لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله“كيفما تكونوا يولى عليكم” هل هي خبرية لليأس الاستسلامي؟ أم شرطية للأمل الثوري؟
بقي فصلان في المحاولة سأعرض فيهما المرضين اللذين تعاني منهما نخب الأمة وهما الداءان اللذان يعتبر مشروع القرآن العلاج الديني والفلسفي لهما بوصفهما المضمون الثوري للدين الخاتم ليس كدين من الأديان ولا فلسفة من بين الفلسفات بل الديني والفلسفي الكونيين المحدد لحقيقة الإنسان الخليفة. المحير في الأمر هو أن الداءين هما بدورهما داءان دينيان وفلسفيان أي النقيض التام للديني وللفلسفي الكونيين وهما متحققان كونيا اليوم في العولمة وعبيدها: إنهما بعدا دين العجل الذهبي معدنه (رمز العملة والسلطة الاقتصادية) وخواره (رمز الكلمة والسلطة الثقافية): مرضا العبيد والعملاء. فالقدرة لها بعدان مادي هو الاقتصاد ورمزه معدن العجل والعملة او الربوية الاقتصادية وروحي هو الثقافية ورمزه خوار العجل أو الكلمة أو الربوية الإيديولوجية. العالم كله محكوم اليوم بهما والنخب العربية بأصنافها الخمسة تابعة في المحميات العربية التابعة للمافيات الاقتصادية والثقافية. كل النخب العربية -السياسيين والعلماء والاقتصاديين والثقافيين والفنانين والرياضيين واصحاب الرؤى الدينية والفلسفية-عبيد لأرباب المال في الاقتصاد وفي ثقافة الإعلام والملاهي التي صارت تستعمل كل شيء للسيطرة على الأذهان تيسيرا للسيطرة على الابدان في كل أبناء إنسان فردا وجماعة. فما رأيت في حياتي ولدى الكثير من الشعوب بمعطياتها الاقتصادية والثقافية رغم عموم آثار العولمة من بلغ بهم الأمر إلى ما عندنا من تبعية وفساد تجاوز نخاع العظام في التوافه والدنايا مثل الذي رأيته طيلة حياتي منذ خمسينات القرن الماضي إلى اليوم ما عليه كفاءة أصحابهما العرب وأخلاقهما. أي إن المعيارين اللذين يعير بهما المنتسبون لأي نخبة من النخب الخمسة مفقودان تماما لديهما. وهذا الفقدان مؤشر على ما هو أخطر: فالاقتصاد هو مجال التبادل في الجماعة والثقافة هي مجال التواصل في الجماعة. وعلة وجود الجماعة هي التعاون والتبادل العادل قدر الإمكان فالاحتكام إلى قانون وأخلاق. وغالبا ما ييسر التعاون والتبادل العادل قدر الإمكان خلال تقسيم الاعمال وقبل الاحتكام إلى القانون والأخلاق ما يمكن أن نسميه مزيت العلاقات بين البشر أعني التواصل والتواصل شرطه التصادق والإعلام الشفاف. وهذان الشرطان منعدمان تماما سواء في المستوى الرسمي أو الخاص. فينتج عن ذلك أن العرب يعيشون مأساتين: مأساة العولمة دون أن يكون لهم دور فيها غير الانفعال بها ويعيشونها بحمأسة الجاهلية أي إنه “حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت”. من بيدهم قوة الدولة -هي محمية-محترب دائم أي إنه يسرق كل شيء بقوة الدولة ويخدم حاميه بنزع حقوق مواطنية لإرضائه. المجتمعات العربية جماعات وأفراد تعيش في آن حربين: حرب العولمة التي هي استعباد الأقوياء للضعفاء في العالم كله وخاصة عندنا لأننا صرنا أضعف من في العالم وحرب الاقطاعات الجاهلية التي يتألف منها المجتمع العربي وهي اقطاعات تابعة مباشرة أو بتوسط “الغفراء” وأمراء الحرب للمافيات الدولية. لكن الاخطر من ذلك كله هو أن التبادل يعني تبادل ثمرة علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة أي إن الامر المتبادل في الجماعة هو ما تنتجه الجماعة أو ما يقابله في التبادلات الدولة. لكن العرب المكلفين بالإنتاج المادي (الاقتصاد) والروحي (الثقافة)لا ينتجون شيئا. فماذا يتبادلون إذن؟ هم مثل الورثة العاقين: يبيعون ما ورثوه من الآباء والاجداد المادي (ثروات الجغرافيا) والروحي (تراث التاريخ) بل الجغرافيا والتاريخ نفسيهما إما كمستعمرات وقواعد أو كمراتع سياحية وهم يكتفون باستيراد ما ينتجه الغير بحسب شروطه مقابل ما يأخذه بحسب شروطه كذلك: يحدد شروط التبادل والتواصل. والنخب النافذة في المجالات الخمسة التي صنفنا بها النخب والشعب أيضا يتحملون التفقير المتنامي لأن شروط التبادل والتواصل متغيرة والثروات الطبيعية والثقافية ثابتة ما دمنا لا ننتج شيئا. فمهما غلت المواد الخام فهي دائما في تراجع بالقياس إلى غلاء المواد المصنعة. إذن فقر متزايد. وكلما تزايد الفقر ونقصت الثروة تزايد الصراع على القلة والصدام على شروط الحياة النباتية في الجماعة فتتضاعف علل الحربين الجاهلية والعولمية. وعندئذ يتبين أن الدين الوحيد الذي سيسيطر هو دين العجل: المال والإيديولوجيا فيصبح الجميع مرابيا ماديا وروحيا في الصفين التأصيلي والتحديثي. والنتيجة الاخطر على الإطلاق هو أن جميع النخب تصبح معروضة للبيع هي بدورها لأنها صارت مخلدة إلى الأرض كالكلاب تلهث وراء اللامتناهي الزائف سواء كان مالا أو إيديولوجيا. وأفضل تمثيل لهذه الحالة هي ما فضحته ثورة الشباب بجنسيه: فكل النخب التي كونت أحزابا وجمعيات مجتمع مدني سوق نخاسة. واعرف الكثير ممن هم مستعدون لبيع أنفسهم بأدنى الاثمان حتى بأكلة في مطعم شعبي أو بقارورة جعة وبذلك يصبح الكثير منهم “طبالي الصحافة” والبلاتوهات ومخبرين للسفارات والمؤسسات الممولة في الظاهر للبحث والندوات والفكر “المستنير” وهي في الحقيقة فروغ مخابرات عربية وغربية. حتى صار الامر سرطانا عاما بلغ المتاستاز في كل طبقات النخب التي صار لها أسعار تماما مثل تجارة العاهرات من التي تباع بمليم إلى التي تباع بأكثر بحسب الشاري وبحسب ما ينتظر من عارض نفسه للبيع من معلومات يمكن أن يكون في موضع يمكنه منها. ولذلك فلم يعد أي شيء في أمن في بلاد العرب. وعندما أسمع أحيانا بلاتوهات نسمة وفيها من أعرفهم بل وحتى من درسوا عندي لم أعد أصدق عيني ولا أذني من كثرة ما أسمعه من تزييف للحقائق وكذب وخداع وخدمة لأنذل مدير تلفزة في تونس سمعتهما: المتاجر بمعونة الفقراء تاجر المعندوس. لما أراهما وأسمعهما أسمع “الخرج” بالمعنى الخلدوني. ولو كانت تونس دولة وكانت قياداتها قيادات تحترم ذاتها وشعبها ومعنى الدولة لكأن أول عمل غلق هاتين المحطتين وسجن صاحبيهما. فلا يمكن أن يعد ما يفعلانه جزءا من حرية الإعلام. إنه جزء من توحش التهديم الإعلامي والأخلاقي والذوقي. لكن ما الحل ورئيس الدولة نفسه صار ذا فكر هدام. ففضلا عما سبق وصوله إلى رئاسة الدولة وتشجيعه للفوضى عامة والحط من قدر ممثلي الدولة وتجرئ اتحاد العمال على تعطيل الحياة الاقتصادية وتجرئ هذا الإعلام الهدام على التحول إلى سلاح لتنظيم الانقلابات السياسية نراه مرتين يعطل البلاد نصف سنة كاملة لفرض إرادته على رئيس حكومة اختاره. وفي بلد إعلامه ما نرى واقتصاده ما وصفت وثقافته أحط أنواع الثقافة على الأطلاق حتى إن المسلسلات صارت مهازل نسيبتهم العزيزة وشعرهم صار ذلك الحمار الذي لا يعرف حتى كيف تصوف النعجة كيف تعجب أن يصبح أجهل اساتذة الجامعة هم قادة الفكر التحديثي وأكثر نساء تونس خبلا مفكرات. لما أسمعهم يعلقون على شباب الثورة ويتباكون على عهد ابن علي ويتكلمون على الحقوق والحريات أو يتكلمون في ما يدعون الاختصاص الأكاديمي فيه أفرك عيني وأتساءل هل هؤلاء حقا درسوا ما يدعون الاختصاص فيه ثم ما طبيعة هذه الاختصاصات التي تدور حول دوكسوغرافيا صبيانية؟ كيف يعتقد إنسان له ذرة من عقل يعتقد أن ثقافات الشعوب تتغير بعصا سحرية يفرضها حاكم؟ ألم يروا أن ذلك قد يؤدي إلى “روتور المانيفال”. ألم يؤد تحديثهم وتجفيف المنابع إلى ما يتهمون به الإسلاميين لكأنهم هم كانوا يسيرون التربية والحكم طيلة الستين سنة الاخيرة؟ هل هذه ثمرة تنويرهم؟ ثم لماذا تسعى الفاشلات في حياتهن ممن ليس لهم اسر إلى تزعم إصلاح الأسرة؟ ولماذا جلهن من أبشع ما خلق الله حتى عضويا؟ هل السبب عقد نفسية وعقد نقص يمكن ترجمتها بمنطق فلأهدم عند غيري ما هدم عندي؟ ولماذا كان الامر كذلك في جل بلاد العرب؟ هل للعضوي والنفسي والعقد دور في ذلك؟ لا بد أن يتكلم علماء الاجتماع ليفسروا لنا هذه الظاهرات التي تجعل أغلب أدعياء التحديث العنيف هم من أبناء الطبقات الدنيا الذين تجدهم في كلامهم يساريين وفي حياتهم أفسد من أفسد ما يوجد عند أبناء البرجوازية إذا سلمنا بوجود برجوازية عربية: فالأغنياء عندنا ليسوا قوما أبدعوا ثروة. بل هم إما ساسة سرقوا الدولة هم وخاصتهم أو مهربون أو باعة فريب. قلما تجد ثروة عربية حاليا هي ثمرة عرق جبين أو إبداع عقل. لذلك فهي لا تمثل ثروة بقدر ما هي من جنس ما سرق ابن علي وحاشيته وأسرته أو رئيس مصر أو خليفته الحالي أو الاسد أو طالح اليمن أو خاصة أمراء البترول وأمراء الحرب فكيف في هذه الحالة أن نتكلم على نخب يمكن أن تقوم بالدورين اللذين استنتجناهما من “كيفما تكونون يولى عليكم” بوصفها جواب شرط ينبه إلى ضرورة أن تكون النخب نماذج بسلوكها وأن تبلغ ذلك بأقوالها؟ كيف يمكن إخراج العرب من هذا الوحل الذي يشبه الطوفان في المجالات الخمسة التي نتكلم عليها. وهكذا نصل إلى المسألة الاخيرة: النخبة الممثلة للإرادة وللرؤية سلوكها بذاتها واستتبعاها لأداة إنتاج أصل كل ثروة أو البحث العلمي والتقني وإنتاج أصل كل تراث أو الإبداع الفني والجمالي. بقي إذن الكلام في النخب الاربع الباقة بعد أن تكلمنا في نخبة القدرة المادية والرمزية.