ه
لست يؤوسا لكن الوضعية ميؤوس منها. ولست ضد الاعتدال. لكنه شرط الحكم وليس هو من شروط المعارضة. ولا أعتقد أن التوافق حتى المغشوش الذي كان سائدا لعلل شرحتها سابقا سيكون عنوان ما بعد الانتخابات كما يتبين مما يحاك في الاقليم كله وليس في تونس وحدها.
ولأن هذا التحول الجذري في الوضعية لم يصبح واعيا عند غالب النخبة السياسية التي ما زالت تعيش على خطتها السابقة لوفاة السبسي فإن كل ما يجري غير مناسب للآتي. لذلك فمن يزعمون تمثيل صف الثورة يدخلون الانتخابات مشتتين وهم يعلمون ألا أحد منهم يمكن أن يمر إلى الدور الثاني لأن كل ما كان منهم يتوهم الحصول على أصوات “شعب النهضة” من المفروض أن “يمصمص” كما أسلفت حتى لو لم ترشح ممثلا لها في الرئاسيات.
و”شعب الثورة” من دون هذا العامل لا يمثل وزنا معتبرا إذ الشباب قلما يصوت والكهول كفروا بها بسبب نتائجها التي ليس من اليسر الصبر عليها. والسؤال هو كيف يمكن لمن يرى “صرعوفة” المرشحين للرئاسية وللنيابية كما (ما يقرب من المائة حتى وقعت التصفيات فبقي ربعها) وكيفا (بوه على خوه من المافية الصريحة إلى النطيحة) لا يقضي بأن الوضعية السياسية في تونس ميؤوس منها وخاصة في ما يتعلق بالوعي السياسي لدى صف الثورة الذين يتصورون الوضع الموالي للانتخابات سيكون مثل الذي سبقه وليس مثل ما قبله أعني ما قبل التوافق على علاته وأن اليأس منها يجعل اليأس من الإصلاح الاقتصادي والثقافي والحكم بكل دلالاته شبه مستحيل ومن ثم فهو وضع سياسي واجتماعي ميؤوس منه على الأقل باعتبار المؤشرات الحالية؟
من منا لم يفهم بعد أن هذه الوضعية التي تحدد شروط الانتقال الديموقراطي المطلوب قد ضمت إلى مشكل التحرر الذي طالبت به الثورة مشكل ثان أعسر منه هو استكمال التحرير الذي اكتشفنا أنه كان خدعة شعاراتية في الأقوال لا حقيقة لها في واقع الأفعال إذ تبين أن الاستعمار الفرنسي ما يزال مستبدا بكل ثروات البلاد هو ومافياتنا العاملة عند مافياته؟
هل يمكن لما يفوق ربع المائة مرشحا للرئاسة -ما تم اثباتهم وقد يضاف إليهم آخرون-وما يقرب من 15 ألف للنيابة أن يكونا دليلين على أن النخبة السياسية مدركة لطبيعة التحديات التي تنتظر البلد؟
هل يدركون أن البلد صار متسولا بنيويا (يكاد يتأسس ما يماثل الكوميسيون المالي الشهير) في شروط رعايته وحمايته أعني فاقدا لشرطي السيادة بمعناها الفعلي وليس الرسمي الذي يجعل المحميات تبدو دولا وهي دون ما كانت عليه لما كانت رسميا محمية إذ كانت على الاقل مستقلة ثقافيا وروحيا؟
وسأكتفي بالسؤال عن المعضلات التي لا يمكن لأي مرشح للرئاسة أن يجعلها موضوع برنامج صريح وعلني لتحقيق شروط استرداد عاملي السيادة الفعلية حتى وإن سلمنا بأن السيادة لا تعني “الاوتارسي” لكنها تعني الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي الذي يمكن من القرار السيادي المستقل عن قرارات “المسؤول الكبير”. ففي مثل هذه الوضعيات لن تفيد المجاملات ومحاولة العلاج بالأقوال والكلام المعسول في حين أن كل شيء نراه ينهار بما في ذلك أدنى الخدمات الضرورية للحياة النباتية للمواطنين.
- أولا الإصلاح السياسي الجذري لهيكلة أجهزة الحكم بدءا بالدستور وخاصة في ما يتعلق بنظام السلطات. فالدستور الحالي لا يصلح لا للدنيا ولا للدين وذلك كان موقفي منذ البداية حتى قبل أن يكتب لعلمي بـ”الروح” التي كانت تقود تحريره فضلا عن شروط الكفاءة التي كلنا يعلم أنها لم تكن متوفرة وأن التدخلات من كل صوب وحدب كانت تصب فيه للترضيات الناتجة عن عمل منطقه دز تخطف والتي كانت تتصور تونس مثل بريطانيا يمكن أن تحكم برلمانيا دون ملكة ضامنة لوحدة البلاد والحفاظ على تراثها وثقافتها.
- ثانيا الإصلاح الثقافي الجذري لهيكلة تكوين الإنسان بدءا بالتربية والبحث العلمي والابداع عامة وعلاقتها ثلاثتها بشرطي السيادة أعني الانتاج الاقتصادي والانتاج الثقافي بهذا المعنى. فإصلاح التعليم وإصلاح البحث العلمي والنظام الجامعي وخاصة المناخ الثقافي العام الذي حصر الثقافية في “التفرهيد ” الصيفي صارت من المستحيلات بسبب تكون الإقطاعيات التي لا يجهلها أحد.
- ثالثا الاصلاح الاقتصادي في علاقته بالدولة (التي تسيطر عليه وتأكل جل ثمرته) وبالمجتمع (الإصلاح الثقافي الذي يكاد يقتصر على محو الأمية في التعليم وعلى الهرج والمرج في ما يسمونه فنونا) لتحريره من “كليانية الدولة” التي تشبه نظام التصميم المركزي للمبادرة والهيمنة الإدارية والقوانين المعطلة للمبادرة وحماية الحقوق وخاصة الفكرية.
- رابعا إصلاح نظام القوى السياسية أي الاحزاب التي صارت “أصولا تجارية” وعسكر مكسيكي الجنرالات أكثر من الجيش ونظام الانتخابات أعني شروط انتاج الجماعة لشروط قيامها تشريعا وحكما بما يتلاءم مع ما تقرره الجماعة من قيم مشتركة تعتبر مرجعية محددة لشروط بقاء الجماعة ومن ثم شروط تحررها من التبعية الحضارية لغير ما انتجه تاريخها بوصفها كيانا مستقلا وليس كيانا تابعا للمرحلة الاستعمارية وما ترتب على الاستقلال المغشوش اقتصاديا وثقافيا وخاصة سياسيا باعتبار رهن البقاء بالرعاية والحماية الفرنسية بشروط أشد من الشروط التي كانت موجودة لما كانت تونس محمية رسميا إذ لم يكن من حق فرنسا في معاهدة باردوا فرض ثقافتها ولغتها.
- وأخيرا لا اعتقد أنه يوجد من بين المترشحين للرئاسة أو من بين الأحزاب التي رشحت للنيابة من قدم برنامجا انتخابيا ليس مخاتلا حول كل هذه الرهانات التي من دونها كل كلام على السيادة هو من الخداع الذي لا يخون الثورة وحدها بل يخون التاريخ والجغرافيا والكلام على تونس بنت القرون فضلا عن تونس ذات الطموح النموذجي في تحرير الإنسان. ما سمعت بمحمية في كل ما ذكرت يمكن أن تنتج إنسانا حرا وذا كرامة إلا إذا كانت هذه المعاني مختلفة عما يقصده البشر بها عندما يتكلم على الاوطان.
ولا فائدة من الإطالة. فأول ما ينبغي البدء به هو تحجيم الدولة والإدارة والنقابات لأنها جميعها تحولت إلى تكايا توظف أبناء المافيات الحاكمة سياسيا والحاكمة نقابيا ومن ثم فالجميع صار موظفا عند من يسرق ثرواتنا ثم “يقرضنا” بعض ما يربحه منها لكي يسترده مضاعا بالربا (بالمعنيين الفقهي والتونسي) ومن ثم فالحكم السياسي والحكم النقابي بمعنييه للعمال وللأعراف صار مؤسسة الانتدابات للخدمة لدى المستعمر ولا علاقة له بمفهوم الدولة إلا شعاريا.
لست غافلا عما في هذا الكلام من الغلو في الظاهر. والكل يعلم أني ضد الغلو وكنت أول من اقترح المصالحة قبل المحاسبة للتقليل من أعداء الثورة عملا باذهبوا فأنتم الطلقاء مع استثناء قلة من القيادات الكبرى في المرحلة السابقة على الثورة.
وكان كلامي في هذه المحاولة يمكن أن يكون غلوا فعليا وليس ظاهرا فحسب لولا شرطين يجعلانه شديد الوسطية والاعتدال لأنه مبني على أن الوضعية الجديدة بعد وفاة السبسي في طريقها للعودة إلى ما تقدم على التوافقات التي أوصلت إلى انتخابات 14.
والشرطان هما:
• لو كانت الانتخابات رئاسية فحسب وليست نيابية كذلك لصح اعتبارها مغالية.
• لو كانت الانتخابات تختار من يحكم فحسب وليست تختار من يعارض كذلك لصح اعتبارها مغالية.
لكن الرئاسية معلوم أن من سيحسهما هو “المسؤول الكبير” وليس الشعب. وأكاد أجزم بأن النتيجة معلومة من الآن. لكن النيابية يعسر أن يحسمها المسؤول الكبير. ومن ثم فلا بد من برنامج يبين ما يريده الشعب في الاعماق فيحد من غلواء المسؤول الكبير حتى يعلم أن عهد تعيينه الرؤساء يمكن أن يكون في هذه الحالة الأخير.
وهنا لا بد من وصل الأمر بما يجري حولنا. فشعبنا ليس أقل وعيا بأن استقلاله شكلي من الشعب الجزائري الذي بدأ يسعى لاستكمال معركة التحرير شرطا في خوض معركة التحرر. وكل من يدعي الحاجة إلى المجاملة في الرئاسية لعل وعسى يمر من يحمي التوافق فهو يخدع نفسه ويخدع غيره. لن يمر أحد لم يرض عنه المسؤول الكبير ولن يستطيع شيئا حتى لو مر لأنه سيكون حبيس قرطاج خاصة لأن المسؤول الكبير بدون معارضة برلمانية قوية لها هذا البرنامج لن يرتدع وسيجد العون في الفساد الحكومي والنقابي بالمعنيين اي العمالي والأعرافي لكي يواصل السيطرة على الرعاية والحماية ومن ثم على السيادة فنكون بذلك لم نخن تونس وحدها بل مرة أخرى نفرط في التحرير المشترك للمغرب فتبقى ليبيا والجزائر من حولنا تكافحان ونحن فرحون بما فرع به بورقيبة لما اختلف من ابن يوسف حول نتائج المفاوضات فعشنا ستين سنة على اتفاقيات كنا نجعل مضمونها وتبين حتى بشهاد قيقة أن ابن يوسف كان على حق في موقفه ولكن بعد فوات الفوت.
كل استراتيجية مخاتلة قد تقبل في الرئاسيات رغم علمي بأنه لن توصل أي إنسان لم ينتخبه المسؤول الكبير ويجهز له شروط النجاح أيا كان سواء كان مافيوزيا (القروي) أو متهما بكونه عييا (الزبيدي) أو خاصة من عرف عنه قابلية التعامل مع حفتر والسيسي وبشار والثورة المضادة في الخليج – ليس بالضرورة كرئيس بل كرئيس حكومة يعينه أي من المرشحين يرضى عنه المسؤول الكبير لأن فرنسا فهمت أنها لن تبقى على نهبها لإفريقيا إذا تحرر شمالها -وخاصة تونس والجزائر- وتلك هي علة تدخلها في ليبيا ومحاولتها افشال ثورة الجزائر الحالية وتأبيد سلطان المافيات التونسية الخادمة لسيطرتها على ثروات تونس وثقافتها ولغتها وإدارتها وكل جواسيسها في “خناخش” كل المؤسسات : ولعل رمز هذا الاندساس في “خناخش” تونس هو سلوط الاقرع الذي هو المقيم العام في تونس التي ما تزال محمية.