لحظة الحسم الاستئنافي، أو تجاوز الاسلام للفتنتين بحريتيه الروحية والسياسية – الفصل العاشر

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله لحظة الحسم الاستئنافي

قد لا يرى القارئ المتعجل العلاقة بين موضوع الفصلين التاسع والعاشر وإشكالية الحسم الاستئنافي مع الفتنتين الكبرى والصغرى وإشكالية المنطقين اللذين حاولنا بيان قصورهما الناتج عن اسقاطهما على الوجود على أساس القول برد الوجود إلى الإدراك مع التركيز على المنطق الجدلي الآيل إلى طبعنة التاريخ.

فطبعنة التاريخ هي أساس العلمنة العميق أعني التي لا تنفي الأديان بل تجعلها هي بدورها عين رؤى الروح لذاته في تاريخ تكوينيته (فلسفة الدين الهيجلية) والمختلفة عن العلمة اليعقوبية السطحية والناتجة عن الصراع مع الكاثوليكية ما جعل الفتنة الصغرى تنتج عن الفتنة الكبرى عندنا مثلها عندهم.

فالفتنة الكبرى عندما كان سببها تأسيس الكنسية (وساطة روحية) والحق الإلهي في الحكم (وصاية سياسية) تحريفا لدين المسيح (وشكلها الاكثر تزمتا كاثوليكي) وتحريفا لدين محمد (وشكلها الأكثر تزمتا شيعي). والرد على الشكل الأكثر تزمتا في الحالة الفرنسية أنتج علمنة يعقوبية متزمتة.

لذلك فالهيجلية يمكن اعتبارها تحييثا للدين وعلمنته بمنطق الإصلاح الديني في البروتستنتينية والماركسية تحديثا للدين وعلمنته بمنطق الغاء الدين في الكاثوليكية (بتأثير ادبيات الإلحاد الفرنسي) وهذا النوع الثاني يمثل الفتنة الصغرى في لحظتنا الإسلامية الراهنة. وهو مآل التشيع.

أما لدى السنة فالحل الذي تعرفه قريب من حل الإصلاح المسيحي بل وأكثر التصاقا “شبه” علماني بإشكاليات الوجود الإنسان في التاريخ دون القول بتحيث الدين وأرخنته كما في الحل الهيجلي. فالبعد السياسي منه يجعله بالضرورة ملامسا لسلوكات علمانية الجوهر لأن الشرائع شبه حلول وسطى مع الطبائع.

ولهذه العلة فإنه بالوسع القول إن رؤية الإسلام للعلاقة بين الطبائع والشرائع (أو نظرية الفطرة) تحرر الاستئناف الإسلامي من الفتنتين في آن: فهي لا تجعل ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ مؤسسين لعلة الفتنة الكبرى (الوساطة والوصاية) ولا تجعل الطبيعة والتاريخ نافيين للمتعالي عليهما.

وتلك هي المعضلة التي فتح الله علي اليوم بحلها لأكمل المحاولة بهذين الفصلين: فهذه المعضلة من غرائب الدين الخاتم الذي هو صراحة نظام تربية ونظام حكم بالأساس لتمكين الإنسان من تحقيق مقومي وجوده أي الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها امتحانا لأهلية يحاسب عليها يوم الدين.

وبهذا المفهوم تصبح العلاقة مباشرة بين المؤمن وربه لقاء بين فردين: الله سائل والإنسان مسؤول. والإشكال الذي حيرني هو كيف يمكن أن يكون الإنسان من حيث طبيعته العضوية خاضعا لقوانين الطبيعة (لا فرق بينه وبين أي كائن حي) ويكون في آن من حيث طبيعته الروحية متعاليا على قوانين الطبيعة؟

الجواب عن هذه المفارقة هو منطلقي في علاج العلاقة بين لا فردية الإنسان الطبيعية كما بينت -الفرد الوحيد هو الله-وكل المخلوقات زوجية وفرديته الخلقية أو الروحية التي هي مناط المسؤولية في مستوى ثان من وجود هو فاعله فردا مع ذاته وإسهاما مع الجماعة وعليهما يسأل.

نفس المسار الذي قمنا به في الفصل التاسع لكن هذه المرة في المستوى الثاني من الإنسان ليس من حيث هو منتسب إلى العضويات بل من حيث هو منتسب إلى ما يتعالى به عليها وهو أيضا زوجي: الوعي بالذات والوحي بكل ما يحيط بالذات من الوجود الطبيعي والوجودي التاريخي. فكل إنسان مرآة ذات صقيلين

صقيل تنعكس عليه ذاته فيعيها انعكاس يضاهي كيانه الذهني أو روحه لتكون ذاتا وموضوعا في آن وصقيل ينعكس عليه العالم المحيط به طبيعية وتاريخيه فيكون في كيانه وعيه بالإضافة إلى ذاته كل شروط قيامه الخارجية وعادة يقابل الفكر القديم والوسيط لتعريف الظاهرة بنوعي الحواس: الظاهرة والباطنة.

لكني بينت أن هذا التمييز قاصر لأن الظاهرة لا تحس بما يظهر بحسها الظاهر بل بحوادسها التي بينا أن المقابلة بين البصر والبصيرة ترمز إليها: لهم أعين لا يرون بها وآذان لا يسمعون بها إلخ.. أو صم بكم عمي لا يعقلون. وإذن فبهذا المعنى ما يأتي من خارج الوعي لا يصل إلى بما يجعله باطنا.

العكس صحيح. فالشعور بالجوع والعطش مثلا ليس حسا باطنا لأن المرء يشعر به ويشعر بأنه يأتيه من جسده الذي هو من خارج الوعي كأن يسمع حركة أمعائه أو جفاف لسانه وحلقه أو أي شعور ذي قيام في كيانه العضوي. فيكون تمام الإدراك الحسي الخارجي والداخلي مشروطا بترابطهما ترابط البدن بالروح.

ومعنى ذلك أن “الفرد” زوجي روحيا كما هو زوجي بدينا وأن علاقته بذاته وعلاقته بما يحيط به زوجية الطبيعة في مستوى الحس والحدس وفي مستوى ما يتعالى على الحس والحدس اي ما يسمى عادة معرفة عقلية ظنوا أن منطق العبارة عنها هو منطق ما يتلقى منها فتم إسقاط العبارة على التلقي وحصر هذا في تلك.

وفرضيتي هي أن التلقي أوسع بما لا يقدر من العبارة وأن العبارة تأويل بسيط جدا لما يتلقاه الإنسان من حيث هو جهاز لاقط لآيات الوجود أو للوحي الوجودي الذي يضع الإنسان أمام المعضلة الغريبة: يوجد ما يدركه ولا يستطيع تعبيره (بمعنى تعبير الاحلام) والتعبير عنه بمعنى الصوغ القابل للتواصل.

وابن خلدون يسمى ذلك الوجدانيات التي لا تنقال. ويستثني الانبياء. لكننا نتكلم على تلق هو الوحي العام الذي يقول به القرآن حتى بالنسبة إلى هداية النحل. كل إبداع علميا أو عمليا أو فنيا هو تلق أو وحي بهذا المعنى وهو غير الوحي الرسولي لأن المتلقي هنا غير مكلف بما يكلف به الرسل.

مررنا في الفصل التاسع من العلاقة بين فردين -وكان المثال علاقة الجنسين- لكن هنا الأمر يتضاعف (وقد يكون الأمر مثله في المستوى الطبيعي لكن ليس هنا محل الخوض في ذلك رغم أنه في الفلسفة القديمة كان أمرا معهودا): فهل يمكن للفرد أن يثمر روحه من دون لقاء بين زوجين أم الشرط مثل الجسدين؟

هل الأرواح مثل الابدان لا تثمر إلا بقانون الزوجية فيكون للأرواح أجيال مثل الأبدان ليس بمعنى فاعل ومنفعل لأننا بينا أنه لا يوجد فاعل ومنفعل حتى بين الأبدان يوحد تساو تام بين البذرتين وفضل ما كان يظن منفعلا أكبر ألف مرة من فضل ما كان يظن فاعلا: البويضة هي التي يتحقق فيها التفاعل.

فقيس ذهن المتعلم بالبويضة وذهن المعلم بالحيوان المنوي من تصورات البدائية للعلاقة بين تعبير المعلم لما تلقاه وتلقي المتعلم منه ما تلقاه فيه فاعل وفيه منفعل. لكن الحقيقة هي عكس ذلك تماما: فلو كان المتعلم منفعلا لامتنع عليه أن يفهم المعلم: يتعلم بنفس السهم في تحديد المعنى المشترك

التواصل في الجماعة زوجي البنية بين وعيين يصوبان الفكر نحو معنى مشترك لعلاقة بين رامز ومرموز يتأولانه بنفس المؤول أو بمؤول صار مشتركا في الجماعة قبل تواصل الذاتين المتلقتين لتحرير المعنى: وتحرير المعنى لقاء بين حريتين وليس بين ضرورتين وإن لم يخل منهما.

ونمر إلى العلاقة بين الخارج والداخل أو بين الوعيين: فكلاهما في التواصل عالمين ويحاول تسديد ذهن محاوره إلى تناظر بين عالمين: تعديل متبادل بين شبكتين رامزة ومرموزة من نفس الطبيعة الرامز والرامز (علاقة لغة بما بعد لغة) أو المرموز والمرموز (مقارنة بين ظاهرتين) أو من طبيعتين مختلفتين.

وإذن فاللقاء بين الروحين يكون لقاء في عالمين يحاول كل منهما أن يعدل شبكتيهما ولا يمكن تخيل إنسانا له وعي بذاته دون أن يكون وعيه وعيا بهذين العالمين المتناظرين حتى لو كان في الأحلام. ومن ثم فالتناظر بين الرامز والمرموز بين مشتركين قوعد الترامز هو شرط عالم الحرية فوق عالم الضرورة.

وعالم الحرية فوق عالم الضرورة هو العالم الذي تكون فيه الرموز بدائل من المرموزات لتمد الإنسان من التعالي على ضرورة المرموزات بحرية الرموز أو بفاعلية روحية تجعل الإنسان له ما يشبه الخلق بالرمز: وهو معنى علمه البيان علم الأسماء كلها ومعنى القدرة على جعل الموجود قابلا للتوجيه.

فمن دون التوجيه الوجودي (الممكن والممتنع والواجب) أو التحرر من الغرق في مجرى الوجود والتعالي عليه بالمقام في عالم الرموز التي تعكس أو لا تعكس الوجود يستحيل فهم القيم: توجيه مخلص من المحايثة الوجودية أساس الحرية ومنه الصدق والكذب والخير والشر والجميل والدميم والمتناهي وللامتناهي.

وهنا تكمن مسؤولية الإنسان بمعنى أن التقييم أو التعالي على الغرق في الموجود هو الأساس في المنشود الذي يلازم وعي الإنسان بذاته كاشرئباب وبما حوله موضوعا للتقييم والاختيار في المعرفة والعمل والفن والوجود وهو معنى أبعاد الوعي الإنساني إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا مناط المسؤولية.

والإسلام يرفض الغرق في الوجود الطبيعي والوجود التاريخي اساس الفتنة الصغرى أو العلمانية ويرفض تحويل التعالي عليهما إلى بديل وهمي منهما يستعمل لسلطة الوسطاء وسلطان الأوصياء أساس الفتنة الكبرى فيجعل الإنسان حرا روحيا وسياسيا ليكون مسؤولا على أفعاله كمشارك في كل ما يضاف إلى الطبيعة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي