لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهكونية السياسي نظرية الدولة وبنية الأنظمة العميقة
في كلامي على نظرية الدولة في الإسلام وما ورد فيه من تعليق عرضي على عبد الرزاق وحلاق ذكرت بأمرين سأنطلق منهما اليوم لأشرع في إعادة النظر في تصنيف الأنظمة السياسية عند اليونان والمسلمين وبيان ما انتهى إليه الغرب حلا وحيدا هو النظام الذي سميته انثروبوقراطي أو ديموقراطي. وعلة تفضيلي انثروبوقراطي على ديموقراطي استبدالا للشعب بالإنسان لأن ذلك أكثر مطابقة للديموقراطية في معناها الحديث المختلف تماما عن معناها القديم الذي كان أرسطو ولكن خاصة أفلاطون يعتبرانه أفسد الانظمة بخلاف ما ساد في الفكر العصر الحديث الذي يعتبرها أقلها فسادا. فالمعياران اللذان يطبقهما الفكر اليوناني للمفاضلة بين الانظمة-عدد المسهمين في الحكم وأخلاقهم-مختلفان عن المعيارين اللذين يطبقهما الفكر الحديث: فالعدد يتعلق بالكل دون مقابلة بين حر وعبد والاخلاق لم تعد ذات مرجعية غير محددة بل صارت ما يسمى بحقوق الإنسان الطبيعية. وعلامة الفرق الأول هو محاكمة سقراط. فالنظام الذي حاكمه كان ديموقراطيا بالمعنى القديم والمحاكمة كانت بمرجعية خلقية ثيولوجية وليس انثروبولوجية. ولعل ما يعاب عليه هو رفضه للمقابلة حر عبد (مثاله في التوليد طبقه على عبد) وتأسيس الأخلاق ثيولوجيا وليس انثروبولوجيا. وهذا الفهم لسلوك سقراط في محاكمته مع ما كان يتصور عليه رسالته التي يمكن اعتباره أشبه بالنبي منها بالفيلسوف لأنه كان يعتبر أمرا ما يوقفه كلما هم بشيء لا يرضى عنه وجدانه لكأنه مأمور في مواقفه التي ليست مجرد حصيلة تفكير عقلي خالص. وكان يعتبر تعليمه تذكيرا وليس إخبارا بجديد. ما يعنيني في هذه المحاولة أمران: 1. الدولة كائن ثابت مهما تنوعت الانظمة بمعنى أن الثابت في كل الانظمة هو أمر ثابت يمكن أن نطلق عليه اسم الدولة أو النظام ذي المستويين من القيام أعني الجهاز البنيوي المجرد الاشبه بمكنة معقدة ذات مؤسسات أو خانات يملأها الناس بتوزيع للعمل تفرضه وظائفها. وهذه المكنة التي هي آلية من حيث البنية المؤسسة التي تناسب وظائف الدولة لكنها كائن حي من حيث مالئو هذه البنية المؤسسية بتقسيم عمل المكنة تقسيما تحدده الوظائف تحتاج إلى: 2. نظام قوة سابقة على قوة الدولة اللاحقة بعد جمع الآلي والحي وهو نظام القوى السياسية المتنافسة على سلطة الدولة. وهذه القوة هي التي يسمى النظام السياسي باسمها. ففي النظام الثيوقراطي القوة التي تحقق الجمع بين الآلة ومن يملأها لتصبح دولة ذات سلطان هو القوة الغيبية سواء كانت إله الأديان الطبيعية أو الأديان المنزلة بنظام الوسطاء والأوصياء: النظام الفرعوني جمعا بين الحاكم (فرعون) والمربي (رجل الدين). وفي النظام الانثروبوقراطي القوة السياسية التي يحمل النظام اسمها هي قوة الاحزاب السياسية التي تتمايز بالموقف من طبيعة السلطة المشرعة أساس تشريعها الذي لم يعد ينسب إلى إرادة الله بل إلى حقوق الإنسان الطبيعية. ولا يهمنا الآن إن كان ذلك صحيح في الحالتين الثيوقراطية والانثروبوقراطية. وقد لاحظت مؤخرا أن حلاق بدأ يراجع نفسه عندما حاول-متبعا ما بدأ يحصل في الغرب من تساؤل عن العلمانية-الكلام على كونها علمنة لنفس النظام الثيوقراطي المسيحي مع تاليه الدولة التي أصبحت تشغل منزلة الله في النظام. وهذا سببه الخلط بين المكنة والقوة التي لها سلطان ملئها بمن يشغل وظائفها. فالدولة من حيث هو بنية مجردة بمؤسسات تحددها الوظائف كخانات خالية مجرد مكنة لا هي دينية ولا هي علمانية بل هي آلة تقنية ومن يملأها بشر عاديين تماما كالذين يملؤون المكنة التي هي بنية آلية في الجهاز الاقتصادي أو في الجهاز الثقافي للدولة. ما يضفي صبغة الثيولوجي أو انثروبولوجي غير. إنه القوى السياسية والمرجعية التي تحدد طبيعة ذوي السلطان الفعلي على ملء الخانات الخالية في مكنة الدولة المجردة والتي تتحدد خاناتها بحسب تقسيم العمل الذي يؤدي وظائف الدولة تماما كما يحصل في تقسيم العمل الاقتصادي والثقافي في الدولة. ما هو ثيوقراطي وانثروبوقراطي هو هذه السلطة. ولما حاولت البحث في هذه السلطة وجدت أن حقيقتها العميقة واحدة في كل الانظمة حتى وإن تعددت مظاهرها السطحية وهذه الحقيقة هي التي استعرت لها اسم سلطة الحكم بدين العجل “ابيسيوقراطيا” أي بمعدنه (الذهب) وبكلامه (الخوار) بنية واحدة للسلطة الفعلية في كل الأنظمة السياسية. وهنا وقعت في مشكل عويص: هل استثني دولة الإسلام من هذه البنية العميقة-الابيسيوقراطيا-فأسقط ما تصورته قانونا كونيا فأي استثناء في هذه الحالة يعني أن القانون غير كلي ويكون الكلام استقرائيا وكل استقراء ناقص مهما توهمنا له من كمال؟ أم علي أن أبحث عن حل متناسق يحدد علاقة الإسلام به؟ هذا هو موضوع محاولة اليوم. وهي محاولة تستكمل الكثير من المحاولات السابقة في الفلسفة السياسية التي ماتت في فكرنا بعد مقدمة ابن خلدون. وقد تكلمت سابقا على تصنيف للأنظمة وقطعه مع التصنيف اليوناني وخاصة الارسطي ميلا إلى تصنيف أقرب إلى نظرية العقد السياسي الاجتماعي الحديثة. لن أعود إلى الكلام على الغزالي وابن تيمية وابن خلدون في محاولاتهم تحديد نظرية الدولة بالمقابل مع الباطنية (الاختيار بدل الوصية) ولا مع الفلسفة اليونانية (العدد والأخلاق) استبدالا للأمرين بنظرية العلاقة بين الشرعية والشوكة بتقديم وتأخير لأن المهم النسبة الضرورية والكافية بينهما. ما يعنيني من محاولتهم هو اكتشافهم لهذا العامل الذي بمقتضاه تتحدد الانظمة: النسبة بين القوتين المعنوية والمادية في القوى السياسية التي بيدها السلطان على ملء خانات المكنة المجردة بمقتضى وظائف الدولة التي هي آلة تقنية ليس دينية ولا علمانية تماما كآلة الانتاجين الاقتصادي والثقافي. ولا بد إذن من تحديد طبيعة العمل الذي يقع تقسيم الوظائف التي تؤديها الدولة بجهازها المجرد وبمن يشغل خاناته بقانون توزيع العمل بمقتضى تلك الوظائف. فابن خلدون عرفها: 3. تنظيم التعاون على سد الحاجات المادية. 4. حماية المشاركين بعضهم من البعض ومن أي عدوان خارجي إنساني أو غير إنساني. واعتبر قدرتها على ذلك مشروطة بأمرين: المال والجند أي القوتين الاقتصادية والعسكرية. لكنه يشترط الأولى بالعدل والثانية بالعصبية. فحدد من ثم العاملين اللذين يتفق عليهما مع الغزالي وابن تيمية. ومن هنا سأشرع في استكمال البحث لأن هذا التحليل رغم صحته في الجملة تعليله غير مبني عقليا. والقصد بـ”غير مبني عقليا” لا يعني أن تفكير الغزالي وابن تيمية وابن خلدون ينقصه العقل بل يعني أن الوصلات المنطقية بين عناصره تعتمد على الحدس والقفز التحليلي كالحال في فكر المبدعين الذين يرون المقدمة ويقفزون إلى النتيجة بحدس المبدعين وليس بتحليل الاكاديميين بحثا عن العلة وبنتها. توجد فراغات بين المقدمة والنتيجة وسدها هو وظيفة البحث العلمي الذي قد يؤيد التنجية وقد يدحضها وقد يعدلها بصورة تجعلها ذات بناء عقلي نسقي هو شرط الاطمئنان إليها. وهو ما يقتضي نوعا ثانيا من الإبداع وظيفته وضع نظريات تصل بين المقدمات والنتائج وصلا له أساس في طبائع موضوعات البحث. وما كنت لأعود إلى الغزالي وابن تيمية وابن خلدون لو كنت أصدق أن النظريات التي تزعم حديثة في فلسفة السياسة مقنعة أكثر مما وضعوه أو تفضله. والامر الذي يرفضه خصومي هو دعواي أن هؤلاء رغم ما وصفت من نقصان البنية النظرية في فكرهم يفضلون بكثير ما يدعى حداثيا أو حتى ما بعد حداثي. وما كنت لأقف هذا الموقف لو كنت ممن تنطلي عليه الموضة. فالكثير من الذين يعتبرون كلامي على الغزالي وابن تيمية وابن خلدون يتهمون محاولاتي بكونها ماضوية. لكنك تراهم يتقافزون على محاولات غربية تعود إلى ما قبل الميلاد بخمسة قرون ويسمون ذلك فتحا. حياة فكر اليونان وموت فكرنا علتهما عنصرية. ولهذه العلة كتبت محاولة في الابستمولوجيا اليونانية لبيان كذبة المعجزة اليونانية. ولم يكن ذلك بالأمر العسير. فأولا كان يكفيني الاعتماد على حجة “شهد شاهد من اهلها” فهذه الكذبة لم يقل بها اليونان أنفسهم-أفلاطون وأرسطو يشهدان بعكسها-بل هي بنت محاولة مقابلة عنصرية بين الشرق والغرب. وهذه المقابلة أرفضها حتى لو اعتبرت الشرق أفضل من الغرب. فعندي أن وظائف الحضارة كوظائف الدولة كونية ولا تخلو منها حضارة. وكان إذن علي أن احدد هذه الوظائف كما حددت وظائف الدولة العشر. فالحضارة هي كل ما يصنعه الإنسان من أدوات ومؤسسات وعلى رأسها الدولة لعلاج شروط بقائه ماديا وروحيا. وما يمكن أن يوجد من فروق بين حضارتين عند مقارنة مرحلتين مختلفتين لا يختلف عما يوجد بين هذين المرحلتين في نفس الحضارة: إذا قارنت حضارة زراعية بحضارة صناعية لن يكون الفرق بينهما مختلفا عن الفرق بين المرحلتين الزراعية والصناعية في نفس الحضارة. إن فرق بين المراحل لا بين الحضارات. وهذا أول اسرار عبقرية ابن خلدون الذي جعل علمه “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني” علما كونيا لا يميز بين مسلم وغير مسلم بل الأمر يتعلق بالحضارة عامة ببعديها العمراني (سد الحاجات المادية) والاجتماعي (سد الحاجات الروحية) وهي واحدة عند الجميع في مستوى بشريتهم وإنسانيتهم. خرافة الشرق شرق والغرب غرب خرافة إيديولوجية عنصرية لا أساس لها في فهم التاريخ الكوني للحضارات التي لا تختلف بما هي حضارات لأن ما بينها من فروق ينتج عن مقارنة مراحل مختلفة بينها وليس مقارنة بين الحضارات. وهذه الفروق عينها موجودة بين مراحل نفس الحضارة لو قورنت.