كونية القيم الروحية، أهم الأدلة على خاتمية الرسالة – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله كونية القيم الروحية أهم الأدلة على خاتمية الرسالة

لكن ما يزيد يقيني بجدوى فرضية العمل التي انطلقت منها لقراءة القرآن وخاصة بعد وضع النظريات الوسطية بين الحدوس الاولية والنتائج التي توصلت إليها هو وجوب تحقق خمسة شروط في نص القرآن حتى يكون لكلامي عليه معنى. فإذا لم توجد فيه وغاب أي منها كانت فرضيتي خاطئة وعلي تغييرها. فلا تكفي هذه الفلسفات الخمس والتي لم أعد أشك في أنها اركان الرؤية القرآنية بل لابد من وجود الأركان الخمسة الأعمق: 1و2-ينتسبان إلى جوهر الابداع في الفن الجميل الأصلي المتعلق بجماليات الشكل أو المكان وبجماليات النغم أو الزمان. 3و4 -ينتسبان إلى جوهر الإبداع المقدرات الذهنية. وقد سبق وعرفت المقدرات الذهنية باستكمال التعريف التيمي: هو لم يتكلم إلا على النوع الرياضي فيها. لكني أضفت النوع “الادبي” أو “الدرامي” إذا كان الأول يعتبر تصوري. وحتى أيسر المعنى الثاني فلأقل الأدبي الأسمى الذي يشبه في العمل والشرع ما يمثله الرياضي في النظر والعقد. وهذه الأركان الأربعة لا بد لها من أصل يوحدها وهذا الأصل عسير التعريف وهو ما به أسكت الله في المشهد الرمزي لاستخلاف آدم: القدرة الترميزية أو “علمه الأسماء كلها” أي قدرة الإنسان على إبداع عالم رمزي سابق على المرموزات التي تصبح موجودة بفضل رمزها فلا يكون الرمز محاكيا بل خالق له. وقد سميت هذا الأصل بالوسميات ترجمة لسيميوتكس أو “علم الترميز”. فتعليمه الأسماء كلها ينبغي فهمها على أنها تعليمها أسماء الموجود منها وغير الموجود وإلا لكان آدم في لحظة تعليمه قادرا على الإحاطة بـ”كلها”. وإذن المقصود القدرة الكلية على التسمية للموجود حينها ولما سيوجد لاحقا. ومفهوم “المقدرات الذهنية” حتى عند ابن تيمية لا يتعلق بالموجود الحاصل بل بالموجود الممكن حتى لو لم يكن حاصلا والدليل أنه يقابله مع الموجود الخارجي ويعتبر علمه البرهاني والكلي منه في حين أن علم الموجود الخارجي يمتنع فيه العلم البرهاني لأنه لا كلي فيه. ولذلك فابن تيمية لا يعترف بالحقائق الكلية إلا في المقدرات الذهنية وفي المعتقدات الدينية أما العلوم التي تدرس الكائنات الخارجية طبيعية كانت أو تاريخية فهي دائما جزئية واستقرائية وكل استنتاجي فيها فرضي وليس يقيني حتى لو أيدته التجربة. ولذلك اعتبرت الرجل ثاقب النظر ومتجاوز لأرسطو. قد لا يكون عرب الجاهلية مدركين للركنين الأخيرين وأصل الأركان التي أدرسها الآن وطبعا هم غير مدركين للأركان التي درستها في الفصل السابق. لكن التأثير الأساسي للقرآن كان الركنان المتعلق بجمالية المكان وبجمالة الزمان في عبارة القرآن. ظنوه شعرا لا مثيل له برسمه وموسيقاه. لا يوجد إنسان حتى لو كان اغبي مخلوقات الله لا يمكن ألا ينجذب للرسم والنغم القرآني. ومزية رسمه على الرسم في الشعر العربي أنه يجمع بين خصائص الشعر العربي وخصائص الشعر اليوناني أي إنه لا يرسم بالكلام فحسب مثل العربي لكن يرسم بالدراما أو بالفعل مثل اليوناني. ومن علامات تخلف الشعر العربي بعد القرآن أنه ظل جاهليا أي إنه لم يفهم ثورة النقلة من الرسم بالكلام الذي يقتضي أن يكون الحدث بأسلوب الغائب الذي هو موضوع الكلام وليس هو نفسه حاضرا في المشهد بالدراما أو بالفعل الحقيقي. فلو كان مشهد الاستخلاف حكاية عنه وليس المشهد نفسه لفقد فاعليته. وادعياء حداثة الشعر العربي الحالي أكثر تخلفا حتى من الشعر الجاهلي. ذلك أنه تحول إلى تعامقات سخيفة حول النفس من قوم هم أجهل الناس حتى بما بلغ إليه الغزالي في كلامه عنها. وعندما يحاكون المتصفة مثل النفري فإنه يشوهون العربية والتصوف وأعماق النفس هم دون كعب أي شاعر غنائي جاهلي. والعلة هي الإيديولوجيا والجهل بمعنى الشعر العربي واليوناني اللذين لنا في القرآن ما يتجاوزهما من آيات الغوص في أعماق النفس البشرية وما يحيط بها من آفاق دنيوية وما ورائية. ولما كان من العسير أن استعمل كلمة “ميثولوجيا” من دون ما يحيط بها من فهم سلبي فسأكتفي بـ”المقدر الذهني القيمي”. الركنان الثانيان بعد الرسم والموسيقى هما ركن المقدر الذهني الرياضي اساسا للأبستمولوجي والمقدر الذهني القيمي أساسا للأكسيولوجي . والأصل الذي هو وسمي يمكن اعتباره المدلول الأعمق لكلمة “آيات الله” في الآفاق والأنفس وهي وسميات وجودية تدركها العقيلة وتعبر عنها النطيقة. لا أشك لحظة واحدة أن أدعياء التأصيل سيزعمون أني اعتبر القرآن شعرا عربيا يونانيا ولا أستبعد أن يخرجوني من الملة كما فعل الشيخ البوطي رحمه الله لما اعتبر كلامي على ازمة أصول الفقه مدعاة للحكم بذلك. وينسون أن القرآن نفسه لا يتكلم علن ذاته بغير هذا الأسلوب: المقارنة مع نفي المماثلة. وعندما كتبت “الشعر المطلق والإعجاز القرآني” كنت أمام نفس المأزق. كيف أتكلم على الشعر المطلق وأقارنه بالأعجاز القرآني الذي لا أقصد به المعجزات بل أقصد به هذه الاركان الخمسة الاعمق في القرآن أي الرسم والموسيقى والمقدرات الذهنية الرياضية والمقدرات الذهنية القيمية: أساس الباقي. وهو أساس لا يمكن البلوغ إليه وإدراك دوره من دون نظرية الحوادس وما حاولت بيانه في شرح “صم بكم عمي فهم لا يعقلون” وما تؤدي إليه من ضرورة وضع نطيقة وراء النطق وعقيلة وراء العقل كما نضع بصيرة وراء البصر وسميعة وراء السمع وشميمة وراء الشم وذويقة وراء الذوق ولميسة وراء اللمس. وبهذه المناسبة سأمح لنفس بالكلام في ما يتجاوز السميعة والبصيرة: فالكلام على شمه وذوقه ولمسه ليس سرا. فأولا هو يجمع بين اللميسة والشميمة في ذروتهما أي الجنس للميسة والعطر للشميمة. وثانيا حتى الذويقة كان مشهورا بأنه ذواقة لأنواع معينة من الغذاء. وهو ما يعني أن الحوادس الخمسة وليس الحادسان الخاصان بالمعرفة والقيم وحدهما كلها متميزة عند الرسول الخاتم. وطبعا فالنتيجة أنه كان ذا عقيلة وذا نطيقة. فهو عاقل وعقيل وهو ناطق ونطيق. والعقيلية والنطيقية غير العاقلية والناطقية لأنهما يدركان آيات لله في الآفاق وفي الانفس. ومن لم يكن له نزر من الحوادس لن يكون له نظر من العقيلة والنطيقة ومن كان عديم هذا النزر يعسر أن يتجاوز المفعول الجمالي للرسم والنغم القرآنيين مثل أهل الجاهلية. لكن لا يمكن لأي إنسان أن يفهم معنى الإبداع الرياضي والأبداع القيمي من دون نزر منهما ومن الحوادس التي تؤسسها. وليس بالصدفة أن كانت المدرسة الفيثاغورية فرقة دينية وليس بالصدفة أن يكون المبدعون الرياضيون في الغالب في علاقة بعالم لا علاقة له بعالم البشر العاديين. فحتى ديكارت كان منتسبا إلى فرقة غنوصية وكان ينتظر الوحي لأنه كان يتصور نفسه نبيا. ولا تصدقوا أنصاف المثقفين: لا فكرمن دون دين. فعالم الفكر حتى وإن كان مآله علاج المشاكل الدنيوية ليس دنيويا. ومن يغرق في عالم الدنيا بمعنييها أي الوجود الأدنى من حيث كثافة الوجود ومن حيث قيمته لن يكتشف أن سلطانه عليه بدل العكس يجعله مخلدا إلى الارض فلا يستطيع أن يتعالى على عطالة ما يشده للعبودية المادية والروحية. لذلك فهذا العالم المتعالي على الدنيوي يعود إليه عودة المحرر من سلطانه بالسلطان عليه وهو من جنسين: علم القوانين الطبيعية وعمل القيم الخلقية. والأول اساسه تطبيق الرياضيات والثاني أساسه تطبيق السياسيات. وكلتاهما تتأسسان على المقدرات الذهنية الرياضية والمقدرات القيمية أو الروحية. ونوعا المقدرات متلازمان كما في التلازم بين رياضيات المكان والرسم ورياضيات الزمان والموسيقى. وهذا النوعان هما بداية التحرر من البصر بالبصيرة عند الرسام ومن السمع بالسميعة عند الموسيقار. والشاعر الحقيقي يجمع بين بصيرة الرسام وسميعة الموسيقار وليس ماضغ الشعارات الإيديولوجية. شعراء اليونان من أكبر مؤسسي الفلسفة النظرية والعملية. وشعراء العرب لم يغادروا التكدي لذوي السلطان بحسب موضة التسلط. ولم يفسد الشعر أكثر من إيديولوجيات اليسار وتصوفيات اليمين وكلها خالية من مميزي الشعر أعني الرسم والموسيقى فضلا عن مضامينه كمقدرات ذهنية وليس محاكايات واقعية. فالمحاكيات الواقعية هي دائما دون الواقع كثافة وجودية مهما كان مدركه ذا بصر حديد وقلما تجد هذا النوع لأن البصر الحديد لا يتناسب مع العقل البليد. فما حقيقته إبداع المنشود لا يمكن أن يكون مدركا لما يتجاوز الموجود لأنه يكون دائما غارقا في ما يعتبره حقيقة المعبود: التكدي. ولعل أكبر مزية لثورة الشباب بنوعيه هو بيان كذب شعارات أكابرهم تماما كما حدث للأنظمة التي كانت تتغنى بالمقاومة والممانعة. تبين أن جل ادعياء التحديث وخاصة في الفنون ليسوا إلا مخبرين وطبالين وكدائين كانوا يمدحون ثورة العسكر المزعومة وتبين أنهم يمدحون مقابل ما يقبضون. وطبعا لا بد من تزيين ذلك بشعارات ثورية وتقدمية وتحررية وهلم جرا من شعارات أول من لا يصدقها هم عندما تجمعهم موائد من يرمون لهم مثل الكلاب فتات ما يتقاسمونه مع حماتهم سواء كانوا توابع إسرائيل أو توابع إيران أو توابع أي تابع لأنهم يعيشون بالتبعية لغرقهم في المزابل الدنيوية. والكثير من دعاة الصف الثاني يدنسون الدين تدنيس هؤلاء للفلسفة. هم في الحقيقة يشتركون في “صم بكم عمي فهم لا يعقلون” لأنهم لم يخرجوا من عالم الحواس والنطق والعقل الخادمين لشروط المزيد من الغرق في ما لا يتجاوز الاخلاد إلى الارض ولذلك فهم يلهثون حملت عليهم أم لم تحمل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي