ه
كالعادة وبنفس السذاجة سأعالج هذا المشكل بالمنطق دون سواه لأبين أنه من أكثر الحلول زيفا.
فهو حل يلجأ إليه الفكر السياسي في الأوطان التي يعلم الجميع أن القائلين به يبحثون عن الحلول المستحيلة للهروب من مواجهة الإشكاليات التي لا بد من مواجهتها ولا فائدة من تأجيلها.
1-أزعم أن البحث عن كفاءات مستقلة لتحمل مسؤوليات سياسية وخاصة في المجالات التي يسمونها سيادية في أوطان لا سيادة لها لأنها تعيش على التسول في الرعاية والحماية من الأوهام.
2-وأزعم توهم أن ذلك سيحد من التناحر بين الأحزاب التي ليس لها أدنى سلطان على ما يجري لأنها مجرد واجهات لمافيات هي التي تحكم بالفعل.
فهي التي تمولها.
وهي مافيات داخلية هي بدورها توابع لمافيات أجنبية بسبب تبعية ما يسمونه دولة وهي مجرد محمية.
الزعمان كلاهما يتعلقان بعلامتي الكذب على الشعب إما بقصد أو بغير قصد لإخفاء الوضعية الفعلية للوطن وتزييف وعي الشعب لئلا يدرك الوضعية الفعلية التي تدعي النخبة السياسة علاجها بطريقة تزيدها ترديا بتوطيد التبعية الاقتصادية والثقافية ومن ثم السياسية.
إنها إذن وفي الحقيقة ليست نخبة سياسية بالمعنى المطابق لدلالة فعل السياسة التي تحقق إرادة جماعة من الأحرار تعي أنها فاقدة لشروط الحرية والكرامة.
ولذلك فهي قد ثارت لكي تحققها.
لكن نخبها لا تصارحها بضرورة تحمل مسؤولية الكلفتين اللتين يقتضيهما تحقيق هذه الغايات لأنها نخب ترفض تحمل مسؤولية هذه الصراحة.
وتحملها هو العلامة الفعلية على معنى رجل أو امرأة الدولة.
1-فأولى الكلفتين تتمثل في ما يترتب على استكمال ثورة التحرير شرطا في ثورة التحرر.
وهذه هي الكلفة الأثقل لانها تتعلق بالمهمة الأعسر أو بالعائق الأعمق ضد السعي لتحقيق الحرية والكرامة.
2-والثانية تتمثل في القبول بتقديم الآجل على العاجل بمعنى أن “مستوى العيش” الكاذب بالاعتماد على الاستدانة والعيش بنظام الدولة الحاضنة يجعل الشرط الوارد في أولا مستحيل التحقيق.
فينتج من ثم أن الشعب الذي لا يعي ذلك هو في النهاية المسؤول عما يجري لأنه لا يقبل المصارحة بما ينبغي القيام به للتحرر من هذين الداءين اللذين يجعلان الدولة ومؤسساتها تكية يتمعش منها خدم المافيات التي تمتص دمها.
ولذلك فالنخبة السياسية بخلاف ما تقول هي ما تفعل.
وما تفعل هو إدارة لا تسعى للخروج من التبعية بل هي تزيدها يوما بعد اليوم.
فيكون الموقف السائد على الجل حتى لا أعمم هو التالي:
كل سياسي يبحث عن العصبية التي تنوب مافية معلومة.
وقد أصبحت جميعا تعمل في العلن يمكن أن يكون فيها أقدر على تحقيق مصالحه وليذهب الجميع للجحيم.
الاستدلال المنطقي
أورد الآن الاستدلال المنطقي الدال على سذاجتي التي لا أنكرها واعتبرها من أوهام المثالية التي هي أشبه بالمراهقة القيمية الدائمة.
1-فلو بحثت عن الجواب عن هذا السؤال الذي عنونت به المحاولة (ما معنى كفاءة مستقلة شرطا للتكليف السياسي؟) في مجال الكلام على التحرر من التحيز المعرفي في التشخيص لأمراض تونس لكان الرد:
المطلوب هو الموضوعية المطلقة.
2-ولو بحثت عن الجواب عنه في مجال التحرر من الانحياز لخيار سياسي من الخيارات المتصارعة في الجماعة لكان الرد:
المطلوب عدم الانشغال بالسياسة المطلق.
3-فأصل إلى أن المفهوم “كفاءة مستقلة” مستحيل التحديد سلبا لأن
الموضوعية المطلقة مستحيلة معرفيا
وعدم الانشغال بالسياسية مستحيل قيميا.
فكل معرفة منظورية بالطبع.
وإلا لكان صاحبها ذا علم محيط إدراكه هو عين حقيقة موضوع الإدراك.
وكل إنسان لا يخلو من موقف قيمي.
وحتى لو لم يكن هو صاحبه فإن شريكة حياته
التي لها علاقة بالحياة اليومية أكثر منه
قد تدفعه إليه دفعا حتى
بكلامها على الأسعار ومقارنة الماضي بالحاضر أو الموعود بالموجود والنخب المتوالية على الحكم على الأقل منذ الثورة التي أنست الناس ما تقدم عليها فحملوها مسؤولية ستين سنة قبلها.
فلأحاول إذن التعريف الموجب:
1-هل القصد هو الالتزام بما يحقق المصلحة العامة في العمل تنفيذا لما هو معلوم منها بمقتضى البحث العلمي في اللحظة التي يتم انتخاب من يوصف بكونه كفاءة؟
2-وهل القصد هو الالتزام بما يحقق المصلحة العامة في العمل دون تبجيل قوة سياسية على أخرى من القوى التي تسعى إلى تحقيق هذه المصلحة بمناظيرها من مناظيرها المختلفة؟
¤ فيكون الجواب عن السؤال الأول بنعم دالا على أن تونس فيها اليوم وصف علمي لحالها يجعل العمل على علم هو المطلوب.
وله رجاله ونساؤه بحيث إن اختيارهم سيكون مجمعا عليه أو يكاد.
ومجال البحث عنهم معلوم لأنه يتعلق بوظائف الدولة العشر أي
وظائف الرعاية الخمس التكوينية (التربية النظامية والتربية في تقسيم العمل)
والتموينية (الإنتاج الاقتصادي والإنتاج الثقافي)
وكلها تجتمع في مؤسسات البحث العلمي وتطبيقاته
أي في معاهد البحث والجامعات.
وكلنا يعلم أن هذا النوع من البحث العلمي لا يكاد يوجد منه شيء.
وحتى إذا وجد فهو في أدنى مستوياته لان الجامعات في بلادنا هي بالأحرى مدارس لمحو الأمية في ما ليس للعلم فيه ما يتجاوز عرض “البايت” من الموجود بعد أن شبع موتا وتجاوزته المعرفة العلمية منذ عقود أو قرون بحسب مجالات التدريس.
¤ ويكون الجواب الثاني الموجب دالا على أن تونس فيها اليوم ساسة يمكن وصفهم بكونهم رجال دولة لهم العزيمة والقدرة حتى لو كانت لهم الإرادة ليقدموا الصالح العام بصرف النظر عن الانتساب إلى شق دون آخر في حين أننا نعلم علم اليقين أن هذا النوع مستحيل الوجود للعلل التالية التي تحدد شروط الوجود السياسي:
1-فـ “السياسي” لا يوجد من دون قوة سياسية تحميه إذا كانت قادرة على الوجود سياسيا.
وهذا قانون كلي عرفه ابن خلدون بمفهوم العصبية.
وهو اليوم جوهر معنى الحزب.
فهل لنا أحزاب لها هذه الخاصية؟
2-أليست “القوة السياسية” لا توجد من دون قوة من طبيعة أعمق هي بالجوهر اقتصادية وثقافية تمثل منظومة من المصالح والقيم؟
ويعسر أن تكون شاملة للجماعة وإلا لخلطنا بين الحزب والجماعة.
وحينها نصبح قائلين بالحزب الواحد والاستبداد الخالي من المعارضة النقدية على الأقل.
3-و”المعارضة النقدية” تخضع لنفس الشرطين السابقين.
لأنها قوة سياسة أو عصبية مترشحة للوصول إلى الحكم بمنطق التداول السلمي إذا كنا في ديموقراطية أو العنيف إذا كنا في بلاد لا يقع التداول فيها إلا بالانقلاب والحرب الاهلية.
4-ولنفرض أنه توجد عصبية ثالثة ليست في الحكم ولا في المعارضة.
بل هي عصبية تحاول تجنب الصراع بينهما وتحاول أن تكون محايدة.
لا هي مع العصبية الحاكمة بالفعل ولا مع العصبية الساعية إلى الحكم أو المعارضة.
فإنه ستكون عصبية ثالثة تتصور نفسها فوق الخلافات التي بين العصبيتين السابقتين.
ومن ثم فهي ستكون محاصرة منهما إن سلمنا بأن وجودها ممكن.
ولكن هل سيكون لها الوزن الكافي لأداء دور الحكم بينهما إذا تصورنا أنهما قبلتا بها حكما دون شرط ألا تمس مصالحهما.
وإذا علمنا أن مصالحهما هي مصالح المافيات التي تسندهما وتمولهما الداخلي منها وسنده الخارجي وهي من جنسين: سياسية ونقابية وخاصة ما كان منها بيده جهازي قوة الدولة أعني لوبياتها في كل مؤسسات الدولة وخاصة إدارتها.
5-وفي هذه الحالة فإن “الكفاءة المستقلة” ستعني أحد أمرين:
• إما من يرضى عنه كل من ذكرت.
فيكون أفسد خلق الله المستعد لإرضاء الجميع بالأقوال وإرضاء من فرضوه بالأفعال.
وقدر جربنا ورأينا.
• أو من “لا يخبش ولا يدبش” بحيث يكون صورة فحسب.
ومن ثم فنحن نكون قد اخترنا حكما عاجزا عن الحكم بين المتنازعين ولم نغير شيئا.
لكن الأخطر هو أن من سنختاره هو بدوره يريد أن يبقى وإلا فهو سيذهب في “العفس”.
فيفكر في شروط بقائه ولا بقاء له إلا بترضية من يعتبره الأقوى.
فنكون وكأننا لم نفعل شيئا واكتفينا بمخادعة أنفسنا وتأجيل المشكل دون حل.
اعذروا سذاجتي.
فإني لا أنكر ذلك.
ولولاها لكنت من السابحين في آسن مياه السياسة حتى لو علمت أن هذه السباحة مآلها مزيد الغرق لتونس وشعبها.
فكل كلام نظري سذاجة افلاطونية.
ذلك ما فهمه ابن خلدون في منتصف عمره لما كتب المقدمة. والسلام.