لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهلحظة الحسم الاستئنافي
سأحاول اختبار هذه الفرضية لتقييم قدرتها على فهم ما يجري في تاريخ الإنسانية من منطلق عدم اقتصارها على تفسيره بالناطقية (لغة ومنطقا) والنظر في مقومات الإنسان بوصفها منظومة متكاملة بدل تفسيرها ببعضها ورد الباقي إليه علة الحلين الأرسطي والهيجلي وما بينهما وما بعدهما.
فحل أرسطو وهيجل يمكن اعتبارهما بداية الفلسفة ونهايتها إذا اعتبرناها ردا إلى الإنسان إلى أحد مقوماته بوصفه كائنا قابلا للرد إلى أحد مقوماته هي “العاقلية المعرفية” باعتبارها متعينة في الناطقية (لغة ومنطقا) التي هي المحدد الأول والاخير لعلاقة التواصل العمودية بالعالم والافقية بالبشر.
وقبل الشروع في طلب الحل لا بد من بعض الإشارات السريعة للفرق الأساسي بين الحلين الارسطي والهيجلي ليس من أجل المفاضلة بل لبيان الفروق الجوهرية بين نوعين من الذهنيات وما توسط بينهما لفهم النقلة من الرؤية الأرسطية إلى الرؤية الهيجلية من خلال الفصل والوصل بين رؤيتي الديني والفلسفي.
فبكثير من الاختزال تعتبر نشأة الفلسفة مدينة لقطيعة مع الميثولوجيا أو الديني الطبيعي (وعي حاد بحدود العاقلية المعرفية: الوحي أو الإلهام جنيس الإبداع الشعري) ببديل يمكن أن نسميه الديني الفلسفي الملتزم بعاقلية معرفية تنآى بنفسها عن حماسة جنونية لاعقلانية تنسبها إلى الأولى.
ويمكن أن نسمي هذه القطيعة بالمنعرج الذي قلب العلاقة بين الطبيعة وما بعدها فجعل الثاني يقاس على الاولى ويعتبر خاضعا لما هو بين فيها من قوانين وأنظمة: ما بعد الطبيعة -ومثالها كتاب ما بعد الطبيعة الأرسطي أو كتاب الحروف-تعميم لما نعلم من قوانين الطبيعة إلى ما به تفسر هذه القوانين.
ذلك أن الميثولوجيا لا تنكر أن للطبيعة قوانين لكنها ترفض الدور والتسلسل فتضع وراء الطبيعة عالما لا يخضع يتعالى على قوانين الطبيعة وتسميه عالم الألهة. وفيه شيء من عكس ما يجري في التاريخ لكأن الميثولوجيا أو الأديان الطبيعية هي ما بعد تاريخ وليست ما بعد طبيعة.
وما بعد التاريخ الذي تسقطه الميثولوجيا على ما بعد الطبيعة لتفسيرها وكأنها نظام سياسي واجتماعي لآلهة يشبهون البشر من حيث التكوينية النفسية ولكن لا سلطان عليهم في كل ما يفعلون لأنهم مشرعون لأنفسهم أو لما بينهم من صراعات تشبه صراعات البشر ولكن بمعزل عن الخير والشر.
وهذا هو ما كان يستفز أفلاطون وأرسطو وجعلهما يعتبران ذلك تعبيرا عن حماسة الجنون لكأن واضعي الدين الميثولوجي سكارى يتخيلون تفسيرا غير عقلي فيما بعد الطبيعة التي يفسرون بها الطبيعة: فوضع كلاهما نظرية دينية لها رب عاقل أو “نوس” ليس خالقا عند أرسطو بل منظم للطبيعة بتحريك غائي لمادتها.
لكن أفلاطون يميز بين مستويين: المثل ومثالها الأعلى ليست مخلوقة ولكن الإله الصانع يخلق العالم بتصوير المادة رياضيا فيخرج من فوضى المادة نظام العالم دون أن يستطيع إلغاء ما فيها من “شر” أو مما لا يقبل التصوير بمقتضى المثال ويبقى علة للاعقل في العالم (التيماوس).
والحصيلة أن الوجود أهمل جله ولم يحفظ منه إلا لما يتوهم مطابقته للعقل في العلم وفي العمل. وظل الامر كذلك خلال الصدام بين الفلسفة والأديان المنزلة (والبعض يعتبرها هي بدورها ميثولوجية ويعتبر التنزيل هو بدوره من آليات العبارة الميثولوجية إذ إن واضعيها يقولون بما يشبه الوحي).
لكن محاولات التوفيق بين النقل والعقل رغم كل عيوبها أدخلت النسبية على الأمرين أو قربت بين النقل والعقل بصور مختلفة لعلها هي التي نقلتنا من منطق الفلسفة القديمة إلى منطق الفلسفة الحديثة بالفصل ثم إلى منطق ما بعد الحديثة بفضل النقد الهيجلي للحل الكنطي.
فيكون تحديد “العقلي” و “اللاعقلي” في رؤية الإنسان للوجود ليس اختزالا للوجود في إحدى رؤى الإنسان له بل هو قبل ذلك وبعده اختزال لرؤية الإنسان لذاته. وإذن فما ظن معرفيا من رؤى الإنسان هو في الحقيقة رؤيا تحدد منازل ما يدركه الإنسان بإسقاط أحكام إنسانية مسبقة على الوجود وعلمه.
المقابلة بين “العقل” و”اللاعقل” مقابلة شديدة النسبية ولعل “العقل” أحوج إلى التنسيب من “اللاعقل” لأن ما استثناه من مقومات وجود الإنسان ووجود العالم يفوق بكثير ما ظن أنه مدركه بمعرفة شديدة النسبية حتى وإن كانت أداة سلطان وقوة جبارة ومهما كانت فوائدها فمضارها أنها نفعية بالجوهر.
وطبعا فكون العقل ومعرفته أداة سلطة وقوة فإنها بالضرورة تسود وخاصة في من يسعون إليهما أعني الغاية الاولى والأخيرة للسياسة وأداتيها أي الثروة والتراث أو فاعلية العملة (رمز القوة الاقتصادية) وفاعلية الكلمة (رمز القوة الإيدولوجية): وأصحابهما يسترزقون بقية النخب في الجماعة.
والاستراتيجية كلها هي جعل الأمر الواقع أمرا واجبا وذلك هو علة رفضي للمنطقين الأرسطي والهيجلي: كلاهما يعتبر الاحكام المسبقة حول الموجود الذي ألغى المنشود هي قوانين الوجود وعلمه. لكن الاحكام المسبقة حول الموجود سيطرت بنفعيتها التي جعلتها التربية والحكم المهيمنين حقائق مطلقة.
ولو اكتشفنا منطقا يحررنا من التوظيف النفعي للعقل الذي يحصر الوجود في فاعلية أداتي كل سلطان (المال والإيديولوجيا) على الطبيعة وعلى التاريخ لكان تجاوز المقابلة بين العقل واللاعقل واحترام كيان الإنسان كله محررا من إفساد الإنسان لذاته ولشروط بقائه: يفسد فيها ويسفك الدماء.
وهو ما يقتضي وجود أمرا أسمى مما يسمى عقلا ومما يسمى نقلا كلاهما بالمقابلة بين العقل واللاعقل اختزال له وتشويه للإنسان وللوجود تشويها ينتج عنه المقابلة بين نوعين من القبليات في علم الإنسان وعمله إذا حافظنا على كيانه كله المتجلي فيه بوصفه كائنا مريدا وعارفا وقادرا وحيا وموجودا.
عندئذ سيصبح الإنسان كائنا سويا تتناغم فيه كل مقوماته فلا يقبل ثقافة يكون فيها الروح حربا على البدن أو البدن حربا على الروح وتكون تجلياتهما متنافية فلا يكون الإنسان روحيا إلا بقدر ما ينفي جسده ولا يكون جسديا إلا بقدر ما ينفي من روحه: فيتحرر الإنسان من فصامه واسقاطه على العالم.
ولهذه العلة فأول رؤية رفضت هذا الفصام فلا تعتبر سجن الإنسان في العالم الطبيعي غاية وعلما ولا تعتبر تحرره منه ملغيا للعالم الطبيعي وبلغة دينية لا تلغي الدنيا باسم الآخرة ولا تسجن الإنسان في الفاني ولا تنفي الجسد باسم الروح أو الروح باسم الجسد بل تحقق التناغم هي رؤية القرآن.
وهدف فرضيتي أن هذه الرؤية لا يمكن أن تفهم بالمنطق الارسطي ولا بالمنطق الهيجلي بل إني اعتبر الكاريكاتورين -التأصيلي والتحديثي -يصدران عن هذين المنطقين: كاريكاتور التحديث لم يتجاوز المنطق الارسطي وكاريكاتور التحديث لم يتحاوز المنطق الهيجلي أو الاصح فهمهما العقيم للمنطقين.
ومن هنا يأتي دافعي للبحث عن المنطق الذي يمكن من فهم هذه الرؤية القرآنية لكأني أريد أن أعمل مع منطق الهيجلية ما عمل ابن تيمية مع منطق الأرسطية ليس بوصفهما حساب لمغيرات خاوية أو منطقا صوريا. فهذه لعبة رمزية لا غبار عليها ويمكن تصور غيرها مثل الرياضيات المتعددة.
ما يعنيني هو عين ما اهتم به ابن تيمية في سعيه لتجاوز المنطق الارسطي من حيث أسقاط على الوجود لما يمكن من ملء خانات المنطق الصوري بمضمونات يظنها أرسطو حقائق الوجود في نظرية المعرفة المطابقة وذلك هو ما ركز عليه ابن تيمية علاجه: أي التحليلات الاواخر والهيلومورفية.
منطق هيجل ليس فيه تمييز بين التحليلات الأوائل والتحليلات الأواخر وهذا هو فصامه نظريته: فهو لم يجدد التحليلات الأوائل بل تبنى الأرسطية فيها ثم جعله عين التحليلات الاواخر بأن اعتبره بديلا من الميتافيزيقا بما أدخله عليه من جدل تجعل الموضوع متعينا في محمولاته بجعل الجوهر صيروريا.
إدخال الصيرورة في الجوهر مزيد اغراق للإنسان في السيلان الطبيعي كانت ثمرته نفي هيجل لما وراء ما يظهر من الوجود وبلغة ابن خلدون ردا للوجود إلى الإدراك -وهو عين السفسطة التي تجعل الإنسان مقياس كل شيء-والسر هو توهم المطابقة بين علم الإنسان والوجود وغلو في فاعلية العقل.
ولولا هذا الغلو في فاعلية العقل لما أمكن للإنسان أن يتوهم أن وجوده الطبيعي في العالم المحدود -الدنيا-هو الحقيقة وكل ما عده من وهم الإنسان كما يدعي ممثلو الهيجلية يسارييهم ويمينييهم تطبيقا لمقولة هيجل حول عدم وجود الماهناك وراء الماهنا: العالم الطبيعي والتاريخي لا وراء لهما.
وكل إنسان نزيه يدرك حدود علمه ونسبيته لا يستطيع أن يثبت إيجابا أو سلبا هذه القول: لا شيء يثبت أن وجود الإنسان مقصور على وجوده الدنيوي ولا يستطيع أن إنسان أن يثبت ودود ما وراء هذا الوجود فتبقى القضية معلقة ويصبح ما يقوله الوحي مما لا يقبل الحسم إيجابا أو سلبا: خيار روحي حر.
والموقف الوحيد الذي يتجاوز المقابلة بين ما يسمى “عقلا” وما يسمى “وحيا” هو رهان الغزالي الذي صار يسمى في الفلسفة الحديث رهان باسكال: الإنسان المؤمن بما يتعالى على العالم يراهن على “الوحي”. والإنسان النافي بما يتعالى يراهن على “العقل”. والقرآن يؤجل الحسم بين المتراهنين ليوم الدين.