لحظة الحسم الاستئنافي، أو تجاوز الاسلام للفتنتين بحريتيه الروحية والسياسية – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله لحظة الحسم الاستئنافي

في بداية الفصل السابع بدأنا نلمح الحل: فهنا وضعنا المفهوم الجديد حول علاقة الحواس بالحوادس قياسا على علاقة البصر بالبصيرة فصغنا نظرة الحوادس التي هي ماوراء الحواس من حيث هي محلية لدلالة وراءها معنى هو غيرها لأن يفتح على اللامتناهي ولا يتقيد بالمتناهي.

فما به تتميز البصيرة عن البصر هو ما يجعلها تتجاوز البصريات الى البصائر مثال ذلك أن رؤية العالم بالحواس المجردة عندما نقويها بآلات الرؤية الادق والأبعد تعطينا فكرة اللاتناهي البصيري مقابل تناهي البصري. وقس عليه كل الحواس في علاقتها بما وراءها من الحوادس.

والحواس هي مجسات مفتوحة على الوجود (وجود الذات وما حولها أو الأنفس والآفاق بلغة القرآن) لكنها قد تتقيد بالمحدود فتكون مجرد حواس متلقية لذاتها لما حولها من الأعيان دون معانيهما فإنها تتحرر من المتناهي بالحوادس التي تريها المعاني فتكون الأعيان وكأنها رموز حاملة لمعان لامتناهية.

وبلغة قرآنية فإن ما تدركه الحواس هو الآفاق والأنفس كأعيان محدودة لكنها تصبح قادرة على تبين حقيقة القرآن عندما ترى فيها ما يريها الله من آياته فتتجاوز المتناهي إلى اللامتناهي ولعل أول علم أدرك أهمية هذا التجاوز هو الرياضيات وأول تطبيق لها هو البصريات التي تمد في قدرة البصر.

ولولاهما ما كنا لنتخيل حتى مجرد التخيل أن العالم -وإن كان متناهيا مبدئيا-له من الأبعاد ما لا يكاد يحصر: وليس ذلك مجرد فرضيات بل هو حقائق صرنا نعلمها بفضل ما مكنت منه الرياضيات وتطبيقاتها على الحواس التي صارت توحي لنا بما يجعلها بداية للحوادس التي تدرك إحاطة اللامتناهي بالمتناهي.

وبذلك بدانا نفهم مستويات التلقي. وسبق أن بينت في محاولة انطولوجيا الترميز كيف ان علوم اللسان لا تقتصر على الثالوث المعتاد -دلالة ونظم وتداول-بل إن لكل منها ما يتجاوزه في التعبير تجاوز الحوادس للحواس في التلقي. فمع الدلالة نجد المعنى ومع نظم اللغة الصناعية نجد نظم اللغة الطبعية.

ومن ثم فالتداولية لها مستويان: مستوى التداولية التي تعتمد مستوى التلقي الاول (الحواس) ومستوى التداولية التي تعتمد التلقي الثاني (الحوادس). وهي لا تقتصر على الأحياء بل هي كونية وتتضمن الاولى وتتجاوزها تداولة كونية في معان لا متناهية تحقق تواصل الأنواع ووحدة الكون اساسا لرؤاه.

نحن إذن أمام مستويين للتلقي (وهو جنيس الوحي العام الذي يتجاوز الإنسان إلى كل الكائنات قرآنيا) هما الحواس والحوادس ومستويين لتعبير ما يتلقاه الإنسان بهما (تعبير مثل تعبير الرؤيا ولا أستعمل تأويل لأن الامر يتعلق بترجمة بين نوعين من الترميز) هما الدلالة والمعنى: المعنى رمز اللامتناهي.

فالدلالة -Die Bedeutung-تختلف عن المعنى-Der Sinn-يكون الأولى فيها علاقة إحالة لعين في الوجود الخارجي واحدة بوصفها مرجعية الرمز. لكن المعنى ليس له إحالة مرجعية واحدة بل يقبل ما لا يتناهي من الإحالات بحسب المقام والمقال وعالم الخطاب.

هذا في تعبير ما نتلقى وكأنه رؤيا نترجمها إلى عبارة للذات وللغير شرطا في التواصل والتفاهم. أما فيما نتلقى فالأمر كذلك. فالحواس تبدو وكأنها تحيل إلى أعيان محددة مرجعية لها لكن ما أن تصبح المرجعية المحددة المشار إليها في الحس هي بدورها رمزا ننتقل من الحس إلى الحدس ومنها إلى معناها.

وبذلك يحصل شبه تناظر بين التلقي والتعبير غير متطابق لأن التناظر نفسه يشير إلى نقصانه إذ إن المستوى الاول منهما هو صورتنا في الاذهان عن الوجود المادي في الأعيان والمستوى الثاني هو صورتنا عن وجود لا يمكن للأذهان ولا للأعيان أن تستوعبه أو تحيط به لأنه لا متناه نشعر به وجدانيا فحسب.

وكل محاولات رد المستوى الثاني في التلقي وفي العبارة وجعله محايثا له كما في نوعي المنطق السابقين لا يمكن أن تصف بصدق حقيقة التجربة التي يعيشها من يتجاوز تلقيه بحوادسه حواسه ويتجاوز تعبيره بمعانيه دلالاته: فيكون الإنسان الذي من الله عليه بهذه النعمة بين عالمين وذلك هو جوهر الدين.

وعندما أقول جوهر الدين فالقصد منطق تفكيره بوصفه تلقيا (من جنس الوحي) لبث وجودي مجهول الطبيعة هو أساس كل معارفنا ومن ثم فلا وجود لإبداع نظري أو عملي أو فني لا يتقدم فيه التلقي على التعبير عن المتلقي ومن فلا اعتقد أنه يوجد مبدع ليس مؤمنا بهذه الحقيقة التي هي جوهر العبادة.

وهذا المربع أصله واحد فهو إذن مخمس أصل وأربعة فروع: فرعان للتلقي وفرعان للتعبير عن المتلقي. وما يتلقى منه الإنسان هو ما يعتبره ما وراء الطبائع وما وراء الشرائع أو ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ. طبعا فالماوراء هو غاية الحوادس بعد الحواس تلقيا وغاية المعاني بعد الدلالات تعبيرا.

والغاية في الحالتين هي مما لا يحيط به إدراك منفعل (التلقي) أو فاعل (التعبير) فيبقى من جنس الوجدانيات التي لا تنقال (ابن خلدون) أي لا يمكن تعبيره وحتى تلقيها فهو من جنس لا يقبل التحديد والا لكان قابلا للقول ومن ثم للتعبير: قول الكلام والفلسفة بالمطابقة جهل أو تجاهل لهذه الحقيقة.

فما هو هذا الأصل الواحد؟

إنه الإيمان بأن ما بين التلقي بمستوييه والتعبير بمستوييه كائنا مشدودا إلى عالمين: الإنسان من حيث هو خليفة. فالإنسان حتى لو لم يع ذلك وحتى لو أراد نفيه (الملحد) لا يمكنه أن ينفي أن كيانه هو هذه الوساطة بين كونه منفعلا بما يتلقى وكونه فاعلا لما يعبر به عنه.

ومن لم يعش هذه التجربة يكون غافلا عن ذاته والأديان-أو على الأقل الإسلام-لا تقدم نفسها على أنها اسست هذه الحقيقة وأنشأتها من عدم بل هي تعتبر نفسها تذكيرا بها لأنها عين حقيقة الإنسان أو الفطرة التي فطر عليها الإنسان وهو مهدد دائما بالنسيان أو الرد أسفل سافلين.

فتكون كل مقومات كيان الإنسان مسهمة في تلقي ما يصدر عن وجود أوسع من إدراكه وفي تعبير ما يقبل التعبير منه (لأن جله وجداني لا ينقال): إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده. ومن ثم فالمنطق المناسب للإنسان هو الإنسان نفسه بمقوماته كلها التي هي شبه جهاز تلق وبث بين الله والإنسان.

ومن ثم فما يتميز به الإنسان ويجعله -بمنظور القرآن أهلا للاستخلاف- هو هذه القدرة على التلقي والتعبير وهما ما رمز إليه الخاصية التي جهلتها الملائكة لما شككت في أهليته بسب الفساد في الارض وسفك الدماء هي التسمية: أن يسمى ما يتقلاه بحواسه وحوادسه من ذاته ومحيطه.

والتسمية ليست “عقلا” بل هي تشمل كل مقومات الإنسان: فلا تسمية ممكنة من أن دون أن تؤدي فيها الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود نسبية في المسمي (اسم فاعل) المسمى (اسم مفعول) ومطلقة في موجدهما. وهو يستنتج ذلك مما بين مستويي الإدراك ومستويي التعبير من علاقة “تناه-لاتناه” بينة

فهو يشعر أنه كمسم ليس مجرد أسم وأن تسمياته غير مسمياته وأنه من ثم في علاقة دائمة بشرطي وجوده الطبيعي والتاريخي المحيلين إلى ما بعدهما شعورا منه أنهما ليسا أقل منه حاجة لما يضفي على وجودهما معنى هو سر وجودهما (الخلق) ونظامهما (الامر): وهو معنى رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس.

ومن هذه العلاقة استنتجت مفهوم المعادلة الوجودية. فهي معادلة ذات قطبين متلازمين الله والإنسان تلازما هو بنية وعي الإنسان بذاته مقوما لا مفر منه وتلك هي العلاقة المباشرة التي في ضوئها يدرك الإنسان دور الوسيطين الطبيعة والتاريخ في قيامه العضوي والروحي وتبعيتهما مثله للقطب الاول.

وهذا هو المنطق الديني. فله مستوى مباشر في كيان الإنسان. مهما نسي الإنسان فهو لا يمكن أن ينسى أنه متناه لم يكن ثم أصبح وكاين زائل ومن ثم فمجرد وعيه بهذه الحقائق هو واع بمتضايفاتها التي هي اللاتناهي والسرمدية أزلا وابدا وهو مفهوم الألوهية الملازمة للإنسانية.

وحينها لا تكون المعرفة الذريعية اي التي تحل مشكلات العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة ليستمد شروط قيامه العضوي والعلاقة الافقية بين الإنسان والإنسان ليستمد شروط قيامه الروحي ليست هي المعرفة الغاية بل هي المعرفة الاداة. والمعرفة الأداة إذا توهم صاحبها المطابقة ظنها الغاية.

وعي الإنسان بهذه العلاقة بين المعرفتين الغاية الأداة هو مفهوم الحكمة التي هي الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات والتي بها يسمو الإنسان عن الغرق في السيلان الابدي للطبائع والشرائع فيكون بحق كما يعرفه القرآن حرا روحيا (شرط النظر) وحرا سياسيا (شرط العمل): بعدا الاستخلاف.

والحرية الروحية والحرية السياسية هما شرطا مهمتي الإنسان الخليفة كما يحددها القرآن وجوهر المنطق الديني والفلسفي المتجاوز للمعرفة الاداة دون الاستغناء عنها: مهمة تعمير الأرض ومهمة تحقيق قيم الاستخلاف أعني تمكين الإنسان من تجاوز المستوى الاول من التلقي والتعبير.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي