كونية السياسي، نظرية الدولة وبنية الأنظمة العميقة – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله كونية السياسي نظرية الدولة وبنية الأنظمة العميقة

فللقرآن بوصفه رسالة خاتمة نقلها الرسول من المرسل (الله) إلى المرسل إليه (الإنسان) بعدان: 1. نقد للمبدل منه أو تحريف الديني (ومصدره المدارك الوجدانية) ولتحريف الفلسفي (ومصدره المدارك الخارجية). 2. بديل موجب يصلح هذه العلاقات بين الإنسان وذاته وبينه وبين العالم في وجوده التاريخي الفعلي. والبديل الموجب مقدم وفيه يكون الرسول بشيرا مع تمثيل من صالح التاريخ. والبعد السالب مؤخر وفيه يكون الرسول نذيرا مع تمثيل من فاسد التاريخ. ومن ثم فالتشابك بين التاريخي وما بعده يجعلهما غير قابلين للفصل. فالعلاقة بين النظر والعقد في العلم والعلاقة بين العمل والشرع في العمل بنيويتان. ولهذه العلة توصلت إلى قناعة أن الصدام بين الكلامي والفلسفي في العلم بالمقابلة بين الإيمان والعلم من أمراض الإنسان وليس من طبيعة العلاقة بينهما. ومثله الصدام بين الفقهي والصوفي في العمل بالمقابلة بين القانون والاخلاق. فالعلاقتان بين الإيمان والعلم وبين العمل والشرع هما أساس الحضارة. فمثلما أن العقد أساسه المدارك الباطنية والنظر أساسه المدارك الخارجية فالعمل اساسه الوازع الذاتي أو الأخلاق والشرع هو الوازع الخارجي أو القانون. ولما كان الزوجان الاولان الإيمان والعلم لا ينفصلان وكان الثانيان القانون والأخلاق لا ينفصلان فلا بد أن يكون لذلك علة عميقة: فما هي؟ لما اكتشفتها فهمت سطحية المقابلة التي عاش عليها فكر علماء الملة بأصنافهم الخمسة: المفسر والمتكلم والفيلسوف والفقيه والمتصوف: مقابلة النقل والعقل ورد الاول للثاني عند التعارض. وقد حل هذا اللغز ابن تيمية في الدرء رغم ما يشوب أسلوبه من العلاج الكلامي بدل العلاج الفلسفي. والقصد بأسلوب العلاج الكلامي الطابع الجدلي في شكل ردود على الرازي بدل العلاج الفلسفي الذي هو علاج نسقي لا يهتم بالردود على خصم معين بل يطلب البحث في المسالة بمقتضى طبيعتها ولا يهتم إلا بما يترتب على فرضياته التي ينطلق منها ومدى تفسيرها لما يريد تفسيره بشروط التفسير العلمي. اكتشف ابن تيمية سطحية المقابلة بين النقلي والعقلي واساس التأويل الكلامي والفلسفي القائل بضرورة رد الاول إلى الثاني عندما وضع مفهومين لم ينالا حظهما من الفهم والتمحيص: صريح المعقول وصحيح المنقول. فهمت صريح بمعنى قريب من مفهوم “النص” في الفقه أي ما لا يحتاج إلى تأويل لوضوحه. فهمت على انها من الصراحة وليس من الصراح رغم أن الرجل كان شديد الوضوح عندما بين أن الديني والفلسفي كلاهما يعتمد ملكة العقل التي هي واحدة فيهما ومن ثم فليس قصده المضمون المعرفي الذي يتوصل إليه الفلاسفة بل القدرة المعرفية التي يشترك فيها كل إنسان ينظر بعقله كقدرة فطرية. ومن ثم فلكأن ابن تيمية قال: مثلما أن نتائج الفكر الفلسفي مصدرها العقل فإن نتائج الفكر الديني تختلفان بالمضمون ولا تختلفان بأداة المعرفية لأن العقل كأداة مشترك بينهما: العقل الصراح أو الخالي من مضمون فلسفي أو ديني. ويبقى الآن أن نفهم الفرق المضموني بين نتائج الفكرين بنفس الأداة. فلو تخلص ابن تيمية من الأسلوب الكلامي الجدلي كما فعل ابن خلدون فبحث موضوعه بحثا نسقيا بالأسلوب الفلسفي لتوصل إلى طرح هذا السؤال: ما طبيعة مضمون البحثين الديني والفلسفي إذا كانت أداتهما العقلية واحدة؟ أو لسأل بماذا يختلفان فيكون في أحدهما ما يراد رده إلى ما في ثانيهما؟ ذلك أنه بمقتضى الشكل الجدلي لأسلوبه الكلامي لم يسلم بوجود أمر يختلفان به لأنه كان مهتما بنفي الرد والقول بالتطابق بين ثمرة البحثين لكأن المضمون هو بدروه واحد. وهذا غير صحيح. فما البحث الديني هو القبول بوجود ما لا يقبل العلم أي الغيب. وطبعا قد يكون لسكوته عن ذلك معنيان. أولهما يستحيل أن يكون ما قصده ابن تيمية بسكوته عن الامر لأنه لا يعقل أن يكون ابن تيمية نافيا للغيب فيدعي أن التطابق بين المضمونين الديني والفلسفي واحدا. والثاني ممكن وهو أن يكون قاصدا أن الغيب محجوب على الفكرين الديني والفلسفي والمدار هو ما يقبل العلم من الوجود. وهذا هو المرجح. ولست أقول ذلك دفاعا عنه بل لأنه قال ذلك بطريقة اخرى: قال إن كل تصور وراءه تصور أفضل ومن ثم فلا وجود لعلم نهائي فلسفيا كان أو دينيا وهو ما يعني أن العلم ليس محيطا ولا مطابقا للوجود. ويتبين من تمييزه بين المقدرات الذهنية التي يسلم فيها بالكلي والرهاني بخلاف علم الوجود الخارجي. وكيفما كان الامر فإن ابن تيمية لم يتعرض للفرق بين المضمونين ومن ثم فهو يفسر عدم التطابق بين الحقائق الدينية والحقائق الفلسفية بعجز المتكلمين والفلاسفة وليس بخاصية ذاتية للفرق بين المضمونين. ذلك أن المضمونين كلاهما نقلي: المعطيات الحسية الخارجية والمعطيات الحدسية الباطنية. سذاجة القائلين بضرورة التأويل عند التعارض بين ما يسمونه نقليا وما يسمونه عقليا تهمل أنه لا عقلي من دون نقل مستمد من معطيات الموضوع الخارجي مصدرها الحواس وإلا فالعلم يصبح خياليا دون مرجعية وجودية ولا نقلي من دون عقل مستمد من نفس المبادئ العقلية التي تصوغ معطيات الذات الباطنية. ومن ثم فالمقابلة نقلي عقلي لا معنى لها وهي دليل سطحية ابستمولوجية مضحكة. والعلة هي توهم العقلي صورة بلا مادة وتصور النقلي مادة بلا صورة. لذلك فهم لم ينتبهوا لوجود موضوع في الحالتين ليس عقليا بل هو نقلي ولوجود ذات في الحالتين ليست نقلية بل عقلية. والمقابلة هي بين مصدري المضمون. فمصدر المضمون في العلوم التي تعتبر عقلية هو المعطيات التي نستمدها من الموضوع الخارجي ويكون بالحواس وبما نصنعه من ادوات تقوي قدرتها على إدراك ما في الموضوع الخارجي من خصائص. ومصدر المضمون في العلوم التي تعتبر نقلية هو المعطيات التي نستمدها من الموضوع الباطني ويكون بالحوادس. وبين أن النوع الثاني من الموضوع معرض أكثر من النوع الاول إلى كثرة الاختلافات بين البشر وإلى ضرورة غلبة المنهج التأويلي على المنهج التحليلي. ومنتهاه هو ما نراه في الفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. فهذه يحاول الكثير ردها الى العلوم الطبيعية. لكن ذلك يفشل دائما لعلتين علوم الإنسان تتميز بين موضوعها هو الذات نفسها فيكون الموضوع والذات شيئا واحدا. وهو ما يجعل الامر شديد العسر رغم أن الذات كموضوع هي كذلك موضع لذات خارجة عنها فليس من الضرورة أن يكون موضوع البحث هو صاحب البحث بل يمكن أن يكون ذات اخرى. لكنها لن ترى إلى الخارج من الذات. والعلة الثانية وهي عكس العلة الأولى تبين أن الطبيعة أيضا ليست خالية من البعد الذاتي في علمها. ذلك أن الذات التي تدرسها لها تأثير في العلم الذي تنتجه حول الطبيعة. ومن ثم فالعلوم الطبيعية صارت محتاجة للتأويل لما فيها من ذاتي والعلوم الإنسانية للتحليل لما فيها من موضوعي. لكن لا أحد من علماء الطبيعة يدعي رد الطبيعي إلى الإنساني ولا أحد من علماء الإنسان يدعي رد الإنساني إلى الطبيعي. وهو الحل المناسب للعلاقة بين الفكر الديني والفكر الفلسفي بل إن العلاقة بين الطبيعي والإنساني مصدرها العلاقة بين الطبيعي والإنساني من العلوم: ما يغيب عن أنصاف المثقفين. والنتيجة الحاسمة هي أن هذه العلاقة المتصلة والمنفصلة بين الديني والفلسفي هي التي جعلتني أضع نظرية تجعل النظر والعقد متلازمين. فلا نظر من دون عقيدتين على الاقل أولاهما أن للعالم نظام قابل للعلم والثانية أن للأنساق جهاز قادر على العلم: لا بد منهما كمسلمتين على الاقل. وهي التي جعلتين أضع نظرية تجعل العمل والشرع متلازمين. فلا عمل من دون شرعين يتعلق أولهما بموضوع العمل (له نظام هو شرعه) والثاني بالذات العاملة (لها نظام شارط لفاعلية عملها وأهم ما فيه أن يكون عملها على علم). ومن ثم فلا عمل من دون شرع ولا شرع من دون عمل. فإذا نسبنا النظر والعمل إلى الفلسفة باعتبار الثاني تطبيق الاول ونسبنا العقد والشرع إلى الدين بنفس الاعتبار وكانت النسبة الاولى فيها ما هو إيماني وما هو علمي وكانت النسبة الثانية فيها ما قانوني وما هو خلقي بات من الواجب أن نفهم ان جهاز فاعلية الإنسان مؤلفا منهما بتلازم لا يتأخر. فيكون ما يزعم من عداوة بين الدين والفلسفة بمستوييهما نظرا وعقدا ثم عملا وشرعا ليس أمرا حقيقيا له أساس في الدين أو في الفلسفة بل هو أمر دال على جهل بطبيعة ما بينهما من علاقات عميقة هي ما يترتب على علاقة المضمون العلمي بالشكل العلمي وازدواج المضمون الباطن والظاهر في حياة البشر. ولما كانت علوم الملة الخمسة (التفسير وأصوله والكلام وأصوله والفلسفة واصولها والفقه وأصوله والتصوف وأصوله) قد بنيت على ما جعلها في صراع دائم وصدام بين الإيمان والعلم وبين الشرع والعمل فقد تبين انها محرفة وأن مراجعتها ضرورية لاستعادة فعالية الإنسان المسلم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي