كشف حساب القرن الماضي من سراب نخب الأعراب – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله كشف حساب القرن الماضي

في كلامي على الوجود وتناسبه نخبة الرؤى الوجودية التي تتعلق بمنظور التربية مثلما كان كلامي على الإرادة مناسبا لنخبة السياسة التي تتعلق بمنظور الحكم سأنطلق من أكبر حدث في لحظتنا الراهنة تحسم نهائيا الحرب بين الكاريكاتورين التحديثي والتأصيلي في رؤى الوجود التي سادت بين الفتنتين.

سبق أن بينت أن الامة عاشت في حالة طواري وقوانين استثنائية منذ حروب الفتنة الكبرى (بين القائلين بالوصية والقائلين بالاختيار في الحكم) إلى حروب الفتنة الصغرى (بين الدين واللادين في نظام حياة البشر الروحي والسياسي): معركة الكاريكاتورين التحديثي والتأصيلي حالت دون التأصيل والتحديث.

وقبل الخوض في إشكالية نخبة الوجود أو الرؤى التي هي دينية وفلسفية في آن لا بد من أن اشير إلى أن تحليلاتي اريدها جامعة للنظر المغرق في التجريد (مثل نظرية الأحياز ونظرية المعادلة الوجودية ونظرية الرمزين ونظرية العلاقتين إلخ..) والمغرقة في التعيين: ومبدئي أن النظر كلما سما عانق العمل.

أحاول ما استطعت أن اتجنب جعل كلامي يصطبغ بالتجريد الفلسفي لكني في هذه الحالة لا مفر لي من الكلام على قضية أرهقتني: لو كانت المعرفة كلها مكتسبة لاستحال على الإنسان شرط العلم والعمل في آن. فالاكتساب يجعل كل معرفة بعدية ويمنع القول بالقبلي فيها. والعمل حينها يكون دائما رد فعل لا فعل.

وفي هذه الحالة يمتنع أن توجد نخبة الوجود أو الرؤى الوجودية Die Weltanschauung أو رؤى العالم المتجاوزة للموجود إلى قبليات أو متعاليات لا تستمد من ماضي التجربة الإنسانية إلا إذا توهمنا أن التاريخ مجرد تكرار لماضيه. بدأت بنخبة السياسية دون الإشارة إلى أن لهم رؤى تقودهم.

فبمقتضى رؤاهم لما يريدون وما يعلمون وما يقدرون عليه وما يذوقون وما يرون يكون سلوكهم تجاه ما يعترضهم من مناسب أو غير مناسب مصادق أو معادي لعملهم بهذه الرؤية. فلكأنهم مترجمون لما في رؤاهم الذهنية إلى ما في أفعالهم العينية مع كل مناورات صراع الإرادات في الحياة.

بعد تعريف العلاقة بين النخبة التي بدأنا بها والنخبة التي نمر إليها الآن مسعاي هو فهم دور نخبة الرؤى والتي تتمظهر إما في الخطاب الديني أو في الخطاب الفلسفي في قيام الامم والحضارات. وأول حكم مسبق سخيف ينبغي تجاوزه هو المفاضلة بين النوعين الديني والفلسفي إلا إذا حرفا.

فمن الأكاذيب دعوى علمية الفلسفة واسطورية الدين. كلاهما يراوح بين البعدين: فما فيهما من معرفة بعدية علمي وما فيهما من معرفة قبلية اسطورة بمنطق من لا يؤمن بالقبلي من المعرفة. وهي في الحد الأدنى مقدرات ذهنية بلغة ابن تيمية (سواء كانت من جنس العلم أو من جنس الادب).

وكلاهما مبني على إيمان ضمني بأن للوجود نظاما وبأن الإنسان يدرك فطريا هذه الحقيقة وله فطريا القدرة على استخلاصها بتأمل بسيط حتى في مجرى حياته الشخصية. فإدراكه لذاته ولما يعتمل فيها يجعل ذاته وكأنها عينة من الوجود كله وهو يعيش حاضرا التذكر والتوقع والمراجعة الدائمة لذاته.

وليس من شك في أن تجارب الماضي لها دور في توقع المستقبل لكن التوقع ليس التذكر. ومن ثم فللإنسان معرفة قبلية حتى في شكل منظومة فرضيات للامتحان وهو معنى العلاقة بين الرؤية الوجودية وسياسة الذات أولا وسياسة الجماعة ثانيا وهذا هو فضاء الفعل وتلويناته الخلقية.

مشكل نخبنا الرؤية أنها عديمة الرؤية وخاصة في مرحلة الصراع بين الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي: كلاهما لا يؤمن بما سميناه الرؤية القبلية أي كلاهما متبع وغير مبدع. فكاريكاتور التأصيل يتصور الاستئناف تكرار ما يعتقده ماضي الذات وكاريكاتور التحديث يتصوره تكرار ما يعتقده حاضر الغرب.

ومعنى ذلك أن التوقع عندهما تذكر سطحيات ما يتصورونه حقيقة مثال الذات المستمد من ماضيها أو من حاضر غيرها. فيكون كلا الكاريكاتورين خالطا بين مفهوم المثال الأعلى الكوني شرطا في قبلية المعرفة واعتبار أحد تعيناته لدى الذات أو الغير مطابقا له بصورة تجعل البعدي قبليا وتلغي شرط الإبداع.

وكل أمة مات فيها شرط الإبداع أو المثال الاعلى المؤسس لكل الرؤى القبلية باعتبارها ما به يتجاوز الإنسان الحاصل في الاعيان من الموجود إلى الحاصل في الأذهان من المنشود تصبح أمة جامدة كل افعالها بعدية أي إنها تنتظر غيرها لتحاكي ما يسبقه إليها فلا تغامر ابدا لتبدع: ببغاوية مطلقة.

وطبيعي أن يكون الببغاء مقلدا لسيده خاصة إذا كان بيده رزقه. لذلك فكاريكاتور الحداثة وكاريكاتور الأصالة كلاهما تابع للنخبة السياسية التي هي بدورها كاريكاتور حداثة (الأنظمة العسكرية) وكاريكاتور أصالة (الانظمة القبلية) وفي الحقيقة كلاهما جامع بين النوعين لأن له خطابين للداخل والخارج.

لماذا قلت “ما يعتقده”؟ لأن مدعي التأصيل حصر ما يحاكيه من الماضي في قشوره إذ هو لا يعلم من الماضي إلا ما آل إليه عندما مات. ومدعي التحديث حصر ما يحاكيه من الغرب في قشوره إذ هو لا يعلم من حاضره إلا ما آل إليه وهو يحتضر. الحي من الحضارة واحد: إنه علاج العلاقتين والإنتاجين.

وفي الحقيقة نظرية العلاقتين والانتاجين خلدونية وليس لي من فضل غير صوغهما النسقي: فالجماعة تجتمع لسد الحاجات (العمران البشري) وللأنس بالعشير (الاجتماع الإنساني) وهذان هما العلاقتان الأولي بين الجماعة والطبيعة مورد رزقها والثانية في الجماعة بين الناس للعيش سعداء وأحرار.

ولا يتحقق ذلك من دون الإنتاجين: المادي لسد الحاجات والروحي للأنس بالعشير ولا يكون ذلك من دون إبداع الحلول العلمية والعملية أولاهما باكتشاف قوانين الطبيعة والثانية باكتشاف سنن التاريخ أو سنن تنظيم حياة البشر بصورة تقلل من التناكر وتكثر من التعارف بينهم.

وفي علاج العلاقتين بالإنتاجين لا يوجد أدنى فرق بين الحضارات والشعوب من حيث الحقائق حتى وإن اختلفت الأساليب من جنس اختلاف اساليب ديزاين السيارات بين الدول التي تنتجها: قوانين الميكانيكا واحدة لكن استعمالها في شكل السيارة وجمالياتها واكتمال وظائفها أمر أسلوبي لا غير.

والرؤى إذن نوعان: الأسلوبي فيه الكثر من الخصوصيات وهو ثانوي والمقوم الفعلي كوني لأنها يتعلق بالشروط الضرورية والكافية للقيام المستقل: فكل شعب لا يستطيع حماية ذاته ورعايتها ليس شعب أحرار. وما به تتحقق شروط الحماية والرعاية هو السياسة تربية لشروط التكوين وحكما لشروط التموين.

وكلا النوعين من النخب الرؤيوية دينية كانت أو فلسفية في لحظتنا الحالية تخلط بين الأسلوبي والخصوصي وبين المقوم الذي لا خصوصية فيه إلا بسبب الجهل بشروط العلاقتين العمودية بين الجماعة والطبيعة والأفقية بين البشر وبأصل الحلول العلمية والعملية التي هي واحدة في كل الحضارات المبدعة.

وقد اجتمع هذان الفهمان العقيمان لدى أصحاب المشروعات الفلسفية العربية في التركيز على الخصوصية والتطبيل لما يسمونه ما بعد الحداثة الذي هو عودة إلى كل ما ينافي الكونية الإنسانية سواء في عبارتها الدينية في الإسلام أو الفلسفية منذ أن ميز العقل الإنساني بين الأمر الواقع والامر الواجب.

فالتمييز بين الامر الواقع والأمر الواجب يجعل المعرفة البعدية ممثلة للأمر الواقع وسيطرتها تعني أن فكر الإنسان مجرد مرآة لا ترى من الوجود إلى ظلاله (ابستمولوجيا الموجود) لكنه ليس مجرد مرآة فكيانه تشريع المنشود باشرئبابه إلى الرب المعبود أو المثال الاعلى: وحدة الديني والفلسفي.

هذا هو جوهر الرؤى الوجودية لدى الأنسان الحر روحيا وسياسيا. فبالحرية الروحية يشرئب إلى المثال الاعلى وبالسياسة يسعى لتحقيق ما يقدر عليه منه. وحينها لا يمكن للسياسي أن يكون خاضعا لما يسمونه فن الممكن لأن الممكن إضافي دائما إلى ما يمكن من تجاوز المضطر إلى الحر.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي