لحظة الحسم الاستئنافي، أو تجاوز الاسلام للفتنتين بحريتيه الروحية والسياسية – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله لحظة الحسم الاستئنافي

في الحقيقة المقابلة بين “العقل” و”الوحي” مردها إلى اختزال للعملية المعرفية عامة. فلا توجد معرفة من دون تلق يشبه الوحي كما يصفه الرسول الخاتم ولا توجد معرفة من دون العبارة عن التلقي لنقل المتلقى من قراءة ما يتلقاه الإنسان وتأويله في صيغة تمكن أولا من فهمه ونقله للغير والتواصل حوله.

وحتى أوجز القصد بالتلقي في كل معرفة إنسانية لأمر يحتاج إلى قراءة تأويلية تجعل ما يصدر عنه الأمر المتلقى وكأنه أحداث حلم يعبره صاحبه عندما يحاول التعبير عنه ليفهمه أولا ولينقله لغيره ثانيا وهذه حال كل مبدع في أي مجال من مجالات الإبداع التي سنحصي أصنافها.

فالإنسان عامة -والمبدعون من البشر خاصة (كلهم يوجدون بين عالمين:

  • عالم الاعيان أي الأشياء الخارجية وما بينها من علاقات وتفاعلات

  • عالم الاذهان او عالم الرموز التي وإن كانت هي بدورها أشاء توجد خارج الأذهان إلا أن معانيها هي المؤثرة في الأذهان وهي غير أعيانها التي هي حوامل تلك المعاني)

وأغلب الناس يتصورون أن الأشياء الموجودة في الأعيان وتفاعلاتها تؤثر بكيانها المدرك بالحواس لأن الأشياء الخارجية هي ما ندركه بالحواس الخارجية. لكنها في الحقيقة لا تؤثر بما تدركه الحواس عامة بل بما وراء الحواس من إدراك يشبه إدراك المعاني في الرموز التي هي بدورها توجد في الأعيان.

وبعبارة أوجز فإن الاشياء الخارجية هي بدروها تدرك بوصفها حوامل لمعاني وليس بوصفها أشياء تؤثر بشيئتها بل بمعنى رمزي إن صح التعبير. فيكون الإنسان بين مجالين من الوجود العيني المؤثر ليس بكيانه المادي من حيث هو مجود خارج الذهن بل برمزية هي معناه المؤثر في إدراك متلقيه الذي يدركه.

فيكون الإدراك المعرفي أشبه بترجمة مضاعفة للغتين مختلفتين: لغة الأشياء التي نعتبرها أشياء مادية في الوجود الخارجي تخاطبنا ولغة الرموز التي توجد كذلك كأشياء مادية في الوجود الخارجي وتخاطبنا مثل الأشياء التي نعتبرها من طبيعة مختلفة عن الرموز: ومنهما منهما نتلقى “معرفة” ما.

وما نتلقاه نعبره كما نعبر الأحلام شرطا في فهمنا ما تلقيناه أولا ثم في إفهام ما نريد إبلاغه لغيرنا بما يشبه نسج خطاب برموز متواضع عليها بين الجماعة المختصة أو نترجمه إلى لغة عادية عندما نخاطب به غير المختصين. هذا ما أريد اكتشاف منطقه وما لا يكفي فيها المنطقان السابقان.

وحتى اشرح العلاقة بين الشيء الخارجي وقيام الرمز في الخارج كشيء هو بدوره مثال أي فاكهة (شيء) واسمها (رمز) واعتبار الاول هو بدوره يفعل بمعناه وليس بكيانه المادي اضطررت لوضع وسيط بين الحس وموضوع إدراكه: فهو يدرك كيان الشيء وكيان الرمز كشيئين لكنه لا يكفي لقراءتهما من حيث رمزيتهما.

فعلاقة البصر بالبصيرة تستعمل عادة للدلالة على ما به يتجاوز إدراك المعنى وراء المبنى في إدراك الأشياء سواء كانت مجرد أشياء مادية (الفاكهة مثلا) أو مجرد أشياء رمزية (اسمها مثلا) فنصف من يفهم حقيقة ما يدرك بكونه ذا بصيرة تتجاوز البصر: ونتكلم على عمى البصر وعمى البصيرة.

وهو ما يعني أن للتلقي الإدراكي مستويين: مستوى يشبه البصر ومستوى يشبه البصيرة. وحتى أوضع هذا المعنى وضعت قياسا على هذه العلاقة وراء كل حس ما يجانس البصيرة وراء البصر: فسميت ماوراء السمع سميعة وما وراء الشم شميمة وما وراء الذوق ذويقة وما وراء اللمس لميسة.

وسميت هذه المدارك التي وراء الحواس حوادس وهي الإدراك القلبي: إنما تعمى القلوب. فهي تتلقى معاني الأشياء بصنفيها وعلاقاتهما وتفاعلاتهما تلقيا ذهنيا وتعبره كما تعبر الاحلام ثم تترجمه للتواصل. تفاوت البشر في الحوادس أكبر بما لا يقدر في تفاوتهم في الحواس: أجهزة تلق لبث وجودي كوني.

لذلك فمن السذاجة الاكتفاء بمنطق يقتصر على نظام الرموز اللسانية (ارسطو) أو على نظام علاقات البشر التنافسية والصراعية (هيجل وماركس) في حين أن المعرفة أو التواصل الوجودي بين الكون والإنسان وبين الإنسان والإنسان حول هذا التواصل عملية كونية لا تقتصر عملية رد مبتسرة لأحد الابعاد.

وطبعا عندما نسمي الحوادس بأنها جهاز التقاط مثل صحون التقاط الموجات لا نعني أن محلها القلب بل نعني أن لها علاقة بما يرمز إليه القلب بوصفه مضخة الحياة (الدم) بايولوجيا ومضخة الحياة (العاطفة) روحيا وهما بعدا الحياة في مقومات الوجودي الإنساني أعني العضوي كقيام والذوقي كحب وجمال.

ولولا هذا المعنى لكانت المعرفة مجرد أداة سلطان وقوة للحياة العضوية والتنافس على ما يقيمها من حاجات مادية فاقدة للبعد الثاني الذي يضفي عليها دلالة القيم فتكون ذات معنى متجاوز لمجرد الأداة والتي عندما تقتصر عليها تتحول إلى أداة تهديم للطبيعة وللإنسان بمنطق الجدل الصراعي الدائم.

أما عند تجاوز هذا الفهم الأداتي للمعرفة فإنها تلتقي مع العبادة ويصبح للتلقي فيها الدور الأول وذلك ما يفهمه كل مبدع: فالمبدع له ما يجعله يبصر خطاب الوجود وينصت إليه ويشمه ويذوقه ويلمسه فيكون التلقي هو عين التناغم بين الحوادس والمحدوسات أساس قدرة التعبير عبورا من التلقي إلى البث.

وحتى نفهم ذلك فلنأخذ مثالا بسيطا ويسير على الفهم: فلنقارن بين الرسم المحاكي عند راسم البورتري والرسم المبدع الذي لا يحاكي موضوعا. الأول إدراكه حسي بالبصر مع قدرة على المحاكاة. والثاني إدراكه حدسي بالبصيرة مع قدرة على الإبداع غير المحاكي لشيء بل لمعنى الشيء.

والشيء في الحالة الأولى موجود مادي وهو في الحالة الثانية موضوع المشيئة وليس موجودا ماديا: فشيء مصدر شاء. وبهذا الفرق نهم معنى إمكانية مخاطبة ما ليس موجودا لإيجاده في وصف إرادة القدرة المبدعة عند الخالق: الإيجاد بأمر كن. وطبعا المخاطب بكن لم يكن موجودا قبل أمره بها ليوجد.

المنطق الذي أبحث عنه بديلا من منطق أرسطو ومنطق هيجل هو منطق التلقي والبث في الإبداع الإنساني المعبر عن مقومات وجوده من حيث هي جاعلة له قادرا على تعبير البث الوجودي بكل أبعاده التي يتقوم بها الوجود الإنسان دون حصر الوجود عامة فيما يناسب الوجود الإنساني.

والقصد من هذا الاحتراز هو عدم الوقوع في رد الوجود إلى الإدراك بالمعنى الذي يعيبه ابن خلدون على المتكلمين والفلاسفة دون الوقوع في ظاهرياتية كنط: ما يدركه الإنسان ليست مجرد ظاهرات لكنه ليس كل الوجود. هو الوجود المناسب للإنسان وهو حقيقي وليس مجرد ظاهرات.

ذلك أن الحل الكنطي متناقض: فلو كان ما نعلمه مجرد ظاهرات وليس ما يناسب الإنسان من الوجود الذي هو أيضا وجود لكان نقد كنط أيضا مجرد ظاهرات لعلمه بالمعرفة وليس عين المعرفة. معرفة الإنسان بما يتلقاه من البث الوجودي وتعبيره وجود حقيقي يحقق ما يهدف إليه البث الوجودي لمتلقيه.

ومن ثم فالوجود لا يحيط به أي الموجود (اسم مفعول) بل الموجد (اسم فاعل): والإنسان يحيط بما يوجده لكنه غير محيط بوجوده فضلا عن وجود العالم وغير العالم. وهذه هي الرؤية التي حررت الإنسان من وهم الفلاسفة والمتكلمين القائل بالمطابقة والمضمر للإحاطة وهو سر اسقاط المنطقين على الوجود.

والنتيجة هي أنه لا يوجد إبداع من دون وحي أي تلق لبث وجودي في مجال الإبداع سواء كان علميا أو علميا أو فنيا. وهو ما يعني أن الوحي الذي ختم هو الوحي الرسول: لا رسالة تتلقى البث الوجودي الشامل بمعنى الرسالة الكونية القرآنية. الوحي الذي يؤسس كل إبداع القرآن يقره إذ يخاطب به حتى النحل.

الإبداع قدرتان: أولاهما انفعالية -تلق-والثانية فعلية -تعبير- وبهما يكون المبدع وسيطا بين بث وجودي يعسر تحديد طبيعته له من رهافة الحوادس ما يجعله ينفذ إلى معاني الأشياء المادية والرمزية ليدرك تناسباتها ومن دقة الترجمة الناقلة من التباس البث الوجودي إلى عبارة التواصل البشري.

والرسول الخاتم يشير إلى ما يشبه ذلك وإن من مستوى أسمى عندما يصف تلقيه الوحي بأشكال مختلفة منها حتى ما يشبه بالجرس. والانتقال إلى أبلغ صورة للتعبير عنه هو أيضا من اسرار الوساطة بين نظامين رمزيين أحدهما تتلقاه الحوادس والثاني يترجم عنه ما الوجدان واللسان إعجاز القرآن.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي