لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله لحظة الحسم الاستئنافي
أو تجاوز الإسلام للفتنتين بحريتيه الروحية والسياسية
بدا مما تقدم وكأني أعارض “صرامة” العلم و”عقلانية” الفلسفة بهدف تقريب هذه من الدين وذاك من الابداع الادبي من خلال الكلام على الإنسان من حيث هو شبه مرآة ذات وجهين أولهما يتلقى بانفعال لما سميته بثا وجوديا وكأن الحواس بالحوادس لواقط لهذ البث المتصل والثانية تبث بفعل لما تعبره منه.
لكأني اعتبرت المبدع في أي مجال معبر رؤى أو مؤول وحي ملتبس وظيفته نقله من الالتباس الذي لا يمكن أن يكون مادة تواصل بين البشر إلى “معقولية” نسبية تمثل وإن بشيء من التجوز مشتركا بين الأوعاء التي لا تتواصل من دون وساطة ترميز صار عملية استحضار لتجارب روحية هي عين منزلة الإنسان الوجودية.
والمقابلة بين البصر والبصيرة التي عممناها (السميعة والشميمة والذويقة واللميسة) تفهما دور المعاني وراء الاعيان بوصفها حوامل تدين إليها بمنزلتها في نظام الوجود وتنقل التلقي من عالم المحدود والمتناهي إلى عالم اللامحدود واللامتناهي الذي يحيط بما في الأعيان والاذهان وكيان الإنسان.
فما يدركه المبدعون ليس ما في الأعيان ولاما في الأذهان مما يسمى “واقعا” طبيعيا أو تاريخيا بل معاني يتحيز فيها هذا “الواقع” الطبيعي والتاريخي كما تتحيز الأشياء في المكان والزمان الطبيعيين لكنهما لا طبيعيين ولا تاريخيين إنهما لا متناهيان كعالم الإمكان المطلق وكتلاطم الأمواج اللامحدود.
وليس للمبدع في ذلك أدنى فضل إذ هو فيه منفعل وليس فاعلا. فاعليته تبدأ في الوجه الثاني وجه التعبير عما تلقاه من انفعاليا ليحوله بالصوغ الرمزي القابل للتواصل المتجاوز لحدود الزمان والمكان في مآثر ومعالم علمية أو عملية أو فنية هي مادة العالم الرمزي أو ثاني مستويات الوجود في الأعيان.
وقد حان الآن أوان تقديم أمثلة من أنواع الإبداع التي هي بعدد مقومات كيان الإنسان: ابداع الإرادة وإبداع العلم وإبداع القدرة وإبداع الحياة أو الذوق وإبداع الوجود أو رؤى العالم. فهذه المجالات هي في آن مقومات كيان الإنسان ومجالات إبداعه بوجهي التلقي والتعبير (تعبير الرؤى والأحلام).
وهذه الأصناف الإبداعية كلها تتألف من مستويي التلقي (الحواس والحوادس) ومن مستويي العبارة (الدلالية والمعنوية) وهي في آن الابداع الذاتي للإنسان نفسه أي إن الإنسان يبدع ذاته بتلق وتعبير في الإرادة وفي العلم وفي القدرة وفي الحياة أو الذوق(الجماليات)وفي الوجود (الرؤى الدينية والفلسفية).
وسبق أن بينا في محاولة سابقة أن التلقي والتعبير كلاهما مؤلف من مستويين:
التقدير الذهني الذي ليس له مرجعية في العالم الطبيعي ولا التاريخي بل أشبه بالخلق المطلق دون تعيين لكيان خارجي يكون موضوعا للإدراك بل هو إبداع لموضوع الإدراك وللعلم المدرك وهو على نوعين رياضي وفني أو أدبي.
وكلاهما-الرياضي والأدبي-لعبة رمزية موضوعها كيان لا يرمز لغير ذاته كأنه خانة خالية يمكن أن نعطيها قيمة عند محاولة تطبيقها على موجود خارجي لنصوغه بها معتبرين قوانين الموجود الخارجي هي عين قوانين اللعبة الرمزية التي قدرناها ذهنيا سواء كانت درامية (الفنون) أو مفهومية (الرياضيات).
أما المستوى الثاني فهو عملية تحديد القيم التي نملأ بها خانات المقدرات الذهنية الخاوية من مضمون خارجي أو من إحالة إلى الوجود الخارجي والموجودات العينية. وهذا هو دور التجربة النظرية أو العملية لموضوع معرفة علمية أو ذوقية وهو تلق يبدأ بحس الأعيان إلى حدس نظامها المفهومي أو الدرامي.