قد يظن الكثير أن لقاء برلين موضوعه ليبيا.
وهذا صحيح في الظاهر.
لكن الموضوع الفعلي هو محاولة لجم تركيا وترهيبها. إنه اجتماع علني لكل أعدائها إذا ما استثنينا بدرجة ثانية استهداف نفس الغاية ازاء الجزائر التي لم تتعاف بعد بسبب التلاعب بالحراك ومحاولة استغلاله من فرنسا وعملائها لمنع تحررها.
والسراج المسكين أتو به ليس لمساندة شرعيته بل لجعلها دون ما يريدون إضفاءه من شرعية على كلبهم الخائن حفتر الذي باع ليبيا منذ عقدين وصار عميلا على قارعة طريق المخابرات الامريكية مثله مثل السيسي وأحمق الإمارات وتابعه صاحب المنشار اللذين يتصوران بيع زيب الحجر ثروة يمكن أن جعل المتخلفين روحيا متقدمين بخلطهم بين الحداثة والدياثة.
كنت أتوقع أن يسند المغرب وتونس ليبيا قبل أي كان. لكن المغرب احتج عن تغييبه باحتشام وتونس احتجت بحماقة لا نظير لها عن دعوتها المتأخرة التي عملت كل ما تستطيع لتجعلها كذلك لأن الدبلوماسية التونسية صارت رهن مشروع رئيس مرتهن لخطة ما يزال الكثير لا يصدق أنها اختراق إيراني بين المعالم يتدرق مثلها بالكلام على فلسطين كلام العنتريات التي تستخدم فلسطين ولا تخدمها.
وليس في الأمر ما أستغربه: فالنخب العربية -كما بات معلوما-لا تشتري “مكحلة إلا بعد أن تتخذ” (مثل تونسي يعني رد الفعل بعد فوات الفوت).
فلا يكفيهم تصريحات “الرئيس” ولا اعلانات رديفة لينين الزائف ولا تكوين التنسيقيات (مليشيات حشد شعبي قد يصبح مسلحا) ولا الديوان ولا “عين” سفير إيران المختص في تخريب العراق وسوريا ولبنان.
ولم يكفهم شعارات كلها دالة على دعوى الانتساب إلى محور المقاومة ويعني عند من يفهم القصد “محور أذيال إيران وأدواتها في الإقليم”. كل ذلك يتعامون عليه. وآخر العلامات التي من لم يفهمها يعد من الصم البكم العمي الذين لا يعقلون المناورات التي جعلت تعيين رئيس الحكومة ينضم إلى نفس الجوقة.
وكان ينبغي لتونس لو كانت نخبها السياسية المتنفذة لها ذرة من الوطنية أن تقوم بما قام به أجدادنا عندما ساندوا مقاومة ليبيا للطليان عندما أرادوا احتلالها أو أن يقوموا بما قام به المقاومون التونسيون عندما ساندوا ثورة التحرير الجزائرية التي وجدت في تونس والمغرب جناحين ساعداها على هزيمة فرنسا.
لكن العمى الإيديولوجي جعل المتآمرين على تونس وعلى الثورة من النخب التونسية والمغاربية الذين تمولهم المافيات التابعة للثورة المضادة بصنفيها التابع لإيران والتابع إسرائيل وفرنسا يصبحون كلهم “حركيين” نسبة إلى الحركيين الذين ساعدوا فرنسا وليس إلى الحراك قبل أن بدأ يتحول إلى أداة من أدواتهم لخدمة مشروع فرنسا في الجزائر بهدف تفتيتها وجعل بعض الشعب موطئ قدم لها فيها.
ففرنسا هي التي تحرك ملف ليبيا هذا التحريك ضد السند التركي والقطري ضد الحكومة الشرعية فيها. وخذلان النخب التونسية للحكومة الشرعية جزء من هذه الخطة حتى تكون تركيا بمفردها أمام كل أعداء تحرر الامة مع موقف جزائري يصعب أن يكون قويا في اللحظة الراهنة بسبب الوضع الداخلي غير المستقر.
ولم يكفهم اجتماع كل أعداء استئناف الأمة دورها في هذا اللقاء لعزل تركيا خاصة والجزائر بقدر ما سعوا إلى تنظيم مظاهرات من الانفصاليين عن تركيا وعن الجزائر ولم يغب في مظاهراتهم علم إسرائيل لأن إيهام الاكراد والأمازيغ بأن الغرب حريص عليهم عماهم عن كونه يستغلهم في مشروع سايكس بيكو الثانية.
وليعتبر القارئ الكريم هذه التغريدات ضميمة لما كتبته البارحة حول ليبيا وتعليل تأخري في الكلام عليها.
ليبيا يريدونها حاجزا بين المشرق والمغرب لأن إسرائيل لم تعد كافية للفصل بينهما تماما كما حاولوا فصل تركيا عن العرب بالهلال الشيعي وبدولة علماني الاكراد والتي هي أعدى أعداء اخوتنا الكرد.
لم يعد الغرب مكتفيا بـأحفاد سايكس بيكو الأولى لأن الأمة صارت أقوى مما كانت في بداية القرن الماضي.
لم تبق تركيا رجلا مريضا ولم تبق الامة أمية ومن ثم فلابد من نوى من العملاء بحسب تجمعات العرب الخمسة:
- الهلال
- والخليج
- والقرنان (اليمن والصومال)
- والنيل (مصر والسودان)
- والمغرب.
بل وأكثر من ذلك فلا بد من نواة في كل قطر من أقطار الإقليم العربي الكردي التركماني والأمازيغي والافريقي في ما يسمى دول الجامعة العربية حتى يتمكنوا من تجنيد أكثر ما يمكن من أجل مشروع سايكس بيكو الثانية يرون أنها أعسر تحقيقا من الأولى بسبب تحسن وضع الأمة وقدرتها المتزايدة على الصمود.
لذلك تجد بشار في سوريا ومثله كثير في العراق مجموعة الهلال. وتجد غراب الإمارات ومنشار السعودية في مجموعة الخليج. وتجد السيسي في مجموعة النيل. ويحاولون تنصيب حفتر في مجموعة المغرب. فيكون لهم عملاء يأتمرون بأوامرهم حتى يحققوا سايكس بيكو الثانية ويستكملوا وعد بلفور بإسرائيل الكبرى.
وإذن فلقاء برلين ليس إلا مرحلة من مراحل هذا المشروع كلفت به مركل لأن ألمانيا مجرد تابع حاليا لأمريكا وإسرائيل وليس لها سلطان على ما يجري حتى وإن كان بعد الألمان حنين لدور وهم يعلمون كما علم أجدادهم قبل الحرب الأولى لما يشبه الانفتاح على الشرق الإسلامي حتى تعدل الكفة مع أعدائها.
فمن له دراية بتاريخ أوروبا يعلم أن الألمان إلى حدود القرن الثامن عشر كانوا متأخرين في مقومات الحداثة بالقياس إلى فرنسا وانجلترا. وحتى روسيا رغم تخلفها عنها كانت ميالة لمنافستها على مجالها الحيوي في ما بين أوروبا وآسيا من مجال توسع في العصر الاستعماري سر قوة أعدائها.
ولا أعتقد أنه يوجد ألماني دار بالشروط الجيواستراتيجية يوافق على معاداة تركيا وهو يعلم أمرين كلاهما مخيف لألمانيا: خلو البلقان أو فراغه بعد سقوط الخلافة وتحوله إلى مرتع روسي وتقدم روسيا العلمي والتقني الذي قد يجعلها تحت رحمتها ليس عسكريا فحسب بل وكذلك طاقيا لأن عصر الفحم عوضها البترول والغاز.
ومع ذلك فالنخب الحاكمة في ألمانيا خاضعة للابتزاز الأمريكي والصهيوني لتعادي تركيا وتفضل عليها إيران وروسيا اللتين إن تمكنوا من اضعاف تركيا سيجعلانها مستعمرة ويتقاسمانها مع إسرائيل وأمريكا بتواطؤ فرنسي وبريطاني لأن التاريخ يبين أنهما يخشيان ألمانيا وقوتها الإبداعية في كل المجالات.
ولاختم بالقول إن القضية الليبية ليست ليبية فحسب ولا هي عربية فحسب ولا هي حتى إسلامية فحسب بل هي عالمية بكل معاني الكلمة: إنها لحظة تجاوز ما كان ممكنا للغرب ليلغي المشرق الإسلامي في دورة الاقتصاد العالمية. لم يعد ممكنا الاستدارة لإخراج ملتقى القارات الثلاثة منها سايكس الثانية باتت مستحيلة.
يستحيل بعد صحوة الأمة بناء نظام جديد للعالم من دونها. فلا اكتشاف امريكا ولا اكتشاف رأس الرجاء الصالح يمكنا من اخراجها من الدورة الاقتصادية العالمية. فهي تحيط بذلك كله بمقتضى توزع كبرى كتلها البشرية بالمحيطين: لم يعد بالوسع الوصل بين مشارق الارض ومغاربها من دون الامة التي هي عين وحدة المشرقين والمغربين: أمة الاسلام تشهد على العالمين لحضورها الكثيف فيهما.
صحيح أن النخب ما تزال في غيبوبة وليست بالصحو الكافي لإدراك هذه الحقيقة. لكني أراها ماثلة أمامي وقد يحصل بعضها في حياتي. لكني واثق من حصوله قريبا. وسواء عشت إلى تلك اللحظة أو لم أعشها فعلا فإني اعيشها في عالم الحقائق التي لا يلامسها أدنى شك لأن كل شروطها بصدد التحقق بلا مرد.
وحاصل القول ومغزاه الأعمق هو أن لقاء برلين لم يكن موضوعه ليبيا من حيث هي أحد أقطار الإقليم يعيش حربا أهلية بين شعبه وعملاء أعدائه من نخبه السياسية بل هو شروع الأمة في الرد على حرب الاسترداد الثانية: فبعد الأولى التي قادها شارل الخامس في القرن السادس عشر نعيش مثلها مع أوروبا وحامييها وعملائهم.
هي حرب تحاول استرداد المستعمرات الأوروبية التي لا تختلف عن حرب استرداد مستعمرات روما فيها بعد هزيمة قرطاج. لكن اليوم عندنا ألف حنبعل. ففي كل قطر من أقطار الإقليم مؤمنون بدور الإسلام ورسالته وكل مؤمن بها أقوى من حنبل ولن تصمد أمامه روما الجديدة وحماتها وعملاؤها: لقد سبق السيف العذل.
نهضة أمة الإسلام في كل مستويات النهوض لا مرد لها: ديموغرافيا وعلميا وتقنيا واقتصاديا وثقافيا وخاصة عنفوانا شبابيا فنحن أكثر أمم الأرض شبابا من الجنسين والإسلام ـأكثر أديان الأرض انتشارا وتوسعا بخلاف كل أوهام هيجل الذي ظنه قد خرج من التاريخ وعاد أهله إلى النوم والكسل والفوضى.
صحيح أن ذلك لما قاله هيجل في الباب الرابع من فلسفة التاريخ كان يبدو وكأنه صادق لأن من يحاربونه اليوم كان يوصف فعلا بكونه رجلا مريضا. وليس القصد تركيا وحدها لأنها كانت عاصمة الخلافة. بل تركيا التي عادت عاصمة المقاومين من كل شعوب الإسلام لتصور شكل جديد لوحدة الأمة يناسب العصر.
وقد أشرت إلى أن مبادرة ماليزيا التي فيها نفس اربكان لا ينبغي الاعلان عنها حاليا بل لا بد من تحقيق شروطها الفعلية وأشرت إلى أن الاعلان عنها قبل ذلك قد يفشلها لأن الأعداء سيكونون لها بالمرصاد قبل أن تصبح غير قابلة للرجع. وقد اشرت إلى بعض شروطها التي تقتضي استراتيجية صبورة وبطيئة إذا أردنا بناء متين الأركان والاسس لا يبليه الزمان في تاريخ الإنسان.
وأول شروطها هو استعادة دور العربية لتكون “انجليزية” المسلمين في العالم كله. وهذه مهمة قطر -في غياب السعودية التي تخلت نهائيا حتى عما كانت تتظاهر به من خدمة للإسلام وهي في الحقيقة استخدام له-إذا كانت قياداتها تريد أن يكون لها نفس الثقل الذي للأعضاء الآخرين في محاولة وتكوين شكل جديد يوحد الامة تكون نسبته إلى الخلافة نسبة وحدة أوروبا حاليا إلى ما كانت عليه في وحدتها التي حاربتنا بها في القرون الوسطى.
ويكون وزن باكستان التي هي أفقر الأعضاء الذين يريدون بناء هذه الوحدة الجديدة فعليا إذا صارت مدرسة لتمكين المسلمين من شرط المناعة التي ليس في متناول من لا يملك ناصية التقنيات الذرية شرط الحصانة وهي الآن هشة جدا لأني لا أستبعد أن يضربها الأمريكان بتشجيع الهند ضدها وضد مسلمي القارة الهندية (مسلمي جناحيها ومسلمي قلبها).
ويكون دور تركيا تمثيل ما تحتاج إليه أوروبا لتفهم أن مصيرها مرتهن بمصير مسلمي ملتقى القارات القديمة الثلاث أي آسيا وافريقيا وأوروبا.
فالاقليم المضاعف حول الأبيض المتوسط هو قلب العالم وهو الواسطة بين التاريخين القديم والحديث وعليه أن يكون منطلق دورنا المشترك في نظام جديد للعالم.
ونسبة ماليزيا إلى اندونيسيا هي عين نسبة قطر إلى تركيا.
كلاهما يمثل الأخ الأصغر الذي يمكن أن يجمع ثروته وتقدمه إلى وزن اخيه الأكبر حتى يكون للأمة شرطي السيادة الفعلية لأنهما يمكن أن يوفرا تمويل أساسيات الرعاية والحماية للأمة كلها بالاستثمار فيهما من خلال الأخوين الأكبرين في الأمة.
ذلك أن تركيا ليست دون اندونيسيا تعدادا إذ كثيرا ما ينسى القراء أن جل ما كان من توابع السوفيات في آسيا المسلمة هم أتراك وقد رأيت منهم الكثير يتكلمون التركية بيسر إذ حضرت حوارا مع بعض المترشحين منهم لجامعة ابن خلدون بالصدفة فلم أستطع اخفاء فرحتي: فذلك مزيد قوة لتركيا وللأمة.
تلك هي المراحل التي اعتقد أنها عناصر جوهرية في الاستراتيجيا بعيدة المدى التي ينبغي أن تعد لنوع جديد من توحيد الأمة بالمعنى الذي يغلب على التجمعات الحضارية الكبرى والتي يكون فيها الإسلام مرجعية قيمية هي جوهر الخلافة وتتعالى على العرقيات والقطريات شرطا للقوة الثقافية والاقتصادية.
وكل من يعرف دستور الرسول الخاتم -دستور المدينة-يعلم أن الدولة ليس من مهامها التدخل في الدين بوصفه عبادات بل تكتفي بدوره في المعاملات أي في أخلاقها وقيمها وخاصة في شرطيها أعني رعاية الجماعة تكوينا وتموينها وحمايتها داخليا وخارجيا والقبول بتعدد الأديان أمرا واقعا يحسم يوم الدين.
وبذلك يتبين أن شعوب الأمة الأكبر خمسة وهي متساوية تقريبا من حيث الوزن الديموغرافي (ما يقرب من ثلاث ملايين نسمة لكل منها): - العرب حتى بخصم الأقليات غير العربية في ما يسمى بالوطن العربي وفيه أقوام هم اخوتنا خدموا الإسلام مثلنا أو أكثر منا
- والاتراك
- والهنود
- والملاويين
- والأفارقة المسلمون.
وهي مجموعات متقاربة ثقافة وعديدا وإسلاما مناضلا للتحرر والتحرير بالوحدة الروحية والثقافية التي تجمعهم.
ولم أنس الأقليات الإسلامية في العالم كله.
لكن وزنهم يكون مما يعتد به إذا وصلوا بهذه الكتل الخمس التي هي أساطين وحدة الامة وسر قوتها. وينبغي أن أختم بالعودة ثانية إلى دور قطر ممثلة للعرب في المشروع: فصاحبة الريادة في الأعلام عليها التعامل مع لغات هذه الوحدات وعلاقتها بالعربية لغة تشمل الأمة كلها حتى يتحقق الوصل المتساوق مع المستقبل والمصير المشتركين والوصل المتوالي مع الماضي والحضارة المشتركين.