لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهكشف حساب القرن الماضي
الفصل الأول
جرت العادة أن يقوم الناس بكشف الحساب على رأس كل سنة للعام المنصرم. لكني أريد كشف حساب قرن بدايته وعد بلفور ونهايته وعد ترومب لأفهم علل حال العرب التي يمكن تلخيصها في جملة واحدة: كيف أمكن لأردوغان في عقد ونيف أن يحقق ما عجز عنه اثنان وعشرون طرطورا عربيا. فناتج تركيا الخام أكبر من دخل كل العرب.
لو كان اردوغان تسلم الحكم في تركيا معافاة مما أصابهم هم منذ قرن لقلت إن ما تقدم عليه هو الذي يفسر الحصيلة وهو ما يميل إليها كاريكاتور التحديث من النخب العربية إذ لعلهم ينسبون ما حققته تركيا إلى نظامها العلماني: لكنه وجدها في وضع لا يقل سوء عما عليه العرب متسوليهم ومحمييهم.
ولو كان قد واصل العلمنة لقلنا إنه استفاد منها فجنب تركيا ما ينسبه سخفاء الحداثيين العرب من الهيمنة الإسلامية عامة والإخوانية خاصة: لكنهم يجمعون على اتهامه بهما. وهو ما يجعلهم يحصرون الفرق في فضائل القيادة الراشدة ورذائل الطراطير العرب الذين حتى فقراؤهم اصابهم داء الترف المافياوي.
ولا تهمني فضائل القيادة التركية في العقد ونيف الأخيرين إلا كبداية لكشف الحساب وشبه مقياس للفروق بين الحالين: شعب بعدة ربع العرب حقق بقيادة راشدة في خمس مدة حكم طراطيرهم وطنا يتجاوز بإمكاناته ألف مرة ما لتركيا وبمساحته عشرين مرة مساحتها. همي ليس ما سر نجاحه بل ما سر فشلهم.
سيقال لي وأنت ما دخلك: لماذا لا تهتم بمجالك وتترك الامر لأهله مثلما كان يفعل الفلاسفة العرب قبلك إن كنت تتوهم أنك منهم؟ وطبعا لا أتوهم أني منهم ولا يشرفني أن أكون منهم. فعندما أعلم أن جلهم كان أكثر خدمة للسلاطين من فقهاء عصر الانحطاط وغير مبالين بأوضاع الامة استحي بديلا منهم.
لما يعلم الشاب العربي من الجنسين أن ابن رشد الذين يعتبرونه خاتم سلسلة الفلاسفة على الاقل في بلاد السنة وأنه عاصر أحداث الحروب الصليبية دون أن يكون لذلك أدنى اثر في فكره واجتهاده -تسليما بأن شرح نصوص أرسطو وكأنها تفسير قرآن يعتبر فكرا- سيفهم علميا وعمليا لمن عرف عني تفضيلهم.
فالغزالي وهو اقل الثلاثة الذين أفضلهم ناضل على الأقل بأربع مؤلفات: نقد السنة ونقد الباطنية ونقد الفلسفة ونقد الكلام ولم يكن غير مبال بدور النظر في العمل الآن وهنا في عصره. أما ابن تيمية وابن خلدون فلا حاجة لبيان دورهما في العلم وفي العمل النضالي الاول في المعارضة والثاني في الحكم.
ولأني اعتبر نفسي من نفس المدرسة احاول قدر المستطاع المشاركة في احداث تاريخنا الذي هو كوني بالطبيعة ولعل لحظته الراهنة رغم طابعها الانفعالي في الظاهر أكثر لحظاته إبرازا لهذا الدور على الأقل كما تعين فيما يقدم عليه شباب الأمة بجنسيه من علم وعمل لتحقيق شروط الاستئناف.
ولا تصدقن من يوهم بأن اللامبالاة بأحداث تاريخ الشعب الذي ينتمي إليه العالم أو المفكر من شروط إخلاصه لاختصاصه. فهذا ليس شرطا ضروريا ولا كافيا لأن يبدع في اختصاصه وفي مشاركته الفعلية في بناء دور أمته في التاريخ. ومن الأمثلة الثلاثة المشار إليهم ثم بناة ألمانيا الحديثة: جمع الهمين.
فكنط وفشت وهيجل وشلنج وهردر وشلاير ماخر وعلى رأسهم جوته كلهم كانوا مثال الالتزام بمعارك ألمانيا وهي تسرع الخطى لكي تلحق بشعوب أوروبا الذين تقدموا عليها في مجالات الإصلاح التربوي والبحث العلمي عامة والإصلاح السياسي والبحث الإنساني والدستوري والخلقي خاصة.
لذلك فكشف الحساب لن يقتصر على النخبة السياسية حكاما ومعارضة بل على أصناف النخب الخمسة الذين حددت دورهم فيما تقدم من البحث أعني نخبة الإرادة أو الساسة ونخبة المعرفة أو العلماء ونخبة القدرة أو الاقتصاديون ونخبة الحياة أي الفنانون ونخبة الوجود أو أصحاب الرؤى الدينية والفلسفية.
فمن الظلم تحميل المسؤولية للنخبة الاولى نخبة الإرادة أي الساسة حكاما ومعارضين خلقيا ومن الحماقة معرفيا تصور الدول والأمم تفعل بساستها وحدهم. فالدول مثل أي فريق رياضي أو أي جوقة موسيقية لا تفعل إلا بالتناغم بين الموسيقيين والرياضيين في تحقيق النتيجة التي هي موضوع كشف الحساب.
ولنبدأ بكشف حساب نخبة الإرادة بمعنى النخبة التي تجمع المتنافسين ممن يغلب عليهم مقوم الإرادة ويدفعهم لتزعم تمثيل إرادة الجماعة. فنخبة الإرادة ظاهرة طبيعية في كل جماعة وهي من اسرار دينامية الجماعات حتى في العاب الاطفال في الاحياء: يبرز فيها من له ميل إلى القيادة بانتخاب طبيعي.
النخبة السياسية حكما ومعارضة هي حصيلة التنافس بين أصحاب الميول القيادية والاحزاب تمثل ما يشبه تربية خيول السباق في كل أمة لانتخاب القيادات إذا كانت الأمة مؤلفة من افراد أحرار من الجنسين. لكن الشعوب التابعة مستتبعها يختار الأراذل للقيادة ويريدهم من فاقدي الإرادة اصلا.
هو يريد طراطير يسمعون كلامه ويطيعون أوامره ولا يريد قيادات فعلية. وقد ميز ابن خلدون بين الرئيس والسيد بكون الأول قيادته تأتي من اعتراف غيره به وتقديره والثاني قيادته تأتي من القوة والعنف الذي يفرض به نفسه على من لا يعترفون بقيادته لعلل خلقية أو نفسية أو حتى عاطفية.
وتوجد طريقتان لإظهار هؤلاء الطراطير بمظهر القادة: الأولى يستعملها الاستعمار المباشر لتستلهمه القيادة بعده والثانية يستعملونها هم حتى يفرضوا صورة القائد الملهم. فالاستعمار يبرزهم كزعماء تحرير وهم يبالغون في “المقاومة والممانعة” العنترياتية فتنطلي أكاذيبهم على الشعب سليم الطوية.
ففي كشف الحساب لا بد من التمييز بين جيلين من النخب السياسية التي حكمت أو عارضت في بلاد العرب: الجيل الذي أعده الاستعمار في مرحلة الكفاح من اجل التحرر (بين الحربين الكبريين) والجيل الذي ادعى الثورة عليه باسم مقاومة الاستعمار وخاصة (بعد الحرب الثانية) منذ خمسينات القرن الماضي.
ولا بد من التنبيه أن مرحلة المقاومة للتحرير بدأت بجيل من ثقافة مختلفة تماما عن هذين الجيلين والاستعمار ساعد في القضاء عليه بإبراز الجيل الذي أعده ليكون قائدا لحركات التحرر من عملائه -وبعضهم ليس بوعي منه-الذين حققوا له ما عجز عنه طيلة قرن أو أكثر من الاستعمار المباشر.
ولعل علامتين تكفيان للدلالة على ما أعني: فيكفي أن نعلم أن الابداع الفني العربي والتعليم العربي لم يكن رافعة لتوحيد لغة الامة وإحيائها بل صار الأول لتشعيبها والثاني لتغريبها: قتل العربية بجعل أهم الفنون عامية (وخاصة بعد الراديو والتلفزة) وبجعل أهم العلوم تدرس بلغة المستعمر.
لكن العلامة الأهم والشاملة هي محاولات كل هذه النخب اعتبار الدول القطرية مضطرة لتحويلها إلى أمم تستمد شرعيتها من تحقيق الانفصال بالعودة إلى تراث متقدم على التراث المشترك أو تال له حتى تجعل من بعض امة أمة تقليدا ما حدث في اوروبا في بداية النهضة والحداثة عندها.
وفي ذلك خطآن هما سر التخلف الدائم والمتزايد في كل بلاد العرب: فما فعلته اوروبا كان بين شعوب من ثقافات ولغات مختلفة -وهو ما حدث عند المسلمين حتى قبل الاستعمار-وليس في شعب لأغلبيته الساحقة لغة وثقافة واحدة وليس في عصر العماليق التي تتطلب حجوما مناسبة في التنافس العالمي.
وهاتان العلتان أو الخطآن هما سر التبعية البنيوية التي تنتج عن استحالة قيام دول بحجم قزمي في عصر العماليق وقد فهمت أوروبا ذلك رغم أن دولها كبيرة وغنية وكانت إمبراطورية: فهمت أنها أمام العملاقين صارت مستعمرات فسعت لاسترداد شروط الدور بالجمع بين القطرية والقارية.
فعندما تضع لغتك بين فكي كماشة العامية ولغة المستعمر تقتل أهم مقومات الوحدة وعندما تبحث لشرعية الاقطار ما تقدم على التاريخ المشترك أو ما تلاه تجعلها شبه مستحيلة لأنها تحيي أحقاد الماضي كحال الصراع بين القوميات في نفس الجماعة التي لم تكن موجودة اصلا فأنت تنتج محميات لا دولا.
وفي كل ذلك كان الجرم الأكبر لنخب مصر: فهم توهموا بنزعة فرعونية أن اللهجة المصرية -بل القاهرية لأن الكثير من مناطق مصر أقرب إلى العربية من القاهرة-ينبغي أن تصبح لغة العرب بفضل سيطرتهم على الإعلام والفنون المحولة بالراديو والتلفزة والسينما حتى صارت في آخر ركب الشعوب وركب العرب.
ولهذه العلة فأكثر من تسع وتسعين في المائة من سياسي العرب أميون. فحتى في عصر الانحطاط كان الحكام على الاقل لهم بلاط وبطانة من أفضل ما يوجد في عصرهم من المبدعين في الفنون التي كانت سائدة عندهم الادب عامة والتاريخ والفقه والكلام. لكن بطانة حكامنا كلنا يعرف مستواهم وتكوينهم.
ويكفي أن تسمع حاكما عربيا يخطب. فأي مستعرب إسرائيلي أو حتى أمريكي له سلطان على لسان العرب لن تجد له مثيلا بين من يتلعثم من حكامنا حتى في قراءة السلام أو تحية الحاضرين فضلا عن التفكير الدال على أنه يفهم ما يقرأ بلغة الخليل وسيبويه والمنطق وذوق التلفظ موسيقى الكلام.
ولو قارنت بمن عاصرت من رؤساء فرنسا لذكرت أن دوجول من أجود الكتاب وأنه يقرأ وأنه استراتيجي وأنه مقاوم حقيقي. وان بومبيدو مبرز في الثقافة الكلاسيكية يعني الفرنسية واللاتينية واليونانية وأن جيسكار خريج مدرسة عليا وأن شيراك مثله وذواقة في الآثار وأن ميتران كاتب بليغ وحتى ماكرون.
اذكروا لي سياسيا عربيا واحدا له هم يتجاوز مناورات الكرسي بمبتذلات المخابرات والمؤامرات والانقلابات واستعمال اراذل البصاصين والقوادين من حثالة المثقفين الذين لا يتجاوز فهمهم للحداثة البارات والحانات وما بين السرة والعانات ظنا أن الهندام والكرافات هي الثقافة والحداثة بالعمالة للسفارات.
وطبعا لو كان ما أعنيه بالأمية السياسية نفي أن لهما شهادات وأن الـ “د.” لا تفارق أسمائهم وألقابهم وعناوينهم لكن ما اعنيه هو تمثيل إرادة لها وطموحها في استعادة دورها لئلا تبقى محميات متسولة لدى المستعمر الذي يمتص دمها ويسكتهم بما يبقيه لهم من فتات في شعوب لا تكاد تقتات.