لا فخر، شبه رد على وقاحة الأميين

ه

لست غافلا على ما يبدو في مواقفي من عجائب يعسر فهمها على المتعجلين ممن يخلطون بين الفكر الفلسفي وتعاليق الصحافة في عصر عادت فيه الإنسانية إلى الشفوية والصورة بدل الكتابة والمعنى. وهو ما أفقد الكثير القدرة على التمحيص والغوص إلى أعماق ما لا يصبح فكرا إلا بالكتابة لأنها شرط الاجترار بمعناه النيتشوي. لذلك فغالبا ما ينتهي من يعترض على مواقفي إلى تبنيها إذا كان يبحث بصدق عما يمكن للإنسان أن يدركه بالاجتهاد المخلص للحقيقة حتى لو ادعى أنه صاحبها.
وهذا أمر لا يزعجني. فالمهم أن يكون المفعول الذي قصدته قد تحقق فآتى أكله. فما الفكر إلا زراعة برماية البذور كما يحصل عند الفلاحين. لذلك فإني أتوقع أن التاريخ مرة أخرى سيثبت أن حدوسي هي في الغالب عين الصواب وأقصد هنا حدوسي حول مآلات الثورة وخاصة حول تحديد أعدائها المتخفين في تونس من أدوات الاختراقين من ذراعي الاستعمار (إسرائيل وإيران) ومن سنديهما (أمريكا وروسيا أما اوروبا فدورها ثانوي) وتوابعهما من العرب خاصة ومن بقية اهل الاقليم عامة.
ولعل الكثير يذكر مواقف الحمقى الذين يدعون الحداثة عامة وفي الفلسفة (النظرية والعملية) وتطبيقاتهما أي في العلوم وفي السياسة خاصة لأني:
• أولا بينت أهمية فكر الغزالي النقدي مخالفا بذلك كل الذين كانوا يتصورون ابن رشد فيلسوف تنوير والغزالي ظلاميا مضغا غبيا لما كتبه مفكر شيوعي قاس العلاقة بينهما على العلاقة بين يسار الماركسية ويمينها فسمى الأول يسار الأرسطية والثاني يمينها. وهي مقارنة من أسخف المقارنات لأن الفلسفة في عصر الغزالي وابن رشد لم يكن العملي همها الاول -بل كانت مشائية وميتافيزيقة بالأساس- مثلما صارت في عصر هيجل وماركس حيث صارت ميتاتاريخية. والغزالي هو الذي ساهم في النقلة إلى الميتاريخي وتغليبه على الميتافزيقي.
• ثانيا بينت أهمية فكر أرسطو الرياضي مخالفا بذلك كل الذين كانوا يتصورون ما عرف عن فيزيائه الكيفية وعن محاولات أفلاطون الترييضية في التيماوس دليل جهل برياضيات عصره في حين أنه كان ينفي عنها القدرة على الترييض لكنه كان أعلم بشروطها من أفلاطون.
• وفي تونس قلت مرة خلال ندوة نظمها قسم “العربية” اسما والاستلاب مسمى بسبب عقدة النقص من الانتماء إن مستقبل الاقليم وربما العالم سيكون مداره ما يجري في الإقليم مرة أخرى لأن معارك التاريخ الوسيط لم تنته ولن تنتهي حتى يحصل الصلح بين ضفتي المتوسط اللتين كانتا منذ القدم بؤرة التاريخ العالمي حتى في هذه المرحلة التي يسيطر فيها عليه قطبا العالم (كانا حينئذ السوفيات والأمريكان وهم الآن الصين وأمريكا).
• عيب علي الاهتمام بابن تيمية لأن الأميين من فلاسفة عقاب الزمان كانوا لا يرون فيه إلا فهمه المتخلف عند فقهاء الوهابية وآل سعود. والآن لا يوجد قسم في الفلسفة الغربية مختص في الفلسفة الوسيطة ألمانيا وأمريكا خاصة-لا يعتبره من كبار الفلاسفة في الغرب على الاقل. لكن العرب كالعادة لا يفيقون إلا بعد نهاية المعارك.
• وأخيرا وكالعادة النقطة الخامسة-وهي البديل من مثلث يستعمله المعترضون لكأنها من الحقائق التي لا بديل عنها رغم أنها ذات أصل ديني عند هيجل وخاصة عند بورس صاحب فلسفة السيميوتكس-فإن ثورة شباب أبناء الاقليم سواء كانوا عربا أو أمازيغ أو تركا أو كردا أو سودا من افريقيا-ستكون ثورة عالمية تغير الكثير من قواعد العلاقات الدولية باستكمال شروط التحرير والتحرر في العالم. ولن يكون ذلك بالنكوص إلى ما قبل الدولة بالمعنى الذي يقترحه علينا من فكرهم نكوص إلى البداوة القذافية وما بعد الحداثية مجتمعتين في سلفيتين متخلفتين تدعيان اكتشاف العجلة ولا تدريان أنها جربت مرات ومرات وكان مآلها فيها جميعا خراب المجتمعات التي جربتها.
وإذا كان لي أن أشير إلى ما يستحق الذكر لأنه بين وفاقع فهو ما ورد في المسألة الثالثة: لا أحد يشكك الآن في أن الاقليم صار بؤرة قضايا العالم ليس لما فيه من طاقة مادية (البترول) بل وكذلك لما فيه من طاقة روحية (المعالم الروحية) لعل رمزها هو القضية الفلسطينية ليس من منظورنا وحدنا بل من منظور قوتي الغرب الحاليتين أعني الولايات المتحدة وإسرائيل التي هي راس حربتها في الاقليم. فاليهودية الصهيونية والمسيحية الصهيونية حتى وإن كان موقفهما بتحيل سياسي وليس بعقيدة صادقة تعتبران القضية من مستوى المسألة المادية طاقة وموقعا جيوسياسي بين القطبين الأمريكي والصيني: لأنها لا تظهر الطمع المادي بل وهم الوفاء للأصول والقيم الروحية.
أما اضطرار من كانوا من المتفلسفين “يأنفون” من الكلام في فكر حضارتنا ويعتبرونه غير جدير بالاهتمام فقد صاروا يعيشون على فتات سطحي مما تلقفوه بسرعة تلامس الثقافة الصحفية حتى يسمع لهم فصارت “مؤمنون بلا حدود” توظفهم ليس للعلم بل لخدمة مخابراتها بمقابل زهيد لا يمكن أن يستر حتى ماء وجوههم.
ومع ذلك ففي العودة إلى أصل كل فكر يتناغم فيه كيان صاحبه الثقافي مع علاجه لقضايا الوجود الإنساني من منظور هو عين وجوده استعادة لطاقة الفكر الفعلية التي تصبح بحق حائزة على شرط الفكر أيا كان موضوعه. فالفكر مثله مثل الاشجار له ارضية وسماد ثقافيين قدرتهما على مده بنسغ الحياة تقاس بعتاقته شرطا في كل تجاوز وانتشار لأفنانه.
ومعلوم أن اهتمامي بالفكر الإسلامي لم يحل دوني والاهتمام بالفكر القديم (ارسطو وافلاطون وفكر فلاسفتنا) وبالفكر الحديث. لكن منطلق منظوري الاول والأخير هو تعين الكونية في أرضية الحضارة التي تضرب بعروقها في القدم فيكون تأثلها ممتدا في المستقبل امتداده في الماضي وهي ارضية يمكن اعتبارها الجسر الحي الواصل بين العالمين الإسلامي والغربي. وليس ذلك مقصورا على المرحلة الإسلامية من تاريخ الإنسانية فحسب فهو يمتد إلى ما قبلها. وليس لها ما بعدها لأن الإسلام خالد إلى أن يرث الأرض ومن عليها فضلا عن كونه لم يعد مقتصرا على الاقليم بل هو موجود في كل أنحاء المعمورة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي