كلام ترامب، دلالته التاريخية ومعناه الاستراتيجي

****

كلام ترامب دلالته التاريخية ومعناه الاستراتيجي

ما قاله ترومب على السعودية قد يعاب علي تعميمه على كل الانظمة العربية بل وكل أنظمة الاقليم التي نصبت بعد الحرب العالمية الأولى بعد سقوط الخلافة وحتى التي ادعت الثورة عليها بعد هزيمة 48.
ولا أريد أن أدافع عن موقفي لأني أعتقد أن من يشكك فيه يعاند حقائق التاريخ وليس موقفي.
وما قلت ذلك دفاعا عن السعودية فتعميم وصف الخيانة على الجميع ليس دفاعا عن أحدها ولا هو اعتذار لها جميعا لكأن الخيانة إذا عمت تفقد صفتها الخلقية التي تمثل قمة الرذيلة.
ما قلته إلا لأني ألتفت إلى المستقبل: ألسنا نلاحظ أن ما بدأ يغلب على ثورة الشباب العربي بجنسيه الميل إلى ما غلب سابقا؟
كنت أتصور أن المحاولة العسيرة التي بدأت في تركيا للتخلص من حكم ترومب الأخير في وصفه علاقة السعودية بأمريكا واسرائيل وهو حكم كان منطبقا على تركيا كذلك ستجد في ثورة شباب العرب بجنسيه سندا يمكن أن يقويها وأن ينجح ما يسمى بالإسلام السياسي في انتهاج طريق التحرر من الحقيقة التي قالها ترومب.
لكن ما بدأ يسيطر على فكر الإسلام السياسي هو التبرؤ منه ومن التزاماته إما خوفا من المصير الذي ما تزال سوريا وليبيا واليمن ومصر وحتى تونس تعاني منه أو طمعا في مزايا حكم ذليل لا يختلف عن نفس اللعنة التي اصابت ما سمي بثورات بعد هزيمة 48 حيث غلبت شاهية الحكم على النخب الإسلامية إرادة التحرر فنكصوا وصح عليهم حكم ترومب.
وذلك ما زهدني في العمل السياسي المباشر واستقالتي منه بما لم أخفه مما أصفه الآن في هذه المحاولة التي اعتبرها هادفة إلى توعية شباب الثورة بالدلالات العميقة لما يجري حاليا وبالاستراتيجيا التي تحدد معانيه والتي إن لم يجعلها الشباب صوب ناظره وطلبه شروط الاستئناف فسنخسر قرونا اخرى هذا إن لم يصدق علينا ما قاله ابن خلدون وأوردته في هذه المحاولة.
وقد عبرت عن موقفي هذا من بدايات الانتكاس في الثورة قبل تصريح ترومب وبعيد الاستقالة في ندوة الوسطية في تونس ثم في عمان عندما بينت أن هذه الدعوة هي في الحقيقة دعوة للتكيف مع إرادة أمريكا وروسيا وذراعيهما في الإقليم (إسرائيل وإيران) وليست ردا على “الإرهاب” لأن الجميع يعلم أنه لا علاقة له بالإسلام بل هو ظاهرة مخابراتية لتشويه الإسلام والحرب على معالمه في المادية والرمزية في الإقليم.
وطبعا فاستقالتي من السياسة المباشرة لا يعني الاستقالة من المقاومة التي أعتبر نفسي أقدر عليها.
فما لا أستطيعه وأنا مقيد بما يسمى تحفظات المشاركة في الحكم أستطيع أكثر منه وأنا في حل من التحفظ.
وهو ما يمكن إبانته من خلال مواقفي النقدية ليس من الثورة وممثليها عامة في كل اقطار الأمة بل خاصة في تونس حتى لو ظن الكثير أني بذلك اناكف حركة النهضة أو زعماءها للتوهم بأن المساندة لا تكون إلا بالطبل في حين أن النقد هو المساندة الفعلية لأن فيه بصيرة بعيد النظر في العواقب.
فليس تهديم أهم مدن الإسلام السني ذات الدلالة التاريخية وأهم معالمه الدينية وخاصة ما كان منها رامزا إلى تاريخ الإسلام الحضاري والسياسي وإلى أبطاله ورموز عزته في تاريخ معاركه سواء كانت في مركز الخلافة الأموية أو الخلافة العباسية من الأمور العبثية بل هي جزء لا يتجزأ من محو أثره التاريخي بما يشبه ما حصل في حروب الاسترداد وخاصة في إيطاليا واسبانيا بعد سقوط الاندلسي وفي البلقان بعد استضعاف الخلافة العثمانية.
ولذلك فنحن قد عدنا تقريبا إلى الحرب العالمية الثانية: حينها كان هدف الغرب “إنهاء” ما سموه الرجل المريض وتحقيق سايكس بيكو ووعد بلفور واليوم محاولة الغرب محاولة عزل ما يمكن تسميه المريض الذي تعافى وانهائه قبل أن يستعيد ما كان عليه من قوة عرفها الغرب طيلة خمسة قرون.
فليس المستهدف العرب وحدهم بل قلب الأمة ومركز ثقلها أعني أقوام الإقليم الذين يستمد منهم الإسلام دوره في التاريخ العالمي:

  1. العرب
  2. الاتراك
  3. الاكراد
  4. الأمازيغ
  5. المستعربون من الأفارقة (مثل السودان والتشاد والأجاويد وكل من كان لهم دور في حماية الإسلام في افريقيا طيلة حرب الاسترداد إلى الاستعمار المباشر).
    فكل الإسلاميين الذين طأطأوا رؤوسهم وقبلوا أن تبقى الثورة “محلية” رغم كونها من دون أدنى جهد منهم عمت الاقليم وتجاوزت علة الداء على الاقل رمزيا وفي شعارات الشباب بجنسيه قد تركوا الثورة المضادة تأخذهم بالتقسيط فلا يساعد أي قطر القطر الآخر تاركين لهم الاستفراد به راضين بالتبعية.
    فكان ذلك تأكيدا لعدم الوعي بأن الغايات القريبة (الحرية والكرامة) مستحيلة التحقيق من دون الغايات البعيدة (شرطا السيادة: الحماية والرعاية الذاتيتين) بسبب عدم فهم العلل الاستراتيجية للعلاقة بينهما: فسر فقدان القريبة هو فقدان البعيدة. وعلة فقدان البعيدة هو ما حصل للأحياز الخمسة.
    وهنا يأتي كلام ترومب وعلة وصفي إياه بكونه أصدق رئيس عرفته أمريكا منذ أن صارت دولة عظمى.
    فمتى صارت أمريكا دولة عظمى أي متى عرف العالم أنها دولة عظمى؟
    عندما تحقق بتدخلها أمران هما ما جعل المسلمين يصبحون كما وصفهم ترومب: عملاء بالجوهر لأمريكا حتى في عهد السوفيات.
    • الأمر الأول نتج عن تدخلها في الحرب العالمية الأولى أو خدعة مبادئ ولسون التي كان أثرها على المسلمين تفكيك ثورة التحرير الإسلامية بجعلها محلية بعد أن كانت شاملة لأرض الإسلام وهو أمر قضى على المقاومة التي كان يمكن أن تبقي على حياة الخلافة حتى بعد الهزيمة: فكرة “الدولة” القطرية التي هي محميات الانتداب لتنصيب العملاء وكان أولها موقف أتاتورك في التخلي عن دور تركيا التاريخي.
    • الأمر الثاني جاء مع التدخل في الحرب العالمية الثانية. فهزيمة الامبراطوريات الأوروبية أفقدها مستعمراتها التي ورثتها أمريكا بإيهام حركات التحرير أنها مساندة لها في تقرير المصير استكمالا لمرحلة الانتداب الذي مكن مما نرى له مثيلا في الضفة الغربية: ربط نخبة حاكمة في الظاهر بالمستعمر الذي صار يحكم عن العالم الإسلامي بالاستعمار غير المباشر.
    ترومب لم يضف شيئا في كلامع غير فضح هذا الاستعمار المباشر والاعتراف بدور الأنظمة العملية في تحقيق استراتيجيته: تلك هي علة قولي إنه أصدق رئيس أمريكي منذ أن أصبحت أمريكا دولة عظمة رسميا أعني بإعلانها عن عظمتها في الحربين الأولى وخاصة الثانية.
    ومن ينكر على ذلك يظنني أمدحه في حين أني اكتفي ببيان دلالة ما يشير إليه التاريخية ومعناه الاستراتيجي.
    والدلالة التاريخية هي ما وصفت أما المعنى الاستراتيجي فهو ما اعتبره أخطر من الجزية التي تبدو هم ترومب الأول: إنها هذه التبعية التي جعلت بنيوية بسبب ما حل بالجغرافيا الإسلامية من تفتيت وما كلفت به الأنظمة العملية من تمزيق للتاريخ ومن ثم من منع كل إمكانية للتنمية المادية والروحية لإنجاح الحرب على الإسلام بأيدي أهل الإقليم في “المحميات” التابعة بالجوهر لفقدانها شروط السيادة حماية ورعاية.
    ومعنى ذلك أن كل اقطار الإقليم وخاصة العربية منها التي هي فتات الدولة العثمانية (المغرب قبل الحربين والمشرق بعدهما) مرت بما يشبه بما تمر به الضفة الغربية حاليا: تكوين طبقة من المتعاملين مع الاستعمار وتسليم ظاهر السلطة لهم حتى يكونوا في خدمة صاحبها الفعلي لأنها محميات وليست دولا.
    لماذا فعلوا ذلك؟
    لأن تفتيت الجغرافيا لا يكفي لمحو الهوية الواحدة.
    كان ينبغي أن يصبح في الجغرافيا المفتتة من يطلب شرعية خاصة بلك قطر محمي بالاستعمار تفصله بتمزيق التاريخ عن الأقطار الاخرى: لا بد أن يصبح المصري فرعونيا والسوري فينيقيا والتونسي قرطاجنيا والعراقي بابليا.
    فيصبح كل قطر في حرب دائمة ضد التاريخ المشترك من أجل تاريخ متميز بما كان له قبل التاريخ المشترك أي قبل التاريخ الإسلامي الواحد.
    ومعنى ذلك أن كل مقاومة مشتركة -كما كان عليه الامر في القرن التاسع وحتى بداية الكذبة التي تأسست بمقتضاه الأحزاب القطرية في دار الإسلام (مصر وتونس مثلا).
    وبذلك تتحقق شروط التبعيتين: فتفتيت الجغرافيا تصبح التنمية المادية ممتنعة لأقطار مقزمة ليس لأي منها شروط التنمية المناسبة لعصر العماليق ومنها التبعية الاقتصادية. وبتمزيق التاريخ تصبح التنمية الروحية ممتنعة لأقطار تستمد هويتها من تاريخ ميت لتحارب به تاريخ حي ومنها التبعية الثقافية.
    فإذا تحققت هذه العمليات التي تلغي فاعلية الأحياز الأربعة: الجغرافيا والتاريخ وشروط التنمية المادية أو الثروة وشروط التنمية الروحية أو التراث لم يبق إلا لحمتها واصلها جميعا قائما وينبغي القضاء عليه.
    إنه المرجعية الروحية التي من دونها لا معنى لمفهوم الأمة: معنى الحرب على الإسلام.
    تلك هي دلالة الحرب على الأصل الروحي لقيام الأمة والعلة العميقة لمقاومتها إذ هو الحصانة الروحية التي تشبه المناعة العضوية في بدن الإنسان.
    وهذا مبدأ معلوم من النظرية الاستراتيجية كما حددها فيلسوف الحرب كلاوسفيتز وكما سبق أن أطلت في شرحها وبيان طابعها المخمس بدل المثلث عنده.
    فالأمم لا تنهزم ما ظلت مرجعيتها الروحية حية. ذلك أن المقاومة الاخيرة في كل الأمم العظيمة تعود إلى المحرك الأعمق في النفس البشرية: العلاقة المباشرة بين الإنسان من حيث هو مستخلف وبين الله الذي كرمه بما وصفه به ابن خلدون: الإنسان “رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
    فيقول: “وفيه (فناء الأمم) والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له. والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل عن شبع بطنه وري كبده. وهذا موجود في أخلاق الأناسي ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وأنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين.
    فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء والبقاء لله وحده ” (المقدمة الباب الثاني الفصل 24).
    ولذلك فالمقاومة تبقى قائمة ما ظل في الإنسان عرق حي يتعلق بهذه المنزلة الوجودية التي تحددها له عقيدته: “بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
    وحينئذ نفهم علل الحرب على الإسلام لأنه خط الدفاع الأخير في حياة الأمة.
    وهذا الحرب يقودها خمسة أعداء:
  6. الأنظمة العميلة التي تم تنصيبها بعد سقوط الخلافة
    العدوان الخارجيان:
  7. أمريكا
  8. وروسيا
    ذراعاهما:
  9. إسرائيل
  10. وإيران.
    لذلك انقسمت الأنظمة إلى توابع للذراعين وسنديهما حاليا.
    فإذا طأطأ الإسلام السياسي رأسه فقد قبل بتفتيت الجغرافيا وتمزيق التاريخ والتخلي عن شروط التنمية المادية وشروط التنمية الروحية في عصر العماليق فهو قد انضم إلى الحرب على الاسلام لو بصورة سلبية بمعنى أنه ينخرط في ما يسمى بالوسطية التي تقبل بأن الإرهاب أصلي في الإسلام وليس مخابراتيا.
    وعندئذ ستبقى تركيا وحدها فيحقق المشروع الاستعماري ما فشل فيه كل ما فعله بعد أسقاط الخلافة فيحول دون تعافي من كان يسمى بالرجل المريض ولن تتمكن الأمة من الاستئناف.
    هذا هو ما يهمني من الكلام على الماضي الذي عرفه ترومب في كلامه على السعودية من أجل المستقبل الذي علينا حمايته.
    وينبغي أن ألاحظ في الختام أن كل ما وصفته هنا يتعلق بالحكام من العالمين الإسلامي والغربي والنخب الدائرة في فلكهم.
    لكن الشعوب فيهما تغيرت ذهنياتها ولم تعد شديدة التأثير بهذه الحرب بين العالمين والتي لم تتوقف منذ القرون الوسطى. لم يبق إلى اليمين والمافيات الحاكمة واللوبيات الاقتصادية والعقدية المحاربة للإسلام تؤمن العداء الأبدي بين العالمين.
    أما ما يجري في الأعماق بين الشعوب فهو شيء آخر وقد حاولت وصفه في محاولات سابقة بما يقل الرد إلى كلمة واحدة: الإقليم في عصر العولمة مهدد بطرفيه حول الابيض المتوسط شماله وجنوبه شرقه وغربه في عالم العماليق.
    ولا بد من جعله اقليما واحدا حتى يصبح ذا حجم قابل للعيش بين الشرق الأقصى ورمزه الصين والهند والغرب الأقصى ورمزه الولايات المتحدة والبرازيل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي