لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهلحظة الحسم الاستئنافي
ولأشرع في تعريف المنطق أو بصورة أدق تعريف ما جعل المنطق يتحول إلى اسقاط نظام آلة المعرفة على موضوعها فكان ما وصفه ابن خلدون برد الوجود إلى الإدراك. ما بين أرسطو وهيجل هو محاولة كنط (في الفكر الحديث) ومحاولة المدرسة النقدية العربية التشكيك في نظرية المطابقة والأسقاط هذين.
وما نريد بيانه هو أن (علم) آلة الإدراك العقلي (المنطق) لا تختلف عن (عمل) آلة الإدراك الحسي (التكبير للرؤية الصغير والتقريب لرؤية البعيد). والآلة المنطقية للتعامل مع الرموز والآلة التقنية للتعامل مع الأشاء. والاول ينقل صدق المعلومة من المقدم إلى التالي وكذبها من التالي إلى المقدم.
فتكون آلة الإدراك الحسي متعلقة بتلقي الإنسان ما يعني أنها تقربه مما تشكك به الحوادس في الحواس وآلة الإدراك العقلي متعلقة بالبث ما يعني أنها تقربه مما يشكك ما وراء المعقولات (طور ما وراء العقل بلغة الغزالي) في المعقولات: فالمفروض أنهما كليهما يحولان دون الأسقاط والرد.
والسؤال هو: لماذا حصل الرد في الحالتين فأصبح المناطقة يسقطون قوانين العبارة -الظرفية- على الوجود بنظرية المعرفة المطابقة ويحولون دون ما كان ينبغي أن ينتبه إليه الإنسان فيفهم علة رفض القول بالمطابقة في المدرسة النقدية العربية والكنطية كما بينا في ضميمة المثالية الالمانية؟
وكان من المفروض أن تكون الآلة التقنية المتعلقة بتقوية الحواس استجابة لتشكيك الحوادس فيها أن توصل الإنسان مباشرة إلى امتناع المطابقة: لأنه لا شيء يعارض تصور حواس الإنسان أو غيره من الكائنات على مزيد الدقة والقدرة في الوصول إلى ما لا يتناهى من الصغر ومن البعد في الوجود الخارجي.
فهي التي مكنت من تجاوز الرؤى الأولية للأجرام السماوية التي كانت الفلسفة والعلوم تتصورها مقصورة على ما يمتد إليه البصر أو ما يزيد عنه بقليل حتى تمكنت البصريات من اكتشاف آلات تتجاوز بها الحواس -الرؤية-هذا التصور البدائي للأفلاك وسعة العالم. وهو ما بدأ يشكك في القول بالمطابقة.
وفعلا فالمعرفة بدأت تمتحن الاستلال العقلي القبلي بالآلة المنطقية بالتثبت التجريبي بالآلة التقنية وبذلك تأسس المنهج العلمي في معرفة الوجود الخارجي. وهو ما أدى إلى الرؤية النقدية التي تحررت من القول بالتطابق بين المعرفي والوجودي بالمعنى الذي يحرر من رد الثاني إلى الأول.
فبدا الفلاسفة والمتكلمون وكأنهم عادوا إلى التواضع الذي يحررهم من رد الوجود إلى الإدراك ومن اعتبار الإنسان مقياس كل شيء -وهي الحجة الأساسية التي بين بها ابن تيمية فساد المنطق الأرسطي رغم براءة أرسطو الذي لم يكن يعتبر المنطق علما بل مجرد آلة- لكن جدل هيجل أعادنا إلى المربع الأول.
وفي الحقيقة فعندما ندرك الفرق بين تحليلات أرسطو الأواخر وتحليلاته الاوائل نعلم أن تلك تؤسس لنظرية المعرفة وعلى رؤيته الميتافيزيقية وتستعمل هذه آلة لضمان سلامة الترجمة الناقلة من التلقي إلى البث أو المترجمة لما يدركه الإنسان من الوجود إلى تعبير هذا الإدراك.
والمفروض أن تقرأ التحليلات الأواخر من قسمها الثاني (التصورات) إلى قسمها الأول (التصديقات) حتى نفهم هذه العلاقة بين الترجمة بلغة المنطق للإدراك الحدسي بلغة الميتافيزيقا الأرسطيتين. فقول أرسطو بالمطابقة أو بقدرة الإدراك الإنسان على النفاذ إلى حقيقة الوجود شرط للتحليلات الأواخر.
والقول بالمطابقة اسسته الميتافيزيقا بتصور الهيلومورفية نموذج مقومات الموجود عامة: أي إنه مؤلف من مادة وصورة وأن غاية المعرفة تفسير هذا التأليف بالعلل الأربع وبذلك يكون إدراك الوجود محيطا به وما يخرج عن هذه الإحاطة هو الاعراض غير الذاتية التي لا تنحصر معرفيا وليس له أثر وجوديا.
وحتى يؤسس ارسطو نظرية المطابقة احتاج في التحليلات الأواخر إلى تقديم التصديقات على التصورات حتى يضع نظاما للترجمة يحقق المطابقة بين العبارة وموضوعها: كان لا بد من وضع مبدأين أولهما أن تأسيس المعرفة يوجب الحسم في قضية الدور (لا نعلم الشيء بذاته) والتسلسل (بداية غنية عن الدليل).
وهذا هو مفهوم الأوليات الغنية عن الدليل لكأن أرسطو وإن بغير وعي لم يعد قائلا بالمنطق الآلة للمعرفة بل صار المنطق مثال الوجود اي إن قوانينه هي قوانين الوجود وإلا فلا يمكن القبول بنظرية المعرفة المطابقة. لم يقل ذلك صراحة لكن التحليلات الأواخر لا تفهم من دون هذا الضمير.
ما فعله كنط هو العكس تماما: فنظير التحليلات الأواخر الأرسطية هو ما يسميه كنط بالمنطق المتعالي المؤسس للقبلي في نظرية المعرفة. والفرق هو أن ما ينسبه أرسطو من مطابقة بين بنى منطقه وبنى الوجود ينسبه كنط إلى مطابقة بين بنى منطقه وبنى العقل الإنساني: الفرق بين نظريتهما في المقولات.
ولذلك فهيجل نكص إلى رؤية أقرب إلى الأرسطية منه إلى الكنطية حتى وإن كان النموذج الجدلي مستمدا مما تتصوره ما بعد تاريخ بديلا مما بعد الطبيعة: انتقلنا من علاقة المادة والصورة إلى ما يشبه العلاقة بين الإرادات المتنافسة. وفي ذلك عودة إلى منطق ميثولوجي آلهته هي المفهومات المتجادلة.
أرسطو وهيجل يتحدان في القول بالمطابقة لكنها مطابقة تفصل بين الموضوعي والذاتي عند الاول وتتجاوز هذا الفصل عند الثاني لأن الموضوع نفسه صار عين الذات إذ تصنع ذاتها بموضعتها وتصنع الموضوع بتذويته وهو منطق التاريخ عنده ومنطق فينومينولوجيا الروحي والمفاهيم في المنطق أو فلسفة الوجود.
وعنده أن كل المفهومات مقولات وأنها لا ذاتية (بمعنى كيانات ذهنية باطنية) ولا موضوعية (بمعنى كيانات عينية خارجية) بل هي الحقائق التي هي جوهر الروح المتجلي في افعاله وفي مدركاته: نوع من وحدة الوجود المتجاوزة للسبينوزية لأنه يعتقد أن هذه جوهرانية خالية من الروح فذوتها ليروحنها.
وتذويت وحدة الوجود السبينوزية وروحنتها يغني -الرؤية الهيجلية- عما يتعالى على العالم الطبيعي والتاريخ لأن الإلهي هو عين الروحي فيهما ويتجلى لذاته بفضل الصيرورة التاريخية التي هي صيرورة وعي الروح بذاته حتى يصل إلى معرفتها المطابقة وتلك هي نهاية العلم والتاريخ.
لكنها في الحقيقة كانت نهاية الفلسفة التي بدأت مع أفلاطون وأرسطو بالقطع مع الميثولوجيا وانتهت مع كنط وهيجل بالعودة إليها لكنها ليست ميثولوجيا الآلهة بل هي ميثولوجيا البشر: أصبحت الفلسفة ميثولوجيا الإنسان في صراعه التاريخ إما بفهم روحاني هيجلي أو بفهم مادي ماركسي: صورتا الجدل.
وفي الحقيقة فإن الفصل الكنطي بين النظري الذي لا يتجاوز الظاهرات والعملي الذي لا يبنى عليه لحاجته إلى ما يتجاوزها يؤسس في آن للهيجلية والماركسية: فتجاوز الشيء في ذاته يمكن أن ينتج عنه اعتبار النظري من جنس العملي عنده أو العكس اعتبار العملي من جنس النظري عنده.
وحينئذ يزول الفرق بين عالم الطبيعة علمه النظري وعالم التاريخ وعلمه العملي أو بين الضرورة والحرية حجتي كنط للفصل بين الشيء في ذاته وظاهرته فنعود إلى القول بنظرية المعرفة المطابقة حتى وإن كان تحقيق التطابق هو جوهر الصيرورة التاريخية لتحقيق الإنسان لذاته غنيا عما وراء العالم.
وما أسميه ميثولوجيا انثروبولوجية بديلا من الميثولوجيا الثيولوجية هو جعل المنشود الإنساني هو بدوره محايثا للموجود الإنسان واعتباره يمر بحالتين: حالة الخيال الحائل دون تحقيقه لتأجيله إلى حياة أخرى وحالة الفعل الثوري الذي يحققه دون تأجيل في التاريخ الفعلي: وهذه هي الإيديولوجيا.
وهذه الإيديولوجيا هي جوهر الفلسفة ما بعد الحداثية أو الفلسفة ما بعد الهيجلية التي صارت بالأساس فلسفة سياسية شاملة لكل افعال الأنسان من حيث هو مشرع لذاته ومحقق لها بمنطق الجدل والصراع الذي لا يتجاوز أفق هذا العالم الفاقد لما يتجاوزه أو يتعالى عليه: وهو أساس العولمة الإيديولوجي.
واخيرا فإن ذلك ما كان ليكون كذلك من دون أن يكون الإنسان مسقطا رؤاه على الوجود معتبرا ما يسميه علما هو حقيقة الوجود فيكون بمصطلح ابن خلدون أساس هذه الرؤى هو رد الوجود إلى الإدراك. ولا يمكن لذلك أن يسود من دون الإيمان بدين العجل الذهبي ذي الخوار.