لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله لحظة الحسم الاستئنافي
اعتبر رد لايبنتس الشهير على اعتقاد التجريبيين أن كل شيء في العقل مكتسب ردا مفحما “إلا العقل ذاته”. لكن هذه المقولة ملتبسة. فلكأن الرد يقبل بأن مضمون المعرفة كله مكتسب وأداتها العقلية هي الفطرية. ولم يكن التجريبيون يقصدون أن فاعلية العقل (النطق والمنطق) مكتسبة خلافهم يتعلق بالقبلية.
ولهذه العلة لم تصبح الإشكالية واضحة إلا في صوغها الكنطي: محاولة اثبات مضمون قبلي لا يأتي للعقل من التجربة ولا يقتصر على فاعلية العقل بل يؤسس لمعرفة قبلية سمي أساسها بالتأليف القبلي الذي له مضمون استثناء من حقيقة التأليف الذي من المفروض ألا يكون إلا بعديا.
لكن مفهوم العقل حينها يتغير: يصبح جملة المبادئ التي تجعله قادرا على المعرفة القبلية ويكون من ثم شبه اعتراف بكونه لا يتضمن إلا ما هو ذاتي للإنسان فيفقد العلم النظري كل قدرة على ادعاء المطابقة مع حقيقة الوجود ويقتصر على المناسب منها لهذا التحديد الجديد للعقل.
وطبعا لم يكن ذلك قصد لا يبنتس ولا يمكن ان يكون قصد ديكارت عندما قال بفطرية الافكار الاساسية التي تشبه القول بفطرية مضمونية مثل كنط لكنها بقيت في الافق الذي حاول لايبنتس صوغه: فهو مثله لا يقصر ما يعلمه العقل على ما يناسب الإنسان من ظاهر الوجود بل يؤمن مثله بنظرية المعرفة المطابقة.
ومع ذلك يوجد فارق كبير بين لاينتس وديكارت: فالأول يعتقد أن العقل الذي لا يدين بشيء للتجربة مطلق بمعنى أنه ليس أحد الحلول الممكنة بل هو أفضلها لتناسبه مع أفضل العوالم الممكنة. لكن ديكارت لا يعتقد ذلك بل يسلم بأنها حلول يمكن تخيل غيرها وأنها ناتجة عن خيار حر ينسبه إلى الله.
اعتبار لايبنتس العالم هذا العالم أفضل العوالم فيه معنى الاختيار. لكنه من جنس الضرورة الشرطية الأرسطية وليس الاختيار الدال على الحرية المطلقة: ومعنى ذلك أن تفضيل الوجود على العدم وتفضيل كيفه يخضعان لما يشبه العلاقة بين الغاية والوسيلة وليس في ذلك اختيار: إرادة الخالق مقيدة بالعقل.
ويمكن القول إن هذا القول هو “الدوغم” الاساسي لكل فلسفة من بدايتها إلى نهايتها- الفلسفات القديمة والوسيطة وحتى الحديثة إلى نقد هيجل للكنطية-: بعد كنط لم يعد هذا المبدأ ذا معنى لأن الجدلية هي حركية في الوجود نفسه وهي “عقله” الذي يشبه حركية التاريخ الطبيعي للعضويات: فلسفة التاريخ.
ومعنى ذلك أن الإشكالية تجاوزت الفصل بين الشكل والمضمون -كما عولجت بين التجريبيين ولايبنتس-فتم تجاوز هذه المقابلة تماما كما تم تجاوز المقابلة بين العضو والوظيفة في التاريخ الطبيعي لتأسيس نظرية تطور الأنواع في بايولوجيا داروين وتجاوز نظرية ثباتها في بايولوجيا أرسطو.
ليس قصدي تقديم عرض فلسفي حول هذه المسألة بل الغرض هو التمهيد لما يتجاوز إشكالية نظرية المعرفة الحديثة وطبيعة علاقتها بالوجود إلى ما هو أهم بكثير. فهذه المسالة كما عرضتها تختزل الإنسان فيما تسميه عقلا وتدرس علاقته بالوجود لكأن الإنسان كائن معرفي فحسب وتنسى أبعادا أخرى ربما أهم.
صحيح أن مآل نظرية المعرفة إلى القول بالجدل في محاولة هيجل تجاوز الحلول الكنطية وما جعل فلسفة التاريخ بدينامية أرواح الشعوب تتجاوز الاقتصار على العقل النظري (المعرفة) إلى مفهوم أوسع قرب وجهيه الشكلي والمضموني فصار تاريخه من جنس التاريخ الطبيعي للعضويات عند داروين.
وهنا نصل إلى بيت القصيد:
هل رفضي لمنطق الجدل يعني أني أعود إلى القول بما يدعي أصحابها أنهم قد تجاوزوه بها؟
هل معنى ذلك أني ارفض توسيع مفهوم العقل التوسيع الذي بفضله تم التجاوز بين المعقول واللامعقول بمنظور المنطق القديم أعني مبادي العقل الثلاثة التقليدية؟
هذه هي المسالة التي أنوي الخوض فيها في محاولة أبدأها الآن ولا أدري متى أواصلها. والمسألة ملحة لصلتها بهذا التلاقي بين التاريخي الخلقي والطبيعي فجعل تاريخ الإنسانية مجراه أشبه بـ”فاتاليسم” صراع آلهة الميثولوجيا.
والمعلوم أن أفلاطون قد توقع ما يماثل هذه الوضعية في المقالة العاشرة من الشرائع (النواميس) عندما جعل الإنسان مترددا بين تصورين للوجود: إما بافتراضه ذا نظام متعال على الضرورة (شرائع) أو خاضعا لها (طبائع). في الأولى للقيم معنى. في الثانية لا معنى للقيم: كل ما يحدث من صدف الضرورة.
ولما كان الحل الجدلي في فلسفة المعرفة والتاريخ وحتى الدين وطبعا في المنطق الذي عوض الميتافيزيقا عند هيجل وورثته (شقي الهيجلية ثم الماركسية) لم يحقق ما يزعم غاية له أي الحرية والاعتراف المتبادل بين السيد والعبد فإن التأليف النهائي يبقى دائما صراعيا وخاضعا لصدف الضرورة الطبيعية.
ولما كان هذا المنطق والمآل الذي وحد بين التاريخين الحضاري والعضوي رغم كذبة الاعتراف المتبادل (هيجل) والتحرير (ماركس) بل إن التناكر هو السيد والاستغلال صار منطق العولمة التي هي في الحقيقة دين العجل الذهبي بات من واجب كل من يفكر في تحقيق هاتين الغايتين البحث عن منطق آخر.
ما المنطق الآخر؟
إذا كان المنطقان اللذان سيطرا قد اعتمدا إسقاط نظام التعبير اللساني (أرسطو) وما ظن نظاما للتاريخ الطبيعي (في الظاهرات الحية) على موضوعات المعرفة بضمير مفاده أن ما نعمله هو عين حقيقة هذه الموضوعات أو نظرية المعرفة المطابقة فإن فحص شروط القبلية هو بداية الحل.
ولما كان المنطق الجدلي (هيجل) وضع لتجاوز الحل الكنطي الذي يسلم بالقبلية بشرط ألا تتجاوز الذاتية وكان حل هيجل مشروطا بأمرين:
التخلص من المقابلة بين الذاتي والموضوعي أو من الشيء في ذاته قبالة ما نعلمه منه (الظاهرات أو الفينومان والحقائق العقلية أو النومان) وتلك مهمة ظاهريات الروح.
فتكون المعرفة عملية مضاعفة: تذويت الموضوع المعلوم بنقلته من عينية خارج المفهوم وموضعة الذات العالمة بنقلة علمها من ذهنيته خارج الموضوع: فتتذوت الموضوعات وتتموضع الذوات وتكون هي الجدلية في المعرفة أو في كون العقل هو الواقع والواقع هو العقل لتجاوز المقابلة بين المفهوم والماصدق.
وتناظر هذه العملية علاقة الوظيفة بالعضو في التاريخ الطبيعي للكائنات العضوية وبذلك يتم تحريك المقابلة بين ما يجري في الأذهان وما يجري في الأعيان أو بين المفهوم والماصدق (منطقيا) ويصبح الثبات المنسوب إلى الوظائف في العضويات أو إلى المفهومات في المعرفيات علة فساد المنطق التقليدي.
الأمر الثاني وهو حل هيجل للتوجيد بين المنطقي والميتافيزيقي (منطقه هو ميتافيزيقاه أو نظريته الوجودية).