لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهلحظة الحسم الاستئنافي
توقفت في مواصلة البحث “لحظة الحسم الاستئنافي أو تجاوز الإسلام للفتنتين بحريتيه الروحية والسياسية” عند الفصل الثامن وكانت الخطة أن تكون الفصول عشرة لعلتين:
الأولى ظرفية متعلقة بالأحداث السياسية خاصة.
والثانية أعمق معضلة نظرية الإسلام في فردية المسؤولية “الكل يأتي ربه فردا”.
والحمد لله اعتقد أني اليوم خلال جولتي الصباحية في القرية التي اقيم فيها فتح الله علي بحل المعضلة النظرية أما المعضلات العملية فهي ستتواصل مع تطورات الاحداث التي اراقبها عن كثب لاعتقادي أن عائق الثورة الأساسي لا يأتي من قوة الثورة المضادة بل من فقدان ما يوحد القيادة والاستراتيجية.
سأخصص الفصلين المكملين لخطة البحث تحت العنوانين التاليين: في التاسع سأبحث إشكالية ما يقبل التسمية بـ”عرجون النظام الطبيعي” في علاقة بوحدة المتعدد فيه وفي العاشر سأبحث اشكالية ما يقبل التسمية بـ”عرجون النظام التاريخي” في نفس العلاقة وخلالهما أحل مشكل المسؤولية الفردية قرآنيا.
اخترت كلمة “عرجون” التي نستعملها في تونس لوصف عناقيد التمر وكان يمكن أن أختار اسم “عنقود” التي نستعملها لوصف العنب وكلاهما فيه شيء مما سأصف عند الكلام على طبيعة وحدة المتعدد في الوجود الطبيعي والثاني يبدو أقرب لكنه في الحقيقة “عرجون” مركب لأن الممسك بالوحدة واحد يتفرع عنه جنساه.
وسأكتفي في الفصل التاسع بتحديد هذا الخيط الممسك بالمتعدد ليوحده في كيان أكثر تركيبا وتعددا من الأبسط إلى الأعقد أي من الفرد -وهنا أختار الفرد الإنساني لأن الفصل العاشر يتعلق بتاريخ الإنسان-إلى العالم الطبيعي كله. والأديان والفلسفات تتميز بتجاوزه لإثبات ما بعده أو لنفيه.
فالعالم الطبيعي كله خاضع لمبدأ الزوجية سواء المنفصلة أو المتصلة (في النبات والحيوان والإنسان) ويمكن أن نرمز إلى الزوجية بالجنسين كما عند الإنسان. فالغالب عنده أنها زوجية منفصلة لكن المتصلة موجودة (المثلية) بنوعيها طبيعي (في بدنه الجنسان) وثقافي (في نفسه ميول الجنسين).
والزوجية إذا ما استثنيا المتصلة (بعض الانواع الحية لها هذه الخاصية) تحتاج إلى وسيط ناقل لعامل التخصيب الذي يحقق وحدة الجنسين أو العنصرين المتفاعلين ليكون الزوجان منتجين للأجيال الموالية وإلا انقرضت: وهذا الناقل يمكن أن يكون الريح أو حيوانات ناقلة لبذرات التخصيب كالنحل بين الزهور.
لكن الخيط الواصل لا يمكن أن يقتصر على عامل خارجي منفصل عن “الزوجين الاثنين” بل لا بد أن يكون فيهما كليهما ما يدفعه إلى الآخر وينتظر منه العنصر الثاني لحصول التخصيب الذي يمكن من بقاء النوع. وهذا العامل ليس نفسيا منفصلا عن العضوي في كيانه بل هو عضوي فيهما كليهما.
وبعض الأنواع من الأشجار المثمرة لا بد فيه من تدخل إنساني مثل تأبير النخل وتذكر التين وتركيب الأشجار لكن ذلك يمكن أن نؤجله للكلام على التاريخ لأنه من أفعال الإنسان القصدية وليس من أفعاله من حيث فاعليته التطبيعية غير القصدية أو غير الناتجة عن حريته وفكره وثقافته.
وبهذا المعنى فالفرد الإنساني ذكرا كان أو أنثى ليس فردا إلا بوصفه عينا منفصلة عن الفرد الثاني الذي هو عين منفصلة. لكن انفصال العينين-ذكر أنثى-لا يمكن أن يثمر ما يبقى على تجدد النوع فيكون كلاهما بانفصاله عقيما. ولن يجديه التقدم التقني نفعا فالتخصيب خارج الرحم يحتاج لجزئي الثمرة.
ما يعني أن حقيقة الزوجين العضوية هي الحيوان المنوي والبويضة وأن وهم الانفصال بين الجنسين كذبة لأنه في الحقيقة انفصال الحوامل للحياة وليس لمقوميها اللذين لن يثمر أي منهما حياة من دون التخاصب فيكون الفرد ذاته مزدوج المقومات: فيه ذكورة وأنوثة أو سهم الذكر وسهم الانثى بالتساوي.
وكل ما عدى ذلك ثقافي حتى وإن بناها الكثير على الفروق البدنية بين الجنسين وهي فروق ألغتها الثقافة عندما تجاوز الإنسان الاعتماد على قوة الأبدان وعوضها بقوة الأذهان التي لا أحد يمكنه أن يدعي للرجال قدرة أكبر من قدرة النساء. وحتى الابدان فتفاضل في العنف وليس في الصمود الحيوي.
والدليل أن النساء أطول اعمارا في الغالب وأكثر حصانة عضوية وفضلهن على تجديد النوع أكبر بكثير من فضل الرجال: فهي الوحيدة التي تغذي الخلائف من بدنها وهي الوحيدة التي تجمع بين المهمتين لأنها تعمل وليس الامر جديدا وخاصة في الأرياف فضلا عن كون عمل المنزل أهم للحياة من عمل الشارع.
ولست بهذا أدافع عن النسوية بل هدفي التمييز بين العضوي والثقافي في الزوجية ثم إني اعتقد أن النسوية هي اسوأ طريقة في بيان فضل النساء: لست أدري ما الذي يستفيده النساء من المماثلة مع الرجال ليس في الحقوق فهذا طبيعي بل حتى في عدم تثمين ما يفضلن به على الرجال عضويا والمحافظة عليه.
الخيط الموحد للعنقود أو العرجون هنا هو هذه الضرورة التي من دونها يكون الفردان المنفصلان في الأعيان كالبطرية المشحونة لفترة لن تتجدد إذا لم يحصل تجاوز الانفصال وتحقيق الاتصال بين مقومي الحياة أي بذرة الذكورة بذرة الأنوثة أو الحيوان المنوي والبويضة والوحدة في البويضة وفي الجنين.
والجنين الذي وحد المقومين لن ينتج بعد البلوغ إلا أحدهما وهو مضطر لأن يلتقي ببالغ آخر من الجنس المقابل حتى “تشحن” بطارية الحياة فيتكون جيل خالف لجيل سالف. وهذا هو العرجون الذي أتكلم عليه في الحياة وهو عام في كل الكائنات الحية من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان.
ونصل الآن إلى علاقة الإنسان من حيث هو حي بالطبيعة جامدها وحيها: فالإنسان كفرد وجماعة لا يمكن أن يبقى نوعه من دون كل ما عداه مما في الطبيعة. وكم يضحكني النباتيون. فالنبات أيضا كائن حي. من يرفض اكل اللحم سخيف لأن أكل النبات فيه نفس “الجناية” على الحياة.
الزوجية الثالثة هي هذه العلاقة بين الإنسان والطبيعة في الأرض (سنرى أن هذه العلاقة هي بدورها مرحلة إلى علاقة الأرض بالنظام الشمسي وهكذا دواليك حتى نصل إلى علاقة كل عناصر العالم بعضها بالبعض). فالفرد الإنسان كما أسلفت “يشحن” من الأرض لمدة كما يشجن الهاتف الجوال من الكهرباء لمدة
علاقة الإنسان بالأرض-مستعمر في الارض-هي إذن وحدة متعدد فالأرض بمناخها وبما يحميها في النظام الشمسي هي التي توفر للحياة عامة ولحياة الإنسان خاصة شروط بقائه العضوي لأنه كما أسلفت يستمد منها بما يشبه عملية شحن الهاتف ما يحتاج إليه لبقائه العضوي هواء وغذاء وماء وتناسب مناخي محدد
وكل ما ذكرته يبدو من البديهيات لكنه ما هو أكثر بداهة منه هو أن هذه البداهات هي أكثر الأشياء عرضة للنسيان خاصة عندما يدعي الإنسان أنه فرد مطلق الحرية فيما هو في الحقيقة جنايات -وإن بمنطق لامتناهي الصغر-على شروط بقاء الحياة عامة وحياة نوعه خاصة.
ويمكنني القول الآن إني قد حددت حيز فاعلية القانون الطبيعي أو الشروط المضطرة التي يكون تدخل الإنسان فيها إصلاحا أو إفسادا هو مجال الحرية ومن ثم مجال المسؤولية التي هي موضوع الفصل المقبل والتي تمكن من حل “الكل يأتي ربه فردا” رغم أن وجوده ليس فيه من الفردية إلا العينية.
وفردية العينية أو القيام الذاتي كإنية مختلفة عن الإنيات الاخرى في الحيزين الطبيعيين (المكان والزمان اللذين يصبحان جغرافيا وتاريخ) وفي الحيزين الثقافيين الناتجين عن تفاعلهما أو الزاد المادي (الثروة) والزاد الروحي (التراث) لا تفعل شيئا بفرديتها بل هي محددة بها: فماذا بقي للمسؤولية.
درست في هذا الفصل التاسع ما لو اقتصرنا عليه لقلنا بالجبرية ولاعتبرنا مثل الملحدين أن الله لو كان موجودا لكان ظالما لأن تحميل الإنسان مسؤولية ما لا حول له عليه ولا قوة في حدوثها ومجراها لا يمكن أن يكون من العدل خاصة عند اعتبار الظلم واللامساواة في الضرورة الطبيعية والتاريخية.