لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهكشف حساب القرن الماضي
لو اكتفيت بما قلت في الفصل الاول لوصف اجيال النخب السياسية لكان في قولي ظلم شديد. فحتى الجيل الذي قبل لعبة الاستعمار ليكون خليفته في النقلة من شكله المباشر إلى شكله غير المباشر يمكن أن نجد فيه من كان يعتبر ذلك مرحلة ضرورية ينقلب بعدها على المستعمر.
لذلك فلست أشكك مبدئا في ولائهم للأوطان إذ قد يكون بعضهم يعتبر ذلك من المناورة السياسية الضرورية وأعتقد أن جل القيادات الإسلامية التي قبلت بهذه اللعبة تتصور التذاكي مع الاستعمار في مستطاعها. وهم يعتبرون ذلك من مفهوم السياسة هي “فن الممكن” بعد أن رأوا فشل “الجهاديين”.
ولهذه العلة فما يحدث في النخب السياسية ليس مقصورا على التنافس بين القوى بمنطق الصراع الداخلي الذي ليس له سقف يحول دون تجاوزه كليات المصلحة الوطنية بل هو بمقتضى خطط الاستعمار ونظام العالم يخضع لمنطق الصراع الخارجي الذي يجعل القوى السياسية خيول التنافس الدولي.
ولعل فشل المرحلة القومية في النصف الثاني من القرن الماضي خطؤها الأساسي كان توهم لعبة الاستفادة من صراع القطبين لبناء دولة قومية عربية. وكان ذلك غاية الجهل بوخيم هذا السلوك فهو قد أفقدهم عامل الوحدة للغالبية الكبرى بوهم تحقيق الوحدة القومية ولم يروا أنهم قد بعثوا النعرات القومية.
توهموا أن عرب المشرق لا يفرق بينهم إلا الأديان فضحوا بما يوحد أكثر من ثمانين بالمائة فيما يسمى بالوطن العربي أو بالأرض التي استعربت ثقافتها (وهذا أصح) ليتجاوزوا بما يتصورونه علة الاختلاف الوحدة مع عشر في المائة الباقية أعني مسيحيي المشرق.
تصوروا أن العلمنة الفوقية للأنظمة الفاشية والمستبدة يمكن أن تحقق وحدة عربية بالانقلابات والعنف. ولما كانت الأنظمة القبلية قد اختارت الصف الثاني في اللعبة الدولة صار الجميع مجرد بيدق في استراتيجيات تتجاوزهم لأن كلى الصفين كان فاقدا لمشروع يحقق الحجم المناسب للعصر.
لذلك فالتفتيت لم يكن في البداية استراتيجية العدو إلا بهذا المعنى: زرع ما سيصبح بجهوزه عامل تفتيت. ذلك ان زرع العداء بين العرب ووحدة المسلمين الرمزية (الخلافة) نبتة انجليزية معاصرة لوعد بلفور وكلاهما نبتتان لم تكن النخب السياسية العربية مدركة لأبعادها التي ما زلنا نعاني من ويلاتها.
ولما كان الانجليز أخبث شعوب أوروبا فإنهم علموا من أين تؤكل الكتف: ليس بالصدفة أن اختاروا لزرع النبتة الأولى الحرمين والنبتة الثانية القبلة الاولى. وليس بالصدفة أن عددوا المحميات التي تسمى الآن دولا والتي كانت مجرد قطع من أرض العرب وضعوا على كل واحدة منها قبيلة لتكون تحت حمايتهم.
بدأوا بجامعة عربية وضعوا في نظامها ما يجعلها مسخرة في تاريخ العرب: اي محمية ولو كان سكانها بعدد أصابع اليد يمكن ان تعطل أي قرار ولذلك فهي من خدع الوفاء بوعود إنجلترا لنخب لا تفهم العصر أو لا يعنيها أن تعمل بمقتضياته: فأهم شيء في الدولة هو الحجم الذي يمكن من شروط الحماية والرعاية.
وهم أعطوهم اسم الدول وحقيقة المحميات. وكان ذلك بين الحربين أو مرحلة زرع الجيل الذي قضى على الجيل الاول في حركات التحرير قبل الحرب الأولى وبعده بقليل. فالجيل الذي تم القضاء عليه هو الجيل الذي لم يكن يميز بين هدفين استراتيجيين: التحرر من الاستعمار وشروط الاستئناف الفعلي.
إنه جيل أفقه الاستراتيجي هو اعتبار النهضة لا تحصل إلا للأمة جمعاء وحرب التحرير من الاستعمار هي فرصة تحقيق ذلك في الأذهان والشروع في تحقيقه في الاعيان من خلال اعتبار دار الإسلام كلها ساحة حرب التحرير: لمن يكن من يحارب في غير قطره حتى لو احترم أخلاق الحرب يعتبر إرهابيا كالآن.
لم يكن التونسي الذي يذهب للجهاد مع المختار في ليبيا يشعر هو أو الليبي أنه أجنبي بل كان الجميع يشعر بأنه يدافع عن أرض الامة ولم يكن علماء النهضة وزعماء حرب التحرير يؤمنون بالحدود التي فرضها الاستعمار والتي صارت حدودا حديدية بإرادة من زرعهم في محمياته التي يسمونها دولا.
وهذا الجيل الذي قضى على الافق المتجاوز للقطريات هو الذي بدأ يفرض على المستوى الثقافي والروحي نفس العقلية بدعوى التحديث فباتت الثقافة المشتركة والتاريخ المشترك هدف كل التشويه الممكن حتى صارت النخبة المناظرة للنخبة السياسية في مستوى الأذهان -نخبة الرؤى الوجودية-مجرد أداة بيدهم.
لكنهم صمدوا إلى أن بدأت الهزائم تلحق بالجيل الذي زرعه الاستعمار ولما أنهى المهمة الأولى -الحدود الحديدية بدعوى الدولة القطرية-وفشل في المهمة الثانية -تمزيق الثقافة الواحدة والتاريخ الواحد كان لابد من جيل آخر باسم الثورة على هذا الجيل المتهم بالخيانة: جيل الانقلابات والشعبويات.
فتم القضاء على مقومي الكيان السياسي القادر على القيام المستقل: حكم الأميين من العسكر وتربية الأميين من المثقفين الذين يدعون التحديث والاشتراكية. قضوا على شروط اقتصاد فعلي وعلى شروط ثقافة فعلية أي على الانتاجين اللذين من دونهما ليست الدولة وحدها هي التي تفسد بل الجماعة عينها.
جعلوا الاقتصاد بيد مافية العسكر والثقافة بيد من جوعوهم ليصبحوا مجرد أبواق تفتي لهم. وهذا صحيح بالنسبة إلى نوعي الأنظمة القبلية والعسكرية. وهو لم يكن ظاهرا عند الأنظمة القبلية لما كانت مترفهة ترشي شعبها لكنها الأن وقد أصحبت في وضع اقتصادي لا تحسد عليه مآلها مثل الآخرين.
والآن فلأشرح الخطة الاستعمارية التي تتأسس على الفعل اللامباشر: يفعل في شروط الفعل المنتظر منك ليحول دون نجاحه مهما فعلت. وشروط الفعل هي التي حددتها عندما وضعت نظرية الأحياز: هو يفعل في المكان ليجعلك عاجزا عن الشرط المادي لوجود. ويفعل في الزمان ليجعلك عاجزا عن الشروط الروحي.
وبهذا المعنى فالجيل الأول الذي زرعه الاستعمار كان لتثبيت تفتيت المكان أو الخارطة التي وضعها الاستعمار قبل أن يرحل: نخب هذا الجيل السياسية اعتبرت ما سلمه لها الاستعمار يستحق اسم الدولة وهي بالجوهر لان يمكن ألا يكون إلا محمية بالاستعمار غير المباشر.
هو إذن جيل تثبيت ما حققه الاستعمار من تفكيك للوحدة المعنوية لدار الإسلام بيد المسلمين أنفسهم أعني الجيل الذي استعمله للقضاء على آفق الجيل السابق أعني الجيل الذي كان يؤمن بأن التحرير شامل للأمة وأنه فرصة تحقيق شروط الاستئناف الذي يعيد للأمة عزتها وقدرتها في عصر العماليق.
وقد نجح هذا الجيل الذي زرعه الاستعمار في تحقيق تفتيت دار الإسلام بل هو بدا بمشروع لاورنس وسايكس بيكو وبلفور على الاقل في الأرض التي استعرب جل سكانها -لأن العربي بالعرق لا يكاد يوجد إذ حتى الجزيرة العربية فإنها اختلطت دماؤها مع كل المسلمين إما بالهجرة أو باستجلاب النساء والعبيد.
لكنه فشل في تحقيق تشتيت التاريخ-فتت الجغرافيا وفشل في تشتيت التاريخ-وذلك بفضل قوة الثقافة الإسلامية وصمود روح التاريخ المشترك على الأقل في الطبقات الشعبية والفضل الاول والاخير هو للقرآن والعربية والثقافة البعد الثاني من الزمان: زمان الحديث مع زمان الحدث.
والحرب الجارية حاليا هي على هذا الصمود. وطبعا هيهات أن تنجح. ذلك أن ثورة الشباب بجنسية لها فضيلة الجمع بين الثورة القيمية والثورة الحضارية. فهي تريد تحقيق الحريتين اللتين هما جوهر الإسلام: الحرية الروحية للفرد حتى يؤمن ويعمل صالحا والحرية السياسية للجماعة حتى تتواصى بالحق والصبر.
ولأنها كذلك فهي تدرك أن شروط السيادة هي التي تضمن شروط الحريتين: وإذن فهي تدرك أن الثورة ينبغي أن تكون مثل التي قضى عليها الجيلان اللذان وصفنا بأن تصبح حرب التحرر فرصة لتحقيق شروط الحجم المناسب للعصر بالتناسب مع حجم للنشأة الأولى وحجم الاستئناف.
فلا يمكن لشباب الامة بجنسيه أن يحقق أهداف الثورة المباشرة في الأذهان وغير المباشرة في الأعيان (الحرية والكرامة) من دون شروطها (وحدة الاحياز الخمسة) التي ينبغي ان تكون مباشرة في الأذهان حتى تتحقق في الاعيان فتكون عين تحقق الأهداف الأولى. فهذا هو شرط نقض غزل الاستعمار وعملائه.
هذا الفصل لم أكن أنوي املاءه لأنه في الحقية مجرد وصل بين الكلام في النخبة السياسية والنخبة الرؤيوية. فمنطق كلامي على النخب يتبع الترتيب التالي: أهداف الإرادة (نخبة السياسة) وعلاقتها بأهداف الوجود (نخبة الرؤى) ثم أدوات الإرادة (المعرفة والعلوم) وأدوات الوجود (الحياة والفنون).
وفي الغاية نصل إلى القدرة التي هي ما يحقق السيادة لأنه متعلق بالإنتاجين المادي (الاقتصاد) والروحي (الثقافة علما وفنا): وتلك هي النخب الخمس التي من دونها لا يمكن فهم حال أي أمة صعودا أو نزولا. فمن دون عمل هذه النخب بتناغم تقتضيه رسالة ذات استراتيجية لا وجود لأمة سيدة وفرد حر.