كورونا مرة ثانية – في العلاقة بين الطبيعي والحضاري


ترى هل ستكفي كورونا لتفهم البشرية النساء 1 والحجرات 13 فتغير موقفها من الإسلام الذي يعتبر البشر أخوة لأنهم من نفس واحدة (النساء 1) ومدعوون للتعارف معرفة ومعروفا لأنهم متساوون فلا يتفاضلون بالعرق ولا بالطبقة ولا بالجنس بل بمعيار وحيد هو منزلتهم عند ربهم التي تحددها التقوى والأخلاق (الحجرات 13)؟

أعلم أن الكثير ممن يتوهمون أنفسهم علماء يحكم الاعتبار بالأحداث الطبيعية عامة ومنها الأمراض خاصة متصورين أن إضفاء دلالة خلقية وروحية على تأثيرها من الأمية عند المؤمنين بالأديان وما تدعو للاعتبار به. وطبعا قد يكون كلامهم محقا إذا فهم الاعتبار بمعناه المباشر تأويلا للأحداث الطبيعية.

سأنتهز فرصة كورونا لأبين أن الاعتبار بالأحداث الطبيعية ودلالتها بالنسبة إلى مصير الإنسانية لا ينبغي أن تضحك أدعياء العلم والحداثة لأن ضحكهم دليل على بساطة رؤاهم وسخفها.
ذلك أنهم لا ينكرون أن قيام الإنسان العضوي والروحي ليس بمعزل عما يجري في الطبيعة: فمنها غذاؤه ومنها نفسه وبقاؤه.
ولو يتغير الطقس بحد معين لأصبحت الارض غير قابلة للسكنى.

فهل ترى ذلك يكون من دون تأثير متبادل بين الحضارة والطبيعة؟
والقصد بالحضارة جملة أفعال الأنسان التي يضيفها إلى الطبيعة.
هل تلويث المحيط الطبيعي مؤثر أم غير مؤثر في الإنسان؟
أليس ما يحدث فيها شبه رد فعل منها على ما يدخله عليها مما يتوهمه من شروط حياته وبقائه وقد يكون مفعولها عكس ذلك تماما؟
وهل تلويث المحيط الثقافي مؤثر أم غير مؤثر فعلا ورد فعل أم لا؟

ما يحدث للإنسان من حيث شروط بقائه العضوي في علاقة بتلويث الطبيعة وشروط بقائه الروحي في علاقة بتلويث الحضارة هما إذن الوسيط بين ما يحدث في الطبيعة وما يحدث للإنسان فتكون هذه العلاقة من علل الأمراض مثلا؟
وما يتناساه ادعياء العلم والحداثة عندما ينفون الاعتبار بما يجري في الطبيعة وتأويله هو ما له من دلالة مهمة جدا.

مم يسخر المتعالم والحداثي من التأويل الشعبي المباشر لما ما يجري في الطبيعة واعتباره دليل غضب إلهي أو عقاب على جرائم بعض البشر؟
فهل هم بهذه السخرية يجعلون فكرهم علميا وحداثيا كما يتوهمون؟
أليس في ذلك اضعاف لأحد أسباب المناعة الروحية للجماعات والقدرة على الصمود أمام النكبات مع ما قد يترتب عليه من تجنب التلويث المادي والروحي للطبيعة والحضارة؟

فما يبدو كذلك عند العامة وعند ناقديها ممن يدعون أنهم خاصة فيحتجون بالعلم والحداثة.
لكن الامر يختل إذا تجاوزنا الفهم المباشر. أذكر أني خلال مقامي في كوالالمبور سمعت كلاما كثيرا عن التسونامي الذي حدث حينها وعن صمود المساجد وتأويل التسونامي على أنه عقاب على فساد استثنيت منه المساجد الاسلامية.

وطبعا فهذا من الفهوم المباشرة لعلاقة حدث طبيعي بدلالة خلقية وروحية.
لكن فلننح التأويل المباشر ولننظر في الأمر بجد.
ولنأخذ المجرى الطبيعي والمجرى الحضاري بوصفهما مجريين متوازيين ولنسأل هل يمكن أن يكونا غير متبادلين التأثير والتأثر؟
هل التلوث الذي وصل إلى حد عسر التنفس في الصين لا يحدث “هشاشة” عضوية عند الإنسان؟
أليس لهذا علاقة بين حدثين طبيعي وحضاري ينتج عن تفاعل هو هشاشة الطبيعي في الإنسان؟

وإذا أخذنا تنظيم النسل في الصين وما ترتب عليه من انعكاس النسبة بين الشيخوخة والشباب ألا يؤدي ذلك إلى هشاشة ديموغرافية تجعل أي مرض أكثر تأثيرا عندهم منه عند الشعوب التي تنعكس فيها نسبة عدد الشباب إلى عدد الشيوخ؟
وهل يعتقد أحد أن المرض وهو طبيعي لا يتفاعل مع ما حضاري في تنظيم النسل؟

كلامي على كورونا في الصين وفي إيران أشرت فيه إلى عامل الزحام في الصين وعامل المتعة والتقرب للأضرحة في إيران وما يجمع بينهما من تلامس يساعد على الانتقال السريع للعدوى كانت محاولة لوصل أمرين أحدهما طبيعي والثاني ثقافي في الحالتين. بيان العلاقة بين البايولوجي والانثروبولوجي يؤكد العلم ويعمق التفسير العقلاني للظاهرات ولا ينفيه.

فمثلا لماذا كان انتشار كورونا في المناطق الأثرى في إيطاليا أكثر وأسرع منه في الأماكن الأفقر؟ أليس لأن الاماكن الأغنى عادة ما يكثر فيها من يصل إلى أرذل العمر بسبب الرعاية الصحية والغذاء المفيد فتكثر فيهم الهشاشة العضوية وفيروس الكورونا يؤثر في الشيوخ أكثر من تأثيره في الشباب؟
وما علاقة ما يجري في أمريكا بالبدانة مثلا؟
نفس المشكل: مشكل العلاقة “طبيعة حضارة”.

هل العادات الغذائية وعادات السلوك الجنسي وعادات تعاطي المخدرات والمسكرات وعادات النظافة وعادات التعامل مع المحيط ليست أمورا حضارية مؤثرة في الطبيعة؟
هل يحق لنا أن نهمل رد فعل الطبيعة عندما تتدخل الصناعات في تحويل الأغذية تحويلا قد يجعلها تصبح سامة تأثيرا لامتناهي الصغر فلا ندرك مفعوله إلا بعد فوات الفوت؟

إذا أدخلنا هذه العوامل ولم نأخذ كلام الشعب على العلاقة بين ما يجري في الطبيعة والمعتقدات على عفويته سنكتشف أن كلام العامة أكثر قربا من العلم من كلام ادعياء العلم والحداثة ممن يسخرون من القول إن للأمر صلة بما يتجاوز تفسير عالم الشهادة وكأنه منفصل عن عالم الغيب بل بينهما تبادل.

فلو أخذت آية تدمير القرى عندما يفسق المترفون.
لو قرأتها مباشرة لجاز لأدعياء العلم السخرية من فهمها الشعبي.
إنها في الحقيقة كلام على ما حاولت تحليله.
فالكورونا مثلا ليس عقابا مباشرا للمترفين بل إن تأثيرها يتحدد بما بين الطبيعة والحضارة من تفاعل لا يقتصر على الفاعلين بل يشمل الجميع. وهل يمكن فهم الرعب الأوروبي الحالي من كورونا دون وصله بعلة أعمق هي مشكل الديموغرافيا والخوف على الهوية بالشيخوخة وما يكاد يكون توقفا عن التكاثر؟

فمن يلوث الطبيعة ماديا ومن يلوث الحضارة روحيا ليسوا الجميع.
لكن ما يترتب على التلويثين يشمل الجميع. وهو يوحد الكرة الأرضية بل والمجرة كلها فيكون الفاعل قليلا والمفعول به كثيرا ومن ثم فالتهديم يتأصل في التعمير الذي هو فساد في الأرض وسفك للدماء.
ومعنى هذا يهمل لأن مفعوله خفي وغير محسوس. فجل ما يستورده العرب من الأغذية مثلا ليس مضمون السلامة الصحية.

وقد خصص ابن خلدون فصلا مطولا للترف الذي يعتبره علامة على احتضار الحضارات. وأشار إلى مفعوله الاقتصادي والثقافي. فاقتصاديا هو فقر الكثرة وغنى القلة وثقافيا هو فساد عادات الغذاء مثل كثرة البهارات وعادات الجنس مثل كثرة المثلية. وأبرز علامة فساد الزراعة وشروط الحياة السليمة.

وقد يعجب القارئ إذا قلت إنه حتى ما يبدو تقدما حضاريا موجبا مثل تقدم الطب والادوية فهو في النهاية ضار للحياة الإنسانية لأنه يؤدي إلى هشاشة كيان الإنسان العضوي الذي يعيش بالأدوية أكثر مما يعيش بمناعته الذاتية. وهذا يؤدي إلى أن الأمراض نفسها تتطور بحيث تصبح الفيروسات والجراثيم أكثر فتكا.

وفي الجملة فإن ما أردت قوله هو أن أدعياء العلم والحداثة هم ذو الرؤية العامية عندما يعتقدون أن العلم عندما لا يعلم حدوده يبقى علما. فليس العلم محيطا وليس صحيحا أن معتقدات الشعوب إذا فهمت كما ينبغي أن تفهم حائدة عن ضرورة اعتبار هذه التفاعلات التي لا ينكرها إلا دعي.
إنها شرط المناعة الروحية.

وقد رأيت في أسواق كوالالمبور كيف يعيش الصينيون ونظام الغذاء عندهم وعجبت حقا مما رأيت.
فالكثافة وأكل أي شيء وعدم النظافة وكثرة البهارات والمقليات حتى الموز مقلي كل ذلك لا بد وأن يكون له أثر كبير على علاقة الطبيعة بالحضارة ومن ثم فهو “وسط” مقو للأمراض وتحريك الفيروسات والجراثيم.

فإذا أضفنا الصناعات الملوثة التي نقلها الغرب إلى الصين والهند وإلى أي بلد عمالته رخيصة الكلفة فهمنا ما قد يترتب عليهما من أمراض يقابلها من هشاشة تستفيد فيها الفيروسات والجراثيم من هشاشة الفقر والغنى: لأن التغذية ضارة إما بضعفها أو بقوتها إذا بلغا حدا لا يناسب شروط الحياة السليمة. فالجوع والشبع بحد معين يمثلان أهم علل الهشاشة العضوية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي