لحظة الحسم الاستئنافي، أو تجاوز الاسلام للفتنتين بحريتيه الروحية والسياسية – الفصل الاول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله لحظة الحسم الاستئنافي

الفصل الأول

كلمة “الاستئناف” تتردد كثيرا فيما أكتب حول اللحظة التاريخية التي نعيشها وحول المآل المتوقع لدور الأمة في التاريخ المقبل وفي نظام العالم الجديد. لكني لم أشرح دلالته وعلل وسمي اللحظة بكون مدارها ورهانها هو هذا الأمر الذي يفيد في آن الفصل والوصل في ابعاد الزمان الخمسة.

فالزمان يكون مخمس الابعاد عندما لا نقتصر على مجراه الطبيعي بل نصله بمجراه التاريخي حيث يتصاحب فيه المادي والرمزي أو الحدثي والحديثي لأن الإنسان وجوده يجري في عالمين: عالم الاحداث التي هي بالأساس شبه طبيعية ومادية وعالم الأحاديث التي هي بالأساس شبه رمزية وروحية.

فمستوى الأحداث التي تبدو مادية وطبيعية لا تؤثر بماديتها وطبيعيتها فحسب بل بما فيها من شحنة رمزية روحية مصدرها مستوى الأحاديث التي تبدو رمزية وروحية. والأحداث ليست “محايدة” فلها معنى يتجاوز الأعيان والأحاديث ليست خالية من “الكثافة” المادية والطبيعية فلها دلالة تتجاوز الاذهان.

وهذا التوالج بيّن يغلب عليه مثوله في الأعيان وما يغلب عليه مثوله في الأذهان هو جوهر كيان الإنسان الذي يجعل التاريخ بخلاف الزمان الطبيعي ذا خمسة أبعاد: حدث يتلوه حديث وهما بعدا الماضي وحديث يتلوه حدث وهما بعدا المستقبل وبين التعاقبين بؤرة تتلاطم فيها فروع الحضور التاريخي الاربعة.

وهذه هي اللحظة التي أتكلم عليها والتي يتلخص وعي الامة فيها بوصفها لحظة الاستئناف الذي يسعى للحسم مع حدث الماضي وحديثه ومع حديث المستقبل وحدثه حسما هو عصب هذا التلاطم التاريخي المضطرب والذي بلغت أمواجه حدا يهز كل الماضي ويفتح آفاق الاستئناف العارم بما يشبه لحظة النشأة الأولى.

وما وصفته “بحدث الماضي وحديثه” يمكن الرمز إليه بمحاولة الحسم مع الفتنة الكبرى التي فتحت جروح ما ترتب عليها من جديد. وما وصفته “بحديث المستقبل وحدثه” يمكن الرمز إليه بمحاولة الحسم مع الفتنة الصغرى التي مثلت فك الكماشة الثاني في الحرب على الإسلام ورسالته.

والفتنة الكبرى معلومة للجميع. أما الفتنة الصغرى فهي ضديدتها التي تعكس اشكالية طبيعة العلاقة بين السياسي والديني أولاهما توحد بينهما والثانية تفصل بينهما. وكلتاهما تتنافى مع رؤية القرآن التي تعتمد على الحريتين الروحية (لا وساطة) والسياسية (لا وصاية) دينية بسيطة أو معلمنة (دين العجل).

مفهوم الوساطة والوصاية الدينية البسيطة مفهوم واضح فهو القول بالكنسية وبالحق الإلهي في الحكم وهو بيّن في التشيع وفي الكاثوليكية خاصة. لكن مفهوم الدينية المعلمنة أو دين العجل هو الذي يحتاج إلى تعريف: اوضح صوره الاحزاب الشيوعية ففيها عقيدة علمانية ولها وساطة ووصاية تلغيان الحريتين.

والكثير يتوهم أن الرأسمالية والليبرالية خاليتان من هذه الظاهرة. لكن اصحاب أداتي الفعل غير المباشر لهما نفس سلطان الأحزاب الشيوعية بل وأكثر لأنهم يستعملون القوة اللطيفة بدلا من القوة العنيفة: والرمز معدن العجل وخواره. وهما ما وضعت له نظرية الفاعلية الرمزية بصنفيها: العملة والكلمة.

فمن يحكم الرأسمالية لا يختلف كثيرا عما كان يحكم الشيوعية حتى وإن كانت الاولى تستعمل القوة اللطيفة والثانية القوة العنيفة وهو ليس فرقا جوهريا لأنه في الحقيقة دليل تخلف الثانية وتقدم الأولى في فنيات الاستعباد: إما بالقوة اللطيفة في الرأسمالية أو بالقوة العنيفة في الشيوعية.

فمن يستعمل الاستعباد المطلق للبنوك والقرض ليكون الجميع رهائن بيع كل مستقبلهم للبنك الذي يملكه بملكية ما يتصور نفسه مالكا له (سيادة معدن العجل) ثم يزين له ذلك فيسميه حريات ويؤسس لثقافة همها الاول والاخير اللهو بالمعنى الباسكالي والإعلام المزيف للوعي أبشع استعبادا من الستالينية.

فالستالينية دين عجل مباشر يستعبد الأبدان بالعنف المادي وفيه تبقى الارواح حرة بل هي تدرك حقيقة حريتها الروحية بما تقوم به من صمود أمام هذه القوة العنيفة في حين أن دين العجل غير مباشر يستعبد الارواح بالعنف الرمزي وفيه تغيب الأرواح وتتسيب الأبدان فيتضاعف الاستعباد: للمافية والنزوات.

إذا عدنا إلى وجه الشبه بين الفتنتين الكبرى والصغرى وجدناهما تعملان بنفس الطريقة والفرق هو في فضاء الفعل. ففي الفتنة الكبرى الوساطة والوصاية أساسها فيما يزعم للسماء من دور يمر بالوسيط والوصي أعني الكنيسة في التربية كسلطان روحي والحق الإلهي في الحكم كسلطان زماني.

أما في الفتنة الصغرى فإن دور السماء نزل إلى الارض وهو فاعلية دينية معلمنة هي فاعلية العجل الذهبي ذي الخوار: معدنه هو العملة وخواره هو الكلمة والايديولوجيا. والكلمة هي وساطة الكنيسة المعلمنة والعملة هي وصاية الحكم بالحق الطبيعي. مافية المال حكم ومافية الإيديولوجيا كنيسة: دين معلمن.

مشكل الإسلام اليوم في لحظة الاستئناف هو مشكل الحسم بين التحريفين المطلقين: أولهما عشناه كفتنة كبرى والثاني نعيشه كفتنة صغرى: التشيع والعلمانية من نفس الطبيعة. الفرق الوحيد أن وساطة السلطان الروحاني ووصاية الحق الإلهي أصبحتا وساطة مافية الثقافة ومافية الاقتصاد. والدولة أداة.

وكلى النظامين في الفتنتين يستعمل مفهومات تجارية وبنكية: فما يعد به اصحاب الفتنة الصغرى لتحقيق القبول بالعبودية للوسطاء والاوصياء في الدنيا هو السعادة الدنيوية وما يعد به  أصحاب الفتنة الكبرى لتحقيق القبول بالعبودية للوسطاء والاوصياء في الأخرى هو السعادة الأخروية.

وجهنم التي يهدد بها العبيد أصحاب الفتنة الصغرى أكثر فاعلية من جهنم التي يهدد بها أصحاب الفتنة الكبرى: ذلك أن الإنسان في الحالة الأولى يمكن في لحظة أن يفقد كل ما كان يتوهم أنه مالكه فيطرد من علمه ومن بيته ويصبح مشردا حالا دون تأجيل كما في حالة الفتنة الكبرى. لا تأجيل في دين العجل.

وعدم التأجيل يجعل الخضوع أكبر والعبودية أكثر استقرارا: يمكن أن تنافق الوساطة الروحية خوفا من لجوئها للوصاية الزمانية لأن لعنتها الأخروية مؤجلة. لكن الوساطة الإيديولوجية لا يمكن منافقتها لأن وصاية البنك لا تأجيل فيها: إذا لم تسدد الدين تفقد مقومات الوجود في العين فتصبح “كلوشار”.

لست غافلا على أن أبالغ فأذهب بالأمور إلى حدها الاقصى حتى نرى مآلاته. فنظام العجل الذهبي لا يقبل بأن تفتضح آليات فعله فيقبل بحلول تلطيفية من جهنمه ليقلل من مفعول هذين السلطانين فيسمح بالاحتجاج تعبيرا عن الخروج عن الإيديولوجيا الرسمية بالتضامن الاجتماعي ليقلل من سلطان المال.

لكن سلطان مافية الكلمة وإيديولوجيا اللهو وسلطان مافية العملة والبنك هو السيد وهو وجها دين العجل معدنه وخواره تماما كتحريف المسيحية والإسلام بالكنسية والحق الإلهي في الحكم: انتقلت المسيحية من شكلها المحرف بالكنسية والحق الإلهي إلى ذروته بعلمته ويراد للإسلام أن يفعل.

وتوقعي أن التشيع سيكون مآله مآل الكاثوليكية فيتولد عنه علمانية على النموذج الفرنسي. أما السنة التي بقي فيها القول بالحريتين في الأقوال لكنها في الأفعال عوضت الوساطة والوصاية الشيعيتين بوساطة العلماء ووصاية لأمراء كأمر واقع لذلك فقد تذهب إلى النموذج الألماني من علمانية أقل تطرفا.

فلحظتنا التاريخية الحالية بين حدث الماضي وحديثه متمثلا في ضرورة الحسم مع الفتنة الكبرى ومآلاتها وحديث المستقبل وحدثه متمثلا في ضرورة الحسم مع الفتنة الصغرى ومآلاتها يجعلها بهذا المعنى لحظة حسم كونية لأنها تحريفي ثورة الإسلام واساس نقده لتجارب الإنسانية الروحية والسياسية.

والقصد أن رهانات لحظتنا الحالية ليست بنت الصدفة: فلا يمكن أن يكون الإسلام هدفا للحربين عليه باسم التشيع والعلمنة من دون أن يكون له علاقة بجوهر ثورته في النشأة الاولى وفي الاستئناف بنفس الزخم الثوري الذي سيكون رغم ما يبدو عليه من انفعال لحظة تغير كيفي يحرر الإنسانية من الفتنتين.

والحلف بين الفتنتين تعين في ذراعي أعدائه منذ وعيهم بأن التاريخ كذب توقعات هيجل حول مصير الإسلام (قال إنه خرج من التاريخ الذي اعتبره قد انتهى أنه تم) بدأ أصحابها يخططون لمنع الاستئناف بإحياء رمزي الفتنة الكبرى (إيران)والفتنة الصغرى (إسرائيل)وكاريكاتوري التأصيل والتحديث من السنة.

واخيرا فهدفي بيان أمرين:

  1. سنن التاريخ تبين أن علم مجراه في الأعيان يناظر مجراه في الأذهان التي تدرك بناه المفهومية: وهي في هذه الحالة ما حددناه في هذه المحاولة من أبعاد خمسة للزمان التاريخي الكوني.

  2. أن التناظر بين المجريين يبين المرسيين كما وصفناهما لحظة حسم كوني.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي