لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهلحظة الحسم الاستئنافي
اعتباري إيران وإسرائيل تعينا للفتنتين لا يعني أنهما مقصورتان عليهما. لكن التعين مفيد لأن المسلمين ككل شعوب العالم لا يدركون الحقيقة إلا إذا تعينت في وجود فعلي يتجاوز الفكرة المجردة فيصبح مدركا بالحواس ليس بوجود معين فحسب بل ما يتجلى من مفاعيله على أبعاد وجوده العيني المحسوس.
فإيران وإسرائيل كلاهما تعين دولة ممثلة للفتنتين اللتين تعاونjا في الفتنة الكبرى-التشيع استراتيجية فارسية ويهودية وأدت إلى الانقلابين في النظام الروحي والتربية وفي النظام المادي والحكم وسيطر على الأمة حالة طوارئ بسبب الحروب الاهلية التي كادت تقضي على دولة الإسلام لولا الأمويين.
وليس في هذا الكلام أدنى قول بالمؤامرة: فنقل الخلافة من المدينة إلى العراق سياسيا والقول بالوساطة والحق الإلهي للأئمة عقديا بينا الدلالة. ففيهما الجمع بين الأسرة المقدسة وبعدي الدولة التي تعتمد وساطة كنسية ووصاية سياسية بنظرية السلطة الروحية والسلطة الزمانية ذات الحق الإلهي.
ويخطئ من يتصورهما الآن متعاديين: فإيران ربحت قلوب العامة بدعوى محاربة إسرائيل وتحرير فلسطين. وإسرائيل ربحت جيوب الخاصة وحكام الثورة المضادة بدعوى حمايتهم من إيران والملالي. وطبعا فوهم الذكاء الإيراني الذي اعتبره خرافة يجعل الملالي يؤدون ما تؤديه داعش: تجريف الارض لصالح إسرائيل.
وكم أعجب من أذيال نصر الله في تونس وفي كل بلاد العرب. ما زال منهم من يعتقد أنه ومعه إيران وبشار مقاومون وممانعون في حين أن إيران احتلت من أرض العرب في ثلاثة عقود ألف مرة ما احتلته اسرائيل في عشرة عقود منذ وعد بلفور. ولا أحد منهم بغافل. وإذن فهم لا يدافعون عما يعتقدون بل عما يربحون.
وسواء سقط نظام الملالي أو لم يسقط فالأمر عندي سيان: هو خسر المعركة منذ أن احتاج إلى روسيا في سوريا إلى أمريكا في العراق ليتوهم تثبيت احتلاله. ولما كان الروس والأمريكان لا يعملون لوجه الله فإنهم قد استعملوهم استعمالهم للأكراد جيشا أرضيا لغزو هدفه تثبيت إسرائيل قاعدتهم الأولى.
ذلك أن الروس والأمريكان يفهمون أن الفتنة الكبرى لم تعد قابلة للتسويق أولا لفشلها في الماضي وثانيا وهذا هو الاهم لأنها لم تعد مناسبة للعصر إذ هي قروسطية بإطلاق وما تستهدفه الفتنة الصغرى تحققه وتتجاوزه إلى ما كان تقية في الأولى يصبح علنيا: المفاخرة بعلمنتها بالعجل معدنه وخواره.
ولا أحد يعتقد أن الملالي يؤمنون بأن الوساطة والوصاية حقيقتان بل هما كما يبين ذلك فكر الباطنية من حيل الاستبداد والفساد للسلطان على روح الإنسان بالوساطة وعلى بدنه بالوصاية حتى يقبل العبودية لتواطؤ محرفي الدين والحكام (آل عمران) وكأنها عبادة لرب العباد: من جنس شرطي فولتار.
وأفهم جيدا ألا يقبل هذا الكلام ممثلو الكاريكاتورين. فكاريكاتور التحديث يستكثر على ثورة الإسلام هذه المثل العليا لأن يقيسه على دين القبيلة التي تدعي أنها شعب الله المختار ونسختها الأكثر نفاقا وخبثا بزعم الرسل من هذه القبيلة حصرا وألهوا أحد أبنائها ليستعبدوا الكل باسمه (رسائل بولس).
وهذا الفهم لا يوافق عليه كاريكاتور التأصيل الذي أصبح يرى الإسلام مثل اليهودية والمسحية والأديان الطبيعية دين المسلمين الحاليين وحدهم وكل من عداهم لا علاقة لهم به وهو مناف لأمرين جليين في القرآن: يسمى المؤمنين بالرسالات الماضية مسلمين ويعتبر الإسلام فطرة الله التي فطر الناس عليها.
يتفق الكاريكاتوران على عدم فهم ما يتكلمان باسمه وما يعارضانه: فكاريكاتور التأصيل يشوه الإسلام لخلطه بنكوص الأمة إلى الجاهلية التي ليس لها من الدين إلا قشوره وكاريكاتور التحديث يشوه الحداثة خلطا بينها وبين الاستعمار وهو نكوص إلى الجاهلية التي ليس لها من الحداثة إلا قشورها.
وكلاهما يحارب الكاريكاتور المقابل لتوهمه أنه حقيقة ما يدعيه: التأصيلي الزائف يظن التحديثي الزائف ممثلا للحداثة والتحديثي الزائف يظن التأصيلي الزائف ممثلا للإسلام. كلاهما دونكيشوت القشور يحارب نواعير الإيديولوجيا التي أفسدت الدين والفلسفة للجهل بوحدة مطالبهما العميقة.
ولهذه العلة تنطلي أكاذيب التشيع والتصهين فالأول يدعي الإسلام كاذبا لأنه نفي لمقوميه أي الحريتين الروحية والسياسة والثاني يدعي الديموقراطية كاذبا لأنه نفي لمقوميها أي نفس الحريتين إذا كانت بحق صادقة وليست خادعة كحال الصهيونية أو عنصرية الشعب المختار إزاء من يعتبرهم جوهيم.
ولهذه العلة علة استحالة أن تنطلي حيل ملالي التشيع وملالي التصهين على أحد اعتبرت من يتظاهر بتصديقهما سيء النية وله مصلحة لا علاقة لها بما يعتقد فعلا بل هو يؤدي خدمة لمن يؤجره وأولئك هم من أطلقت عليهم اسم مليشيا القلم ومليشيا السيف من العرب خاصة.
فلا يمكن لأي عاقل أن يفهم من يدعي القومية ويحالف الملالي الذين احتلوا عاصمتي الخلافتين الوسطيين -دمشق وبغداد والهلال كله واخترقوا جل بلاد العرب بعملائهم من سنتهم وشيعتهم أو أن يفهم من يدعي الليبرالية أو اليسارية ويحالف الاستبداد والفساد والتبعية من أنظمة العسكر والقبائل.
وأجدني عاجزا كذلك عن فهم من يحالف إسرائيل أو يطبع معها من النخب الحاكمة ومطبليها سواء كانوا إسلاميين أو قوميين أو يساريين أو ليبراليين. فكل هؤلاء لا يمكن أن يكون مسعاهم ناتجا عن استراتيجية هدنة وراءها الاستعداد لانتهاز فرصة الانقضاض على العدو: يفعلون للحفاظ على مصالح عاجلة.
وموقفي هذا ليس من اليوم. فبه رددت على ثنائية المرحوم حسنيين هيكل منذ أن كنت في كوالالمبور. فليس على العرب أن يختاروا بين إحدى التبعيتين كما فعلوا في عصر القطبين فيتذيلوا لذراعيهما وهي منزلة أدنى بل كنت ولا زلت أنهم ينبغي أن يقدموا مشروعا ذاتيا لمصالح الأمة العليا: مركز الاستئناف.
فبنا بدا الإسلام تحقيق رسالته في التاريخ الفعلي وبنا ينبغي أن يستأنف هذا التحقيق بإمكانات لم يكن بيد العرب منها في النشأة الأولى إلا الرسالة وإيمان شبابهم بمشروعها الكوني. ومازالت الرسالة وصار لنا من شروط القوة المادية والروحية ما لا ينكره الاعداء وشبابنا بجنسيه متأهب للمهمة.
والمثبطون لا يعتد برأيهم لأن الثورة فضحتهم: أصبحوا تفتيين بخلاف منطق عصر العماليق يحالفون المحتلين الصفويين والصهيونيين راضين بوضع المحميات الفاقدة لشرطي السيادة: لا تستطيع حماية ذاته فصارت تدعو الاستعمار للعودة ولا تستطيع إعالة ذاتها فصارت شعوبا متسولة.
لذلك فمن الطبيعي أن ألا أعتبر النخبة السياسية العربية مؤلفة من ذوي الإرادة وأهلا لتمثيل إرادة الجماعة ولا النخبة المعرفية ساعية لإبداع ما يسد الحاجات المادية ولا النخبة الفنية لسد الحاجات الروحية ولا خاصة نخبة الرؤى الدينية والفلسفية بصاحبة رؤيا تحررية: من هنا العجز وكساح القدرة.
كلما كلمتهم على الطموح التاريخي استهزأوا ونسوا أن هذا الاستهزاء كان موقف اباطرة عسر النشأة: من كان يصدق أن اعراب الجزيرة كما يمكن أن يصبحوا في اقل من نص قرن سادة العالم وخاصة سادة ما كانت أباطرته تهزأ من العرب وتعتبرهم اقل من الكلاب (فارس وبيزنطة)؟
سيقال إن العصر تغير. صحيح ولست بغافل عن ذلك. ولكن الشعوب الإسلامية أيضا تغيرت وحتى لو اكتفينا بمركز دار الإسلام -سنة الوطن العربي- لوجدنا ان التغير كيفي وبنسب فلكية: في النفوس والثروات وحتى الكفاءات رغم أن ذلك لا يتجلى بسبب تفتيت الأحياز مكانا وزمانا وثروة وتراثا ومرجعية.
واخيرا فإن امة لا تؤمن بطموح شبابها بجنسيه للاستئناف وتعيش على يأس عجائزها وقواعد كهولها ممن رضوا بالمهانة التبعية وأخلدوا إلى الأرض يلهثون وراء نزوات من “فسدت فيهم معاني الإنسانية” بلغة ابن خلدون لا يمكن أن تكون أمة إسلامية بل هي شتات شعوب جاهلية اشباه بشر.