لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله“كيفما تكونوا يولى عليكم” هل هي خبرية لليأس الاستسلامي؟ أم شرطية للأمل الثوري؟
حددنا طبيعة الخطاب في “كيفما تكونون يولى عليكم” وبينا أنها جواب شرط مضمر. وحددنا طبيعة الخطاب ف يكل ما يبدو خبرا عن المستقبل لكونه توقعا مشروطا وحددنا أصناف التوقعات الممكنة للرسول لأنه يعترف بجهل الغيب وعلينا الآن أن نحدد المخاطبين في “كيفما تكونون يولى عليكم”. فلا بد أن يكون الخطاب خاضعا لنوع ما قاله الرسول في حجة الوداع: هو خطاب للحاضرين ومصحوب بأمر تبليغ للغائبين. ومعنى ذلك أن المخاطب نوعان: المباشر وغير المباشر. وللأول مرتبة لا يشاركه فيها الثاني ما يجعله دوره مضاعفا بالقياس إلى دور الثاني. والمباشرة في المخاطبية الحضور المادي وحده كأن نظن أن المخطابة المباشر في حجة الوداع هو من حضرها فيكون المخاطب هم الصحابة الذين عاشوا تلك اللحظة التاريخية الممتازة. لو كان الأمر مقصورا على ذلك لما أقدمت على هذه المحاولة التي تهدف لعلاج أمر نعيشه الأن. المخاطب المباشر هو المباشر للخطاب. ولهذه العلة بينت أن التاريخ الإنساني مخمس الأبعاد. فالماضي ليس أحداثا فحسب بل أحداث مصحوبة بأحاديث وهي تبقى حية في الأحاديث وقد تنسى الأحداث. ومن ثم المباشر من الأحداث الأساسية في تاريخ الأمم تفعل بأحاديثها حول أحداثها أكثر من أحداثها ذاتها. وبخلاف الماضي فإن المستقبل أحداثه أفعل من أحاديثة لأن أحاديثه تحيا بما يصبح منها احداثا. وما يصبح منها أحداثا غالبا ما يكون إما مواصلة لأحداث الماضي بفضل أحاديثه أو تداركا لأحداثه التي ذكرت في أحاديثه بوصفها وعودا لم تتحقق: وبهذا المعنى تفهم عبارة “كيفما تكونوا يولى عليكم”. فلكأن حديث حدث حجة الوداع أصبح الآن أمرا تم التفريط في دلالته التي تجعل توقع كيفما تكونوا يولى عليكم توقعا غاب شرطه فلم يفهم على أنه تنبيه لشروط المحافظة على سيادة الأمة بيدها لأن الامر أمرها وتحذير من غياب هذه الشروط فيكون القصد تحميلا للمسؤولية وليس الاخبار بحقيقة علمية. وإذا عزلنا هذا الكلام عن علاقته بالماضي وبالمستقبل يصبح وكأنه “جملة خبرية” لكن عند وصله بهما يصبح جملتين شارطة ومشروطة أولاهما مضمرة والثانية معلنة: لكأن الرسول قال: إذا بقيتم كما أنتم الآن أسياد أنفسكم كان من يولى عليكم هو من تعتبره معبرا عنكم. إذا تخليتم عنها سادكم المستبدون. فيكون الإشكال كله في فهم الشرط المضمر وخبره الذي صار يعتبر خبرا خالصا بدلا من أن يعتبر جواب شرط مضمر هو تجميدها في الحاضر ليصبح الكلام على المستقبل وكأنه توقع خبري وليس تحذير استراتيجي وذلك في انواع التوقع الثلاثة: ففي الطبيعي الزلزال مدمر من دون العمارة المناسبة والمكان المناسب. فمن لا يستطيع العمارة المناسبة يختار المكان المناسب ومن ليس له مكان مناسب ينبغي أن يكون له عمارة مناسبة فيصبح الحكم “كيفما تتعامل مع الزلزال تزلزل بك الارض”. “كيفما تكونون يولى عليكم” أكثر صرامة لأنها جعلت العلاقة بين السياسي والوجودي: تكونون وجود يولى عليكم سياسة. والشرط المضمر هو الصلة بين الوجودي والسياسي: علمك بالشرط يجعلك تحسن التصرف بجوابه. فيكون وعيك بمنزلتك الوجودية شرطا في دورك السياسي الذي يحول دون المساس بمنزلتك الوجودية. إذا أنت كنت محافظا على منزلتك الوجود (حر) بقيت حرا وإلا فستصبح عبدا: هذا هو معنى القولة. الآن الخطاب المباشر للحاضرين مباشرة يصبح كالوصية التي تكلفهم بدور مرتين: أن يكونوا محافظين عليه وأن يكونوا معلمي غيرهم بضرورة المحافظة عليه. وهذا هو معنى النخبة. الآن وصلت إلى موضوعي: من هم المخاطبون مباشرة بهذه الوصية وكيف يمكن أن يؤدوا الدورين المثال بالأحداث والمعلم بالأحاديث؟ وهو موضوعي لأني أفهم بمعنى الصحابة أو الذين تلقوا مباشرة الرؤية القرآنية بالسميعة والبصيرة لحضورهم المادي والروحي لحظة حجة الوداع مثلا هم نخبة العصر وهم الذين لهم هذان النوعان من الدور: أن يكون سلوكهم الفعلي نموذجيا وأن يكون تعليمهم مطابقا لسلوكهم النموذجي وهو معنى النخبة. ولا بد هنا من ملاحظة أن الدور النموذجي لا ينبغي أن يصبح وساطة لأن الرسول نبه “إنما أنت مذكر” وأن يصبح وصيا لأن الرسول نبه “لست عليهم بمسطر” وإذن فدورا النخبة مشروطات بعدم الوساطة (سلطة روحية على الأذهان) وبعدم الوصاية (سلطة مادية على الأبدان): دور التربية والحكم نموذجي خالص. والصحابة ليسوا خالدين ومن ثم فلكل عصر صحابته أي النخب التي لها صلة بالتربية والحكم سواء كان الجامع بينها صحابة رسول وصحابة فيلسوف أو صحابة دين ومدارسه أو صحابة فلسفة ومدارسها أو صحابة الامرين معا أعني النخب كلها في كل عصر. وقد صنفتها إلى خمسة أصناف تصنيفا جامعا مانعا. فالنخب هي نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة أو الذوق ونخبة الوجود أو الرؤى. ولا توجد نخب أخرى وإن وجدت فهي فروع من هذه إذ يقدر ان يجمع الإنسان الواحد بين الانتساب إلى أكثر من واحدة. وفي كل واحدة منها درجات لأن هذه المقومات متفاضلة كيفيا وليس كميا فحسب كما سنرى. المثال الذي ضربته والذي أعادنا إلى الصحابة وحجة الوداع ليس إلا للتقريب لأن المشكل هو نخب اليوم في بلادنا: 1. فنخبة الإرادة هي النخبة السياسية بدرجاتها حكما ومعارضة. 2. ونخبة العلم هي النخبة المعرفية الأكاديمية وغيرها كالاعلام وما يتعلق بالمعلومات تحصيلا وتوصيلا وتحريفا وتزييفا. ثم: 3. ونخبة القدرة أي القدرة المادية (الاقتصاد) والقدرة الروحية (الثقافة) 4. ونخبة الذوق والحياة أو الفنانون والرياضيون 5. وأخيرا نخبة الرؤي من رجال الدين والفلاسفة وكلتاهما بدأت تضمحل في المجتمعات الحديثة لأن سيطرة الأربعة السابقة وتطبيقاتها تغني عنهما أو تقلل من معيارية فكرهما يصعب اليوم أن تجد للمدارس الدينية والمدارس الفلسفية الخالصة دور مباشر يذكر رغم أن النخب الاربع السابقة كلها لها شيء من هذه أو من تلك أو منهما معا: فالسياسي والعالم والاقتصادي والفنان لهم جميعا رؤية قد تكون دينية أو فلسفية أم كلتيهما معا لكنها متعينة فيه وليست في النخبة الخامسة ولذلك فالكلام مثلا الأجيال الثلاثة الاولى باعتبارهم حتى مصدرا للتشريع في التقاليد السنية أو أكثر من ذلك في التقاليد الشيعية لم يعد الجيل الحالي يعتبرها مما يعتد به لأن النخب صارت دائما بنات جيلها أو أقصى تقدير بعض الاجيال السابقة لها مباشرة بسبب تسارع التغير في الرؤى. ولذلك فليست النخب بحد ذاتها هي التي تعنيني في هذه المحاولة بل اسس الدور المعياري المضاعف من حيث تمثيل الماضي والمستقبل في السلوك الفعلي وفي السلوك القولي خلال أدائها دورها المضاعف أعني دور الحدث الحي ودور الحديث الحي المتعلق بالحدث الحي الماضيين والمستقبليين في حياة الحاضر. فالشعوب التي ليس لها صلة مباشرة بأي شيء بل صلتها حتى بذاتها هي دائما بتوسط النخب حتى لو حافظت النخب على كونها ليست ذات سلطان روحي (الوسطاء) ولا سلطان مادي (الاوصياء) لكنها تبقى ذات دور في التربية وفي الحكم بوصفها حاصلة على صفتين على وجه الفرض: كفاءة وأخلاق. وهذا هو موضوع بحثي: كيفما تكونون تتعلق بالكفاءة والاخلاق عند من بيدهم الحل والعقد في مجالات الانتخاب الخمسة أي في السياسة والعلم والاقتصاد والثقافة والفن والرياضة والرؤى. فيكون مطلوبنا معرفة ما يعاني منه الشعب في علاقة بما هو مختل في الكفاءة والأخلاق عند هذه النخب. وأستطيع الآن أن أترجم عبارة كيفما تكونون يولى عليكم بدلالة مضاعفة: أولى كيفما تكون نخبكم تكون رعاية أمركم وحمايته. وكيما تكون رعاية أمركم وحمايته تكون حالكم كشعوب لها هذه النخب التي تمثل إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ورؤيتها للوجود في الدين وفي الفلسفة. وهكذا فقد تحددت خطة المحاولة: 1. هل النخبة السياسية العربية أهل لقيادة الامة بصورة ترعاها وتحميها؟ 2. هل النخبة المعرفية العربية أهل لتمكنيها من علاج العلاقتين مع الطبيعة ومع التاريخ لتحقيق شروط الرعاية والحماية؟ 3. هل النخبة الاقتصادية والثقافية تنتج ما يمون الجماعة حماية ورعاية؟ ثم: 4. هل النخبة الفنية والرياضية العربية أهل لكي ترفع من ذوق الأمة الروحي وكيانها العضوي أم هي بالعكس من ذلك؟ 5. وأخيرا هل نخبة الرؤى الدينية (مستعملي الرؤية “الدينية”) والفلسفية (مستعملو الرؤية “الفلسفية”) أهل للقيادة الروحية والاستشرافية لحياة الأمة؟