كشف حساب القرن الماضي من سراب نخب الأعراب – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله كشف حساب القرن الماضي

وصلنا الآن إلى غاية البحث: كيف نفهم الشلل التام لكل النخب الخمس نخبة الإرادة ونخبة الوجود ونخبة المعرفة ونخبة الحياة أي النخبة السياسية والنخبة الرؤيوية والنخبة العلمية والنخبة الفنية بصورة جعلت الامة عاجزة ومشلولة بعد أن تفتت جغرافيتها وتشتت تاريخها فلم تعد قادرة على شيء.

وهذا هو موضوع النخبة الاخيرة نخبة القدرة التي تمثل وجهيها أي القدرة المادية (الاقتصاد) والقدرة الروحية (الثقافة) فأصبحت الامة على الحال التي وصف بها ابن خلدون كل أمة فسدت فيها معاني الإنسانية عالة على غيرها في الحماية (محميات: القواعد) والرعاية (مستولات: انظر حال شعوبها).

سبق فدرست مقومات الدولة (المرجعية – والقوى السياسية – والدستور – والهيئة الحاكمة والمعارضة – ووظائف الدولة العشر) وهي ما يسميه ابن خلدون صورة العمران لسد الحاجات المادية والروحية والاجتماع للأنس بالعشير للعيش المشترك السلمي والسعيد: وفيها يكمن الخلل المشل للقدرة بمعنييها.

وظهور الشلل والعجز في هذه المقومات لكنه مظهرها وليس علتها: علتها هو ما بينا في الفصول الاربعة السابقة أعني النخبة السياسية عديمة الإرادة الفعلية لأنها خاضعة لوصي وليس لها رؤية لأن الوصي يفرض عليها رؤاه (حتى في معتقداتهم الدينية) ونظام تكوين الإنسان معرفيا وذوقيا حتى يصبح ممسوخا.

وهو لا يفرض بالضرورة مباشرة بل هو بتفتيت الجغرافيا يفقدهم الحجم الكافي لإنتاج الثروة المبدع وبتشتيت التاريخ يقدهم العمق الكافي لإنتاج التراث المبدع ومن ثم فالأحياز الأربعة المكان والزمان والثروة والتراث كلها تصبح تحت سلطان المستعمر الذي يمد يده حتى إلى المرجعية الروحية ليغيرها.

وتجد مع ذلك من نخبهم المؤدلجة القومية واليسارية وحتى التقليدية من خدم الطراطير العربية يعتبرون ما به خرجت تركيا من الحال التي هو فيها غارقون بنظام لا يحارب ذاته ومرجعياته بل تصالح معهما في عقد ونيف معتبرين ذلك “خونجة” وليس اهتداء للحلول التي تعمل بالأسباب وتحقق مشروعا مستقلا.

وإذا حدثتهم عن مشروع يجعل الإرادة والرؤية والمعرفة والفن تعمل في تناغم يحقق مشروع يمكن من مواجهة التحديات التي حصرناها في علاج العلاقتين بالإبداعين الفني والعملي شرطين لإنتاجين المادي والروحي أي لتحقيق شروط الاستقلال أو مقومي السيادة حماية ورعاية فضلوا استعباد شعوبهم لعمالتهم.

وصلنا بالبحث إلى مرحلة تقتضي أن أعلل طبيعة الخطاب الذي أقدمه. عللته بداية وأعلله غاية قبل الكلام على فساد معاني الإنسانية وعلتيه أعني العنف الروحي (الوساطة التي تنفي الحرية الروحية للأفراد) والعنف المادي الذي ينفي الحرية السياسية لجماعات الأفراد الاحرار روحيا: عنف التربية والحكم.

بينت في بداية المحاولة أن المقابلة بين الفلسفة والدين بدعوى علمية الأولى واسطورية الثاني دليل جهل بحقيقتهما: فكلاهما فيه هذا وذاك بقدر ما فيه من معرفة بعدية للموجود ورؤية قبلية للمنشود. كلاهما يميز بين الوجود الحق وظاهره. وشرطه أن يكون كيان الإنسان المنشود فيه متقدما على الموجود.

الإنسان مشروع دائم التحصيل وليس حقيقة حاصلة حتى عضويا فضلا عنه روحيا. ولولا روحه التي هي الوعي بهذه الحقيقة لامتنع عليه أن يكون ذا دين وفلسفة ولكان أقصى ما يعلمه وما يشرئب إليه لا يتجاوز ما يحصل للمرآة التي تعكس الموجود ولا شيء دونه وهي لا تعكس إلى ظله الذي ينكس عليها.

فلأسلم جدلا لشقي الهيجلية الشارحين لرؤيته التي تنفي الما هناك Jenseitوراء الما هنا Diesseitالقائلين بان الماهناك من خيال الإنسان لاستكمال ما يعيه من نقص في وجوده وأن المنشود ليس إلا الوعي بنقص الموجود لكن عليهم أن يسلموا كذلك بأن العلم والعمل كلاهما دليل هذا النقص والاستكمال.

أو عليهم أن يسلموا بما هو ضمني في كلامهم: لا شيء يمكن أن يحصل غير ما يحصل ومن ثم فهو قائلون بالفاتاليسم ومرجعون تاريخ الإنساني الخلقي (أي أفعاله الحرة) وهم والتاريخ الوحيد الحقيقي هو التاريخ الطبيعي ومن ثم فعلى العرب والمسلمين أن يستسلموا لسلطان الأقوى إيمانا بأنه الافضل.

كيف أدعي أن العلم حتى للموجود مشروط بما يفيد تقدم المنشود فيه على الموجود: ذلك أن العلم شرطه إلا يخلط بين حقيقة ما يعلم وظاهره. لذلك فلا شيء في النظريات يرد إلى عكس الظاهرات بل هو غوص إلى الباطنات وهي كلها مثل رياضية تنطبق تعلل الظهور ولا ترد إلى الظاهر.

وكل مبدع لنظرية لا ينطلق من ظاهر الوجود بل مما يتخيل أنه المنشود لو كان هو صانعه فيفترض وراء ظاهر الوجود شبه “واجب الوجود” الذي به يمكن تعليل الظاهر للنفاذ إلى الباطن أو الحقيقة. وهذا هو عين كيان الإنسان وهو قد يغفل عنه في المجال الخلقي إذا فاعلا ولا ينساه أبدا عندما يكون منفعلا.

مثال ذلك أن الإنسان ظلوم. لكنه شكاء عندما يظلم. وهو إذن يعلم معنى العدل علما فطريا لكنه ينساه عندما يكون في كبرياء الفعل ويذكره عندما يكون في ذل الانفعال. من دون ذلك يستحيل أن يوجد معنى للقيم الخمس: الحرية (للإرادة) والحقيقة (للعلم) والخير(للقدرة) والجمال (للحياة) والتعالي (للمنشود).

بعد هذا الاستطراد أعود إلى مسألتي: كيف تزول القدرة ويحل محلها العجز في الإنتاجين المادي والروحي للتموين الضروري للتكوين في جماعة تابعة من شروط بقائها تابعة الحيلولة دونها وهذه القدرة بعملين أولهما يغير الأحياز أو الشرط العيني للقدرة والثاني يغير الأنسان أو الشرط الذهني للقدرة.

ولما كان هذان التغييران بشعين لان لا يوجد إنسان يفضل العجز عن القدرة فإن العنف اللطيف يتمثل في قلب القيم كلها بجعل أسمائها من الأضداد: فتكونه الحرية هي النزوات والعلم هو الإيديولوجيا والقدرة هي نفي الذات والحياة هي فنون ما دون السرة والرؤى هي ما شرحنا في هذه الاستطراد: فكر نخبنا.

هذا فكر نخبنا التي تدعي الحداثة فما هو فكر نخبنا التي تدعي الأصالة: نفس الموقف لكنه يسمى قضاء وقدرا واستسلاما لفهوم معكوسة تماما تغير ثورتي الإسلام أعني الحرية الروحية للأفراد (لا وساطة بين الفرد وربه) والحرية السياسية للجماعة المؤلفة منهم (لا وصاية عليهم) فيلغون القيم باسمها.

لذلك فكل سعيهم منع كل استراتيجية لتحقيق الشرطين: جعل الأحياز مناسبة للعصر في الاعيان وجعل مقومات الإنسان (الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) محققة لشرطي القيام الحر أعني القدرة على الانتاجين المادي والروحي شرطين للتموين الذي من دونه يمتنع تكوين الإنسان الحر والعزيز.

فسواء كانوا من الجهاديين أو من التطبيعين الخاضعين لحماتيهم كلاهما يمثل الثورة المضادة التي ترفض كل الحلول الناجعة لإشكالية الأحياز المفتتة وكيان الإنسان المشتت. وهبنا سلمنا لهم أن للأتراك نزعة الهيمنة هل اختيار جماعة الثورة المضادة والممانعة معناه خلو إسرائيل وإيران منها.

وما تفعلون حتى لا تكونوا محتاجين لا لإسرائيل ولا لإيران ومستغنيين عن تركيا التي تتهمونها بالعلمانية والفساد والأخونة في آن؟ من حال دون التكامل العربي أليست نفس الإمارة التي تقود الثورة المضادة؟ من يؤبد تمزيق الجغرافيا وتشتيت التاريخ متصورا أن المائل السائل سريع التبديد ثروة؟

وطبعا في هذه الحالة لا يمكن لمقومات الدولة أن تكون سوية: المرجعية تشوه القوى السياسية في حرب اهلية الهيئة الحاكمة والمعارضة يتنافسان على العمالة ووظائف الدولة العشر (خمسة للرعاية وخمسة للحماية) ينخرها الاستبداد والفساد: وذلك كله تعبير صادق عن شعب نخبه رمز التبعية والعبودية.

وختاما فوظائف الرعاية تكوينا (التربية النظامية والتنشئة الاجتماعية) وتموينا (الانتاج المادي والإنتاج الثقافي) وأصلها أو البحث العلمي مثل وظائف الحماية الداخلية (القضاء والامن) والخارجية (الدبلوماسية والدفاع) وأصلها جميعا الاستعلام والإعلام السياسي كلها فاسدة ثمرة للاستبداد والفساد.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي