لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهكشف حساب القرن الماضي
اجتماع الرؤية (لفهم معين للوجود والعالم) والإرادة (عمل يحقق ما يترتب عليها من مشروع تاريخي لأمة حرة) بات الواحد أن تربى نخبتان الأولى تحقق الشروط العلمية للعمل على علم والثان تحقق الشرطية الذوقية للعيش بقيم تحددها منزلة الإنسان الذي يؤمن بذلك المشروع: عندنا الإسلام.
وما وصفته في الفصلين السابقين في كلامي على النخبتين العاملة (نخبة الإرادة أو الساسة) والناظرة (نخبة الوجود أو أصحاب الرؤى) أي المحققة للمشروع الأولى والمحددة لآفقه وقيمه الثانية لم يكن هو ما يجري بل عكسه تماما لأن النخبتين النافذتين فيهما تابعتان ولا تمثلان إرادة الأمة ولا رؤيتها.
وتلك هي علة اعتمادهما على العنف المادي (نخبة الإرادة التابعة) والعنف الروحي (نخبة الوجود التابعة للتابعين) وذلك من ادلة انعدام الشرعية: فكل سلطان روحيا كان أو ماديا لا يقوم إلا بنسب معينة منهما: قلما قلت الشرعية زاد العنف إذ السلطان بما هو سلطان شرعية وشوكة في نسب متعاكسة.
وهذا لا يكفي لوصف هذه الوضعية. فهي وضعية فرضها الاستعمار قبل الخروج للانتقال من المباشر إلى اللامباشر فجعلت من نصبهم على سلطان سياسيي لم يبق له إلا المادي (ممثلو الإرادة المسلوبة) وسلطان روحي لم يبق إلا وظيفة تبرير الاول واضفاء شرعية مزيفة عليه (أصحاب الروية المستلبة).
ومن ثم فالاستعمار سيفرض عليهما -بوعي منهما أو بغير وعي-أن يفسدا شروط علاج العلاقتين بصورة تشل الإنتاجين بقتل الحريتين-أي ما يريده من النخبتين المواليتين من بدائل تقتل مسمى ما تسميان به: نخبة المعرفة لن تنتج علما ونخبة الحياة لن تنتج فنا بل الأولى تتأدلج والثانية تتمهزل.
فغياب المشروع واستلاب الإرادة والرؤية يجعل الاستيراد مغنيا عن الإنتاجين المادي (الاقتصاد) والروحي (الثقافة)وتقزيم الأحجام (ما وصفنا حول الأحياز) حائلا دون شروط البحث العلمي المبدع والبحث الفني المبدع فلا يبقى إلا إيديولوجية الحداثة في العلم والفن بعلاقة مقلوبة بين الشرط والمشروط.
ولأشرح معنى قلب العلاقة بين الشرط والمشروط: بدلا من أخذ الحداثة بأسبابها التي حققتها (الثورات الخمس: الروحية والفلسفية والعلمية والسياسة والاجتماعية) لا يأخذ المثقف العربي إلا ثمرات هذه الثورات دون الاجتهاد والجهاد اللذين جعلاها ممكنة: فتصبح نتائج حائلة دونهما بسبب كلفتها.
لما تريد أن تعيش مثل الأمريكي وأنت لم تقم بأي من هذه الثورات فأنت تكلف الجهاز الاقتصادي الهزيل ما لا يستطيع تحمله. تخيل مثلا أن البترول انتهى ما زلت لا أفهم كيف سيسخن الخليجي وسيبرد نظام عيش كلفته ليست في متناول اقتصاده عندما ينفد ما كان يستمد منه رفاهه؟ وقس عليه بقية العرب.
ولا يغرنك ما يتوهمه من يتصور أن السياحة-حتى بكل ما فيها من مغريات كلنا يعلم طبيعتها-بديلا ممكنا عن ثروة طبيعية ناضبة دون أنتاج مبدع بالمعنى الحديث: لن يتسوح أحد في الصحاري إذا لم يكن مع سياحته ما يستفيد منه جراء تجارة المواد الاولية والمشتقات المالية والمضاربية.
سترحل هذه الامور طلبا لشروطها خاصة بعد أن ينجز مسار الحرير ويصبح المرور بقنال السويس غير ضروري والخليج فاقدا لأهميته الاستراتيجية الحالية. والأمم التي تبنى حضارات لا تكتفي بتوقعات السنين بل لا بد من توقعات القرون والاستعداد لها بثورات علمية لا حول لنا فيها ولا قوة.
ولن يحول دون حصول هذه التوقعات إلا استعادة وحدة الاحياز (المكان والزمان وشروط الانتاج المادي والإنتاج الرمزي والمرجعية المؤسسة لذلك كله). لكن النخبتين اللتين درسنا لا تعملان على ذلك بل هي اول المسهمين في تحقيق العكس: الكل صار محميات والكل يتصور التحديث معكوس المسار.
خرافة الصناديق السيادة هي بدروها ريع وليست إبداعا لثروة لأن من تمول الاستثمارات عنده هو الذي يعتبر مالك الثروة خاصة إذا كان مالكا للقدرة على حمايتها وانتزاعها منك بمجرد قرار من مجالسه التشريعية. فيصبح ما تتصوره عامل قوة مادية هو “اليد التي توجع” بلغة المصريين خوفا من تجميده.
والحصيلة أن النخبتين اللتين درسنا ومآل الأحياز الذي وصفنا يجعلنا نزداد تبعية وتخلفا مهما بدا من تحضر عمراني مدين لبيع الثروات الطبيعية وليس لإبداع ثروات لا سبيل إليها إلا بالعلوم وتطبيقاتها وبالمؤسسات التي تشجع على العمل والحكم والتربية الراشدين لا على استبداد العسكر والقبائل.
وبكلمة واحدة لا يمكن للمحميات أن يكون لها سياسة تربية وحكم تنتج شروط التكوين المبدع والنظام المشجع على الإبداع لأن رؤاها وإراداتها ليست ملكا لها بل هي مفروضة عليها وتفتيت جغرافيتها وتشتيت تاريخها يفقدانها شروط البحث العلمي والفني المبدعين في أمة قادرة على الحماية والرعاية.
ومن ليس قادرا على حماية ونفسه (محتاج لقواعد) ورعايتها (محتاج لمد اليد) يعتبره ابن خلدون قد فسدت معان الإنسانية فيه فصار عالة على غيره وتابعا لها لا حول له ولا قوة حتى وإن كان له من الدولة خرقة يسميها علما ونشيدا رسميا يعزف فتنتفخ الاوداج ولا يكبر إلا جهاز المخابرات وعدد السجون.
والنتيجة هي فساد نظام تكوين الإنسان ويهزل دوره فيزول البحث العلمي شرط علاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة ومع البشر وفساد نظام تموين الإنسان ماديا (الفقر الاقتصادي والصراع الاجتماعي) وريحا (العقم الثقافي والصراع الإيديولوجي) وهذه حال نظام التكوين ونظام التموين في المحميات العربية.
فالتعليم الذي هو التكوين النسقي إضافة إلى التكوين غير النسقي التابع لثقافة المجتمع في الحياة العادية وفي الممارسات التقنية والمهنية كلها لا تحقق الحد الأدنى لجعل الإنسان قادرا على الإبداع في علاج العلاقة العمودية (قوانين الطبيعة) والأفقية (السنن التاريخية): التكوين محو أمية سطحي.
ولما كان البحث العلمي وتطبيقاته لا يتقدم من الأدنى إلى الأعلى بل بالعكس فالبحث الأساسي وهو الاعلى هو الذي قاطرة البحث التطبيقي والعلوم القريبة من الممارسة النفعية وكان هذا البحث باهض الكلفة فالمحميات الفقيرة لا تقدر عليه فيكون نظام التكوين فيها بالكاد يعلم القراءة والكتابة.
فلا يكاد يخرج إلا العيي والغبي والدعي. كلما كثرت الشهادات والعناوين قلت القائدة لأنها صارت من جنس التجمل الاجتماعي ولا تعني شيئا فيما يتعلق بالإبداع العلمي. وسنرى أن ما يري في الإبداع الفني من الآدب إلى كل مشتقاته التعبيرية سواء ترجمت بالمرئي والمرسوم أو بالمسموع لا يختلف كثيرا.
وقد يبدو كلامي على الأحياز ودورها وكأني بها اعتبر الامر متجاوز للإرادة والرؤى باعتبارها من الشروط الموضوعية التي قد يكون فيها عذر للنخبتين السياسية والرؤيوية: فيمكن للواحد منهم أن يقول ماذا تريدني أن أفعل ودولتي صغيرة وليس لي على المحددات الكبرى للمصائر سلطان.
وهذا من أيسر تعلل المتفصين من المسؤولية عن مصير الامة. لكن هذه المهارب لا تنطلي على أحد: فدول أوروبا وهي حقا كبيرة -فرنسا ألمانيا إلخ.. – صارت تشعر بأنها ليست كبيرة بما يكفي للتناسب مع شروط السيادة في عصر العماليق. ولا أحد من حكام المحميات يقبل التنازل الذي يحقق السيادة للجميع.
وكل ما يقدمونه من حلول يكون في الحقيقة زيادة في المشاكل وليس تقدما في علاجها. ولأضرب مثال لغة التعليم: يزعمون أن التعليم باللغة الأجنبية يحل المشكل. لكنه يضاعفها. فبدلا من تعريب العلوم اعتبروا فرنسة الشعب شرطا في تعليمه. فلا هو تفرنس ولا هو تعلم: نجحوا في إفساد اللغة.
والمثال الثاني بدلا من تكوين سوق قبل التصنيع عملت الجزائر ومصر والعراق كل ما يستطيعون لمنع تكوين سوق عربية بخلافات سخيفة بين الانظمة. ولما حاولوا التصنيع صارت معاملهم عالة عليهم لأنها يمكن أن تنتج في يوم واحد ما تطلبه السوق الضيقة لمنتج فاسد اصلا بسب سوء التكوين.
والحصيلة هي شبائه من كل شيء ومن ثم فلا شيء يتحقق: تكوين بدائي لمحو الامية إنتاج بدائي لا يباع ولا يشترى وبيع للثروات الطبيعية خاما وتحويل البلاد إلى محميات لقواعد عسكرية ومزابل لفضلات التصنيع الذي يعده المستعمر تفضلا على محمياته ويصبح الاستعباد التعاون فيه مشاركة صيغة صرفية.