلام فإن النتيجة ستضعنا أمام سؤال ثان لا يقل خطرا عن الأول.
السؤال الثاني:
هل سينجح المرزوقي أم سيفشل؟
الجواب الثاني :
إذا فشل المرزوقي فإن ما بيد صف الباجي من دولة عميقة وحلف مع اليسار والمجتمع المدني وأدوات السيادة كل ذلك سيجعل الأثر قليلا جدا. لن تقع حرب أهلية. وإذا حصلت مناوشات سيعتبرونها جزءا مما يسمونه إرهابا لتكون لهم فرصة لضرب الإسلاميين خاصة والثوريين عامة محملين إياهم مسؤولية الأحداث. والثورة المضادة تنتظر ذلك بفارغ الصبر لأنها استعدت له ومعها ما تطاله أيديهم من أجهزة الدولة والمجتمع المدني المهيكل (الرباعي وجل النخب الجامعية والثقافية والإعلامية) والسند الإقليمي والدولي. أما إذا نجح المرزوقي فنحن أمام سؤال ثالث أخطر من السؤال الثاني.
السؤال الثالث :
كيف سيتعامل اليسار الذي يتصور نفسه القوة الحقيقية في حزب النداء كما أسلفنا مع هذا النجاح هل سيقبله أم سيرفضه؟
الجواب الثالث:
أظن وبعض الظن اثم أنهم سيخيرون المرزوقي بين البقاء شكلا حتى يشوهوه فلا ينافسهم في الانتخابات التي يتوقعونها قريبة. ومن ثم فهو سيكون أقل سلطة منه الآن. ولن يحمي الشباب الذين غرر بهم والذين سيستفرد بهم اليسار ليشفي غليله ويرضي الثورة المضادة المحلية والإقليمية والدولية. وإذا حاول أن يقاوم فستكون الـ30 جوان المصرية بالمرصاد دون دماء لأنه لن يجد من سيحميه. وهذا يؤصلنا إلى سؤال رابع أخطر من الثالث.
السؤال الرابع :
هل يتصور اليسار أن السبسي يمكن أن يكون مطية أم هو صادق في دعواه القبول بالديموقراطية ولا ينوي الركوب عليها ؟
الجواب الرابع:
إذا كان يظن بالسبسي الغفلة فهو يجهل التربية والدهاء البورقيبيين ـ فهو لم يقبل أن يدخل هذه اللعبة معهم دون أن يكون قد «عقلها وتوكل» .إنه يريد أن يكون رئيسا بحق لا شكلا حتى يذكره التاريخ. وإلا لما تحمل كل هذه المشاق رغم سنه وحالته الصحية. لذلك فهو سيتغدى بخصومه قبل أن يتعشوا به ونواياهم لا يمكن أن تخفى على رجل محنك مثله. وهنا نصل إلى الخطر الأساسي الذي يجعلني أقف هذا الموقف للتمييز بين مكونات النداء. فلا ينبغي أن نسهم في جعل السبسي رهينة اليسار على الأقل في المدة التي يكون فيها قادرا على قيادة إعادة الدستور الجديد للنداء وجعله القوة الفعلية للحزب. ولما كانت هذه المعركة تقتضي ألا يقدم عليها معركة أخرى المعركة مع الإسلاميين ليخوض معركتين في آن فإنه سيؤجل المعركة مع الحركة التي لا تنوي افتكاك حزبه والسيطرة على ميراثه. وهو لا يجهل أن المعركة مع الإسلاميين ليست بالسهلة وأنها إن حصلت ستكون طويلة وعسيرة الحسم لأنه عاش مرحلتيها مع بورقيبة ومع ابن علي-وإذن فهو سيكون مضطرا لمهادنة الإسلاميين حتى يستعيد قوة الدساترة في حزبه خاصة إذا لم يدفعه الإسلاميون لذلك دفعا بجعله رهينة اليسار.
السؤال الأخير :
ماذا لو كانت كل هذه التحليلات خاطئة وكانت اجوبتي مجانبة للصواب؟
الجواب الأخير :
الخطأ بشري. لكن فائدة الموقف الذي بنيته على هذه التحليلات والأجوبة هي أنه يجعل تونس رابحة في الحالتين سواء صحت أو لم تصح : وتلك هي فائدة كل استراتيجية مدركة للبعائد. فإن صحت جنبنا تونس الخطر فحافظنا على وحدة الوطن لنا ولخصومنا لأننا أبناء بلد واحد. وهذا ربح. وإن لم تصح استعددنا له في تلك المستويات جميعا.
الموقف و صياغته الواضحة
فما هو هذا الموقف ولنصغه بعبارة واضحة لا لبس فيها .ذكرته في مقالاتي السابقة وأذكر به الآن :
علينا أن نلعب لعبة الديموقراطية بصورة لا لبس فيها وبصدق ودون خطاب مزدوج.
فكل مواطن مؤمن بضرورة تجنيب الثورة الحرب الأهلية وخاصة أي مواطن منتسب إلى الأحزاب الإسلامية عليه أن يصوت دون تغيب وأن يصوت بالورقة البيضاء:
أؤكد الورقة البيضاء لأنها تحسب خيارا ثالثا.
فالتصويت الأبيض يعني أمرين :
أننا نؤمن بالديموقراطية الحقيقية التي لا يمكن أن نحاكمها بدعوى أن الذي نال الأغلبية من النظام القديم أو من النظام الجديد. الشعب اختار وهذا حقه فعلينا أن نسمع ونطيع إرادة الشعب.
.وأننا نختار أن نكون الصف الثالث الذي يجنب بلادنا ما قد تؤدي إليه تصرفات الصفين الآخرين المغامرين كما بينا.
لكن الكثير يتصورون أن ذلك سيجعل الباجي ينجح. وطبعا فهذا لا يهم لأنه يترتب على خيار صائب هو الصف الثالث الذي يرفض الاقصاء المتبادل بين اصحاب المغامرتين ويترتب عليه أن الباجي سيرى أن صفا ثالثا لا يؤيده وهو سيعارضه سلميا وديموقراطيا حتى يفي بما وعد به في برنامجه من أهداف الثورة.
وهو خيار له فائدة كبرى: إذ هو سيحرره من أن يكون رهينة اليسار ومن ثم فلن يضطر لخوض معركة يعلم أنها خاسرة ضد الإسلاميين وأنها خطيرة على البلاد والعباد.
أبو يعرب المرزوقي
للتحميل