) في البحث في كورونا الباطنية أولا (الفصل الرابع) ثم كورونا الماركسية ثانيا (الفصل الخامس) لأبين كيف أن المدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) حاولت في الماضي تحرير فكر الأمة الأولى ولم تفلح لأنها بقيت سيدة الموقف وأن فيروس الباطنية تضاعفت في عصرنا بالماركسية لتقاسما النخب الإسلامية عامة والعربية خاصة
ولا بد من العلاج.
وهو ما اعتبره مهمتي الأولى في استكمال جهد المدرسة النقدية.
فواضح لمن يحسن التأويل أن للداءين علاقة مباشرة بنظرية ابن خلدون في “حب التأله” فالرجل بلغ الذروة في التشخيص الذي شرع فيه الغزالي بنقد الفلسفة القديمة وعمقه ابن تيمية في الثورة التي ادخلها على فلسفة النظر وأتمها هو في فلسفة العمل.
فحب التأله في الباطنية كما وصفه ابن خلدون مضاعف لأنه يتأسس على نظرية الأيمة المعصومين في النظر والعقد (معرفة الغيب للقطب الصوفي) وفي العمل والشرع (للإمام الحاكم).
ان حب التأله الماركسي لم يكن بوسع أبن خلدون الكلام عليه. وهو حب تأله أوضح من الذي مثلته الباطني لأنه غني عن التقية التي تستعمل الدين بمعناه الفولتيري.
فالباطني ملحد في الحقيقة لكنه يستعمل التقية.
أما الماركسية فهي لا تخفي نفي الأديان ونفي وجود الرب.
ومع ذلك فهي تعوص الأديان بالإيديولوجيا الماركسية. وتعوض الله بتأليه الطبيعة والإنسان. وتعوض الكنيسة بالحزب. واللاهوتيين بالنومكلاتورا. وتعوض الحكم بالحق الإلهي بدكتاتورية البروليتاريا.
والحزب الشيوعي كنسية معلمنة. ودكتاتورية البروليتاريا حكم بالحق الإلهي معلن.
وقد جمعت النخب العربية التي تدعي الحداثة بين العلمانية الماركسية والعلمانية الفرنسية. والمشترك الأساسي والأعمق بين الباطنية والماركسية هو علاقتهما المتينة بما يسمى بوحدة الوجود سواء كانت تدعي روحانية عند الباطنية ورمزها علاقتها بالتصوف المتفلسف -وهذه أيضا عرضها ابن خلدون يا له من رجل -أو طبعانية عند الماركسية ورمزها علاقتها بالفلسفة المتصوفة أو وحدة الوجود الطبعانية عند سبينوزا.
والمعلوم أن هيجل حاول تعديل وحدة الوجود الطبعانية عند سبينوزا بما أراد أضافته إليها من “تذويب” يجعل الجوهر ذاتا أي روحا -Geist-يتصالح مع الطبيعة فيحل فيها وفي الإنسان وبذلك يتحد نوعا وحدة الوجود أو حب التأله بالمعنى الخلدوني الذي يعتبر ذلك اصلا للاستبداد ومن ثم أصلا لفساد “معاني الانسانية” الذي ينسبه ابن خلدون إلى الاستبداد في التربية وفي الحكم وهما بعدا السياسة التي تترتب على فيروس حب التأله.
وفيروس حب التأله طبيعي في الإنسان لكنه مناف لحقيقته التي يعرفه بها ابن خلدون فيعتبره “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
وبيان هذه العلاقة يغير بصورة جذرية أوهام الحداثيين العرب الذين يجهلون علاقة ما يسمونه حداثة بما بين الفلسفة والتصوف والدين والسياسة من روابط تنفي ما يتوهمونه من قطيعة بين العصور الوسطى والحداثة.
فهيجل وماركس في دعواهما تجاوز فلسفة كنط نكصا إلى الثيولوجيا ووحدة الوجود اللتين سادتا في القرون الوسطى.
وقد خصص ابن خلدون لهذه العلاقات وقبله ابن تيمية والغزالي محاولات نقدية بينوا فيها ما نحن بصدده أعني ما بين الباطنية والوساطة الروحية والوصاية السياسية من علاقات وطيدة ومن اليسير بيان أن نفس هذه العلاقات هي المسيطرة على الهيجلية والماركسية سيطرة يقدرها من يطلع على دروس هيجل في فلسفة الدين.
وقد نقلتها إل العربية كاملة مباشرة عن أصلها الألماني حتى يتبين لأنصاف المثقفين أن الهيجلية ليست فلسفة بل علمنة للمسيحية وأن الماركسية ليست فلسفة بل علمنة لليهودية.
فيتبين أن أدعياء الحداثة-وخاصة من يجهل منهم هذه المعطيات ومن لم يفهم أن ما حاول الإسلام علاجه من تحريف للمسيحية واليهودية هو عينه ما أعاده هيجل وماركس بصوغه فلسفيا عن طريق وحدة الوجود سواء كانت روحانية بالمعنى الهيجلي أو طبعانية بالمعنى الماركسي كما يتبين من محاولة هيجل تعديلها في نصها السبينوزي-ضاربون في القدامة إلى الأذقان. فنفي ما وراء عالم الشهادة-مشترك بين هيجل وماركس اللين يردان التاريخ الإنساني إلى التاريخ الطبيعي.
وكل القائلين بوحدة الوجود قائلون بالتأله حتى وإن أعطوه دلالة إيجابية بدعوى التمض للعبادة.
ونفي ما وراء العالم أو ادعاء أن الحكم النهائي هو التاريخ (هيجل) هو القسورة التي يحبس البشر عندما يتحولون إلى حمر مستنفرة دائما. والكثير من القائلين بوحدة الوجود لا يخفون القول بفتوة ابليس معتبرين عصيانه الأمر عبادة.
وهم يؤمنون بالفتوة التي هي عين مفهوم “حب التأله” في التحليل الخلدوني وهو يعتبره جوهر الاستبداد وملازمه الفساد المرادف لفساد معاني الإنسانية حتى قال إن الحكام يطبقون على أنفسهم دليل التمانع. ومعنى ذلك أن الحكام يتأله لما يستبد بالأمر وينفي الشريك في الحكم مثل الله.
هذا تمهيد للكلام على العدوى الفكرية القديمة التي سيطرت على فكرنا الماضي -الباطنية وهي ما اعتبره أصل الفتنة الكبرى وعلة تحريف علوم الملة كلها. وقد عجز القدامى على علاجها رغم مساهمة المدرسة النقدية.
فبقيت علوم الملة كلها دون القدرة على تحرير حصانتنا الروحية والإنسانية من الوساطة والوصاية. ثم تضاعفت بالماركسية المسيطرة على فكرنا الحديث بنفس المعنى ولكن هذه المرة بإلحاد ماركسي صريح.
فالباطنية هي علة الفتنة الكبرى التي أرادت أن تعيد الوساطة والوصاية بالنظام الثيوقراطي وحصر الوجود في عالم الشهادة مع استعمال الدين بمعناه عند فولتير تقية لحكم العامة. والماركسية هي علة الفتنة الصغرى التي علمنتهما بالنظام الانثروبوقراطي مع استعمال الإنسانية تقية عند المافيات.
وهما يشتركان في البنية العميقة التي هي النظام الأبيسيوقراطي أو نظام دين العجل بمعدنه (المال) وبخواره (الايديولوجيا).
والآن أبدأ الكلام على الباطنية وكيف أفسدت كل محاولات الأمة في سعيها لبناء المؤسسات التي يقتضيها فهم نظرية النظر والعقد لعلاج المهمة الأداتية التي لا بد منها لتحقيق مهمة الاستعمار في الأرض كما حددها القرآن ونظرية العمل والشرع لعلاج المهمة الأداتية التي لا بد منها لتحقيق مهمة الاستخلاف فيها كما حددها القرآن الكريم: فحرفت المؤسستين عامة بإعادة الوساطة في التربية والوصاية في الحكم رغم أن القرآن صريح في الغائهما.
فالقرآن بوصفه رسالة تذكير ليس هو إلا تذكيرا بما رسم في ما فطره الله عليه من قدرة على النظر والعقد ليعالج علاقته بالطبيعة مصدر حياته بالعمل على علم بقوانينها بفضل البحث العلمي الذي يدعو إليه القرآن وحدد مجال البحث العلمي.
فمجاله قراءة آيات الله التي يرينها في الآفاق وفي الأنفس لتبين حقيقة القرآن (فصلت 53) من حيث هو رسالة تذكير بمهمتي الإنسان في عالم الشهادة لاختبار أهليته للاستخلاف أي الاستعمار في الارض (تعميرها بعمل على علم بقوانينها) والاستخلاف فيها (تنظيمها على علم بسننها).
لكن ما حصل في علوم الملة هو العكس تماما. فالقرآن يقول إن تبين حقيقته يكون برؤية آيات الله في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الأنفس (ما في كيان الإنسان من عضوي ومتجاوز للعضوي) وعلوم الملة جعلته تأويلا لنصه بردها إلى ما ظنوه علما فرضته مدرسة الاعتزال التي هي بداية التنظير الباطني في الإسلام ودكتاتورية الدولة في عهد المأمون: وهما نوعا حب التأله تأله معرفي وتأله سياسي.
ومن بقاياه في عصرنا ما يسمى بالإعجاز العلمي.
فهو بديل عقيم من البحث العلمي الذي يوجه إليه القرآن باعتباره شرط الاستعمار في الأرض.
لكن أصحاب الاعجاز العلمي يتصورون القرآن صندوق آلات جاهزة ويكتفون بتأويل النصوص بديلا من البحث في العلمي في الطبيعة وفي التاريخ وفي كيان الإنسان الطبيعي والتاريخي.
لكن تأويلهم بعدي دائما أي إنهم ينتظرون ما يكتشفه العلماء الباحثون بحق في الآفاق وفي الانفس ثم يزعمون أنهم يجدونه بمجرد تأويل الآيات النصية وتلك هي خرافة الاعجاز العلمي في القرآن.
وهو دجل وكذب محض يحط من منزلة القرآن.
والغريب أن القائلين بهذه الكذبة يتوهمون أنهم بهذا الدجل المفضوح يرفعون من شأن القرآن ولا يدرون أنهم يلغون أهم مميز له أعني كونه سرمديا فوق المكان والزمان.
فلو كان ما فيه علوما لصار القرآن تاريخيا ولصدق حكم العلمانيين بأنه لم يعد صالحا لأن ما فيه من علوم مزعومة تجاوزها التاريخ. فيكون القرآن قد فقد صلوحيته في الحاضر ناهيك عنه في المستقبل لأنه لا يوجد علم سرمدي بل كل علم تاريخي.
يزعمون تمجيد القرآن فإذا بهم يبحثون عن حجج تؤيد ما يقوله الملحدون: وهذا هو عين الحمق.
وقد حذرت آل عمران 7 من تأويل المتشابه.
والمتشابه هو كل ما لا يفهم مباشرة مما يتعلق بعالم الشهادة. فالفهم المباشر لما هو من عالم الشهادة هو المحكم. وكل ما عداه متشابه. فما لا يفهم مباشرة حدده القرآن بكونه ما يتكلم في الغيب كذات الله وصفاته والبعث والحساب في الآخرة.
فإذا بهم يعكسون فيدعون أن الراسخين في العلم قادرون على التأويل ويعطفون تأويلهم على تأويل الله ذي العلم المحيط يجعلون “و” الآية عطفية بدلا من كونها استئنافية.
وتأويل المتشابه أي ما لا يفهم مباشرة لكونه متعلقا بالغيب وليس بعالم الشهادة يعتبره القرآن دليل زيغ القلوب وابتغاء الفتنة. والفتنة الكبرى كان ممثلوها أكثر الناس استعمالا للتأويل.
وكله تحكمي كما بين الغزالي في فضائح الباطنية وسخر منه بقلب كل تأويلاتهم إلى نقائضها. الباطنيون جمعوا بين التأويل التحكمي ورد معاني القرآن إلى ما يعتبرونه علما عقليا نهائيا.
ولهذه العلة فإن أصل كل تخريفهم وخاصة المعتزلة منهم هو القول بالمطابقة بين علم الإنسان والوجود في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة.
وإذن فالباطنية وكل علوم الملة التي أصابها فيروسها تقول بالإعجاز العلمي بواسطة التأويل التحكمي للآيات النصية. وهذه الظاهرة التي هي عدوى أصابت علوم الملة لما صارت تعتقد أن الفلسفة علم وأن معرفتها عقلية وهي مطابقة لما يسمونه واقعا أثبته العلم لكأن علم الإنسان صار محيطا حتى إن كل التأويلات التي يتصوروها علمية وعميقة لم تتجاوز التصور العامي للفلك والطبيعة والتاريخ وعلم النفس.
والعلة بديهية.
فهم يعتقدون أن الفكر الإنساني مرآة عاكسة لما يعتبرونه حقيقة الوجود عكسا أمينا بحيث إن العقل صار عندهم حديدا والوجود شفافا فيحصل التطابق بين علمنا والوجود وبين إرادتنا والمنشود.
وهو المبدأ الذي نفاه ابن تيمية وابن خلدون معتبرانه الوهم الاكبر في علوم الملة وعدوى عامة لما يعتقد علما عقليا.
وكلاهما ينفي المطابقة بين العلم والموجود وبين الإرادة والمنشود لأن ذلك يتنافى مع تاريخية العلم ومع وجود الغيب.
وإذن فأول مشكل هو نظرية المعرفة التي تقول بالمطابقة بين ما ندركه من الوجود وحقيقته. فعلم الإنسان ليس محيطا مثل علم الله.
وتوهم الإحاطة العلمية والقدرة العملية هما المعنى الأول للتأله وهو علة الاستبداد المعرفي والقيمي. ذلك أن الأمر هو نفسه في نظرية القيمة.
فالقول بالتحسين والتقبيح العقليين يعني أن تقييم الإنسان مطلق ومغن عما يتعالى عليه. وهذان التألهان هما جوهر الفكر الاعتزالي.
وفي الحقيقة فالاعتزال هو خوارج السنة في النظر وما يترتب عليه في العمل مثلما أن خوارج الشيعة كانوا في العمل وما يترتب عليه في النظر. وكلاهما من المفعول الجانبي للباطنية.
ومثلما أن هؤلاء هم أول من أطلق رؤيته العملية ومارس الاغتيال المادي في المساجد أي في مراكز التربية فكذلك فأولئك هم أول من أطلق رؤيته النظرية ومارس الاغتيال في الديوان أي في مراكز الحكم: بداية ظهور مفعول فيروس الباطنية قبل أن تصبح مليشيات ودول يقال للحاكم فيها (ابن هاني في مدحه لمن يسمى نفسه المعز لدين الله الفاطمي): “فاحكم فأنت الواحد القهار”.
وتلكما هما كلتا العقيدتين الاعتزاليتين اللتين هما الشكل العلني والصريح لبداية الفكر الباطني والمذهب السائد في الفكر الشيعي والخارجي رغم أنه الفكر الخرافي الأشد في كل شيء. والأمر طبيعي: فهم يستعملون ما يسمونه “عقلا” لتأسيس ما يلغيه أي ما يسمونه علما لدنيا.
وهو كذب صريح لا علاقة له بالعلم. فلا علم إلا بما جهزنا به حسيا وعقليا بما في ذلك علم الرسل لأنهم مجتهدون وليس عالمين بالغيب.
فحتى الرسل فإنهم لا يعلمون الغيب إذا لم نخلط بين الغيب والغائب. فالغائب يعلمه الرسل لصفاء أذهانهم ولما ميزهم الله به من قدرة على التحليل والفهم.
لكنه ليس الغيب الذي لا يعلمه إلا الله بوصف علمه محيطا وإرادته مطلقة لأنه هو الخالق في الطبيعة والآمر في التاريخ. ومن ثم فالوحي لا يتضمن علما بالغيب وإن تضمن بالغائب.
ولو يتضمن الغيب لما كان رسالة تذكير بما يعلمه الإنسان ما يستثني الغيب لوجود الأمر الصريح بضرورة الإيمان به فرض عين.
وهذا يلغي نهائيا الوساطة الروحية (فلا الأيمة ولا المتصوفة يعلمون الغيب) والوصاية السياسة (لا سلطة للأمة لغير الامة نفسها وقيم القرآن وتفسيرها النبوي أو السنة) وكل دعوى تتجاوز ذلك منافية للشورى 38 التي تجعل الامر أمر الأمة وتجعل تسييره يكون بالشورى فرض عين على كل مستجيب لربه.
وإذن فالتربية والحكم كلاهما اجتهاد في النظر والعقد وجهاد في العمل والشرع كلف به الإنسان وعلى عمله فيهما يحاسب يوم الدين.
فلو كانا موجودين في القرآن لما بقي معنى للحساب على جهد يغني عنه شرح الألفاظ.
وحتى أواصل الكلام بما يبدو استعارة من مفهوم الفيروس خارج مجال الحياة والبايولوجيا والطب العضوي فلا بد من التوكيد على أن الفيروس يمكن أن يكون متعلقا بالفكر والطب الروحي. ويمكن أن يكون ما يحصل في الإعلامية مساعدا على فهم ذلك: فالفيروس يصيب “السوفت وار” والفكر “سوفت وار” الإنسان. ما يصيب الإنسان من فيروسات لا يقتصر على بدنه بل يمكن أن يصيب روحه.
والقرآن يقدم حماية الروح على حماية البدن وحتى أفلاطون فإنه كان يقول بنفس التقديم.
وأذهب إلى ما هو أبعد من مجرد المقارنة بين البدني والروحي.
فالفيروس الذي يصيب “السوفت وار” الإنساني أي الفكر أخطر ألف مرة من الفيروس الذي يصيب كيان الإنسان العضوي. فهذا سرعان ما يتجلى مفعوله في حين أن ذاك مفعوله دبيب من جنس لامتناهي الصغر الذي لا يتجلى أثره إلا بعد أن يسبق السيف العذل. ولذلك فعلاجه أعسر من علاجه. ويمكن القول إن الحصانة الروحية أعسر تحقيقا من المناعة العضوية.
وإذا كان البدن يحتاج إلى تقوية مناعته العضوية فإن الفكر أحوج إلى تقوية حصانته الروحية.
ومن ينكر أن الشعوب تغزى ثقافيا بصورة أخطر من الغزو المادي لأن هذا قابل للرجع لكن ذاك إذا حصل بات علاجه شبه مستحيل فهو جاهل بالاستراتيجيا التي تستعملها الشعوب في تنافسها وحروبها النفسية والفكرية.
ولعل ابرز مثال على ذلك أن الاحتلال الإيراني لا يكتفي بالأرض بل يضرب الأرواح بالتشييع والباطنية بدأت بإيران نفسها: فقد كان شعبها سنيا قبل الدولة الصفوية. وهي تعمم ذلك في العراق وسوريا واليمن ولهم جرا…
ويكفي أن نتابع ما يحدث في العراق. فالبلد كان شبه علماني حتى إن الشيعة فيه كانت أكثر سكانه تمركسا وتبعثا.
وإذا هم الآن سرعان ما عادوا إلى الخرافات الشيعية في أقل من عقدين فصاروا لا يعيشون إلى بالمناحات والمنادب والاستعمال لهذيان أكثر رجال الدين دجلا وجهلا في تاريخ البشرية لكثرة كلامهم على معجزات الأيمة التي لا يصدقها حتى الأطفال الرضع.
وقد رأيت المصريين وفي سوريا في مدافن التشيع -زينب والحسين مثلا-في أوضاع لا يمكن أن يقرها مسلم حتى لو كان عاميا لأنها وثنية خالصة. والعراق صار جبانة وعبادة أوثان لغالبية الشيعة.
كل الشعوب الحرة تعتبر الحصانة الروحية احوج للرعاية من المناعة العضوية بسبب خفاء التأثير وجل خدمات الاستعلام والأعلام متعلقة بأفعال الفكر وبثمراته للسيطرة على الإنسان فردا وجماعة.
واستعمال الفيروسات الفكرية التي تصيب “السوفت وار” الإنساني أقوى سلاح تستعمله أمريكا في حروبها وهي على صنفين: تثمين النموذج الأمريكي وترذيل النماذج المنافسة.
فما أسقط الاتحاد السوفياتي ليس التفوق التسليحي مثلا ولا حتى التفوق الاقتصادي الأمريكي وإن كان لهما سهم بل خاصة ما يسمى بـ”الحلم الأمريكي” الذي ابعد الشعوب عن الولاء للأنظمة السوفياتية.
وهو أهم سلاح صنعته هوليوود. هوليوود مصنع للفيروسات الفكرية والروحية.
وأفسد أشكال الفيروسات الفكرية عندنا هي من جنس “صوت العرب”: تهديم ذاتي بنموذج فاشل وكاذب إذ جل بلاد العرب أفلست بسبب هذه الأكاذيب التي عوضت العمل المنتج والعلم المبدع بالدولة الحاضنة وتقاسم الغالبية الفقر والجهل حتى تعيث الأقلية فسادا في الأرض وسفكا للدماء..
الإعلام العربي عامة وخاصة المصري والسعودي والإماراتي -والبقية لا تشذ إلا بقلة الموارد-مصنع الفيروسات التي تؤدي إلى “استحمار المواطن” ليصدق ما لا يصدقه حتى “بوسعدية” وهو أقرب ما يكون لمرجعيات الشيعة التي جعلت شعبها عامة ورعاع يصدقون أي شيء حتى يتفرغ الاخبث من نخبها لمص دمهم ودم الشعوب من حولها فسادا في الارض وسفكا للدماء.
وأعلم أن دجالي العقلانية سيتهموني بما يسمونه نظرية المؤامرة-لكأن ما تفعله الشعوب المتنافسة بعضها بالبعض خفي فيسمى مؤامرة وهو بمرأى ومسمع الجميع لو قلت إن امتنا أصيبت بحرب فيروسية للسوفت وار الإنسان من أخبث أربعة شعوب على الإطلاق في تاريخ البشرية: إيران وروسيا وإسرائيل وأمريكا.
ولا يختلف الثانيان عن الأولين إلا بكونهما يقدمان العالم اللطيف على العامل العنيف في لعبة الحرب على الحصانة الروحية.
ذلك أن إسرائيل وأمريكا اكتشفا أقوى حامل لفيروس الحرب على الحصانة الروحية: إنه استغلال حمق القيادات العربية التي هي مجرد دمى منذ سايكس بيكو الأولى وخداع لاورنس.
وهم يستعملونهما الآن في مشروع سايكس بيكو الثانية. ولعل أبرز ممثلها ما برز منها بعد الثورة مثل السيسي في مصر وبشار في سوريا وصاحب المنشار في السعودية وحفتر في ليبيا ورئيسنا في تونس وهلم جرا: فهؤلاء هم السهم الحاملة للفيروسات التي يصنعها كل من يستهدف الأمة.
وإذا عدت إلى الفيروس الباطني الذي يمثله عامة ما يسمى بالتصوف المتفلسف -وهو غير التصوف الزهدي الذي لا يدعي أصحابه غير المجاهدتين السنيتين أي مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة (راجع ابن خلدون: شفاء السائل) -فإن أوضح أكاذيبهم التي تزعم فلسفية كتاب الكرماني في راحة العقل وهو كتاب في رد الألوهية الى العدم المحض ولا تختلف عنه رسائل اخوان الصفا. وقد خصصت للأخيرة تحليلا معمقا في القيم الأول من رسالة الدكتوراه (النظام الفرنسي القديم).
وهل بالصدفة أن أحيا الـأمريكان والأنظمة العربية التابعة لهم كل حركات التصوف التي تجعل الحكام ظل الله في الارض فيجتمع نوعا الاستبداد والفساد لحكم العباد بجعل الطغاة بديلا من رب العباد؟
وكل من له دراية بالمرحة المنحطة من فكر اليونان المتأخر يعلم أن ما يظن عمقا في تصوف ابن عربي هو من سقط المتاع فيه.
والأدهى أنه يدعي أنه تلقى ذلك وحيا في مكة وأنه خاتم الولاية واللبنة الذهبية التي تأتي فوق الرسول الخاتم بوصفه لبنة فضية. ومرة أخرى فإن ابن خلدون خصص فصلا بين فيه أن التصوف الذي يدعي التفلسف مصدره باطنية التشيع العراقي وتأليه الأيمة وجعل العامة عبيدا لهم بدل عبادة رب العباد.
فمن أفشل الثورة المصرية هو العسكر في الظاهر. لكن الحقيقة أعمق من ذلك. فأكثر من نصف الشعب المصري مع العبودية لأنه مستبعد من دجالي التصوف والتشيع ومن جامية السلفية التي توظفها الاستعلامات والداخلية ثم حقد نصاراها وعلمانييها على الاسلام.
لذلك فالحرب ظاهرها على الاخوان وباطنها على الإسلام. وهذا الامر ليس مقصورا على مصر بل هو شامل لجل بلاد الإسلام.
آليت على نفسي أن أبحث في هذه الأعماق التي تفسر تاريخنا ماضيه وحاضره والثورة هدفها أن تعالج أدواء الامة فتحررها من هذه الفيروسات الروحية التي هي أخطر من الفيروسات العضوية.
وقد اخترت فرصة الكورونا لأتكلم في المسألة وبيان وجه الشبه بين المناعة العضوية والحصانة الروحية: والنصر بيد الله وبعونه.
وحصيلة ما نتج عن فيروس الباطنية التي صارت الآن حلفا بين المافية الصفوية والمافية الروسية وما نتج عن فيروس العلمانية التي صارت الآن حلفا بين المافية الصهيونية والمافية الأمريكية في بلاد العرب ناهيك عنهما في غيرها فإن عدد الضحايا لا يقل عن ضحيا أي فيروس بايولوجي. وكله بتمويل الأنظمة العربية العميلة.
وهو ليس بتمويلها فحسب بل إن منطلق الحملات هو عين القواعد التي يحتمي بها حكام العرب من شعوبهم والدافع لذلك هو التنافس بين الأنظمة العربية. فحكام مصر والسعودية أرادوا كما أرادت إيران الحرب على العراق تقريبا كما يفعلون الآن للحرب على تركيا أو حتى على قطر على صغر حجمها وقوتها.
ويمكن القول إن نفس الداء كان بين نظام القذافي ونظام تونس وكذلك بين نظام المغرب ونظام الجزائر وبين البعث العراقي والبعث السوري وهلم جرا من الحروب الاهلية التي تعود كلها إلى فيروس الباطنية بتقية القومية وفيروس الماركسية بدعوى الاشتراكية أو بالدولة الحاضنة مؤبدة الفقر والتخلف.
ولو كان الأمر متعلقا بالتنافس من أجل تحقيق شروط التنمية العلمية والتقنية أو بشروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية لكان تنافسا حميدا لأنه كان سيحقق عكس ما يجري لأن نوعي الشروط يقتضيان حجم الأحياز الـخمسة أي توحيد الجغرافيا والتاريخ للزيادة في الثروة والتراث وتوطيد وحدة المرجعية.
فما بين ألمانيا وفرنسا مثلا من الحروب ما لا يحصى ولا يعد ناهيك عن كون الاخيرتين كانتا عالميتين ومع ذلك فنخبهما فهمت أن العصر هو عصر العماليق في مجال التنمية العلمية والتقنية وفي مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية فقررا أن يكونا نواة الوحدة الأوروبية التي تنوي استرداد قوة روما.
واسترداد قوة روما يعني رمزيا استرداد عدوة قرطاج أو حتى استرداد قوة حملات الاسترداد التي لم يحمينا منها غير اسطول الخلافة يعني محاولة السيطرة على الضفتين الشرقية والغربية وما بينهما أي الضفة الجنوبية من الأبيض المتوسط من جديد. وهو ما يفهمنا سعيهم لتعطيل تركيا لما حاولت حماية حقها وحق ليبيا منه. فكان أعدى أعدائها عرب الخيانة والعمالة لعدم الوعي. فمن يقرأ الحاضر يفهم الماضي ومن يتدبر الماضي يفهم الحاضر في حرب الفيروسات التي تستهدف حصانة الامة الروحية.