ه
قطعنا نصف الذريق
لا أشك لحظة في أن الكثير يعتبر توصيفي للوضع الحالي كما تجلى في الانتخابات الرئاسية ومفاجآتها توصيفا شاذا يمكن أن يعتبر من جنس الظاهرة التي أريد تفسيرها فأكون كمن ينهى عن خلق ويأتي مثله.
سيقال اعتراضا على ما أدعيه:
- فهل عندك جهاز مخابرات حتى تزعم وجود اختراق يهدد تونس؟ أم تدعي أنك متقدم على أجهزة الدولة في الذود على أمن الوطن؟
- أم هل تدعي الكشف الصوفي فتتطلع على ما في الصدور والأفئدة لدى من تتهمهم بالتآمر على أمن تونس تآمرا تفسر به ما حصل؟
- أم أنت ممن يحاولون تبرير فشل قوى تونس السياسية حكما ومعارضة بنظرية المؤامرة للتنصل من تحمل المسؤولية كعادة كل العرب؟
- وإذا كان الجواب بالسلب عن هذه الأسئلة الثلاثة مفروغا منه فكيف تبرئ نفسك من نتيجة السؤال الثالث الحتمية أي كونك ككل العرب تبحث عما تنيط به العجز فتلجأ إلى نظرية المؤامرة؟
لذلك قررت أن أعرض على القارئ الكريم الذي يقبل الصبر على التحليل الدقيق لمعطيات المشكل. فالأمر في محاولتي غني عما يطلبه الاعتراض الأول والاعتراض الثاني والاعتراض الثالث وثلاثتها اعتراضات لا أجادل في وجاهتها بل يكفيني بيان حقيقة ما يجري بدفع القائمين به إلى الخروج من جحورهم والشهادة على أنفسهم بما بدأ يظهر من ردود شديدة التشنج. وتلك هي بداية الاعتراف بما أوجهه لمن وراءهم فيتجلى لمن يكتفون بظاهر الأحداث عندما لا ينظرون إلا إلى تونس بمعزل عن التاريخ وعن الوضع الإقليمي والعالمي الحاليين. وهو أمر استغربه حقا من مثقفين يدعون التفكير وحتى التفلسف ونقد من يحاول الفهم إلا لإثبات ذواتهم أو للتبرؤ ممن صار موصوفا بتفاهات الخصوم فيعجمون على استعملا ما جهزهم الله به من عقول وما وفرته المرحلة التاريخية من حرية السؤال النقدي الذي لا يستثني شيئا بما في ذلك ذاته.
وذلك هو ما سميته نصف الطريق نحو النصر على أعداء محاولات تونس لتأسيس ديموقراطية قد لا تكون مثالية لكنها أفضل الممكن حاليا النصر في معركة الوعي وليس لي ادعاء تجاوزها لأني أولا لست صاحب قوة سياسية ولا أنتمي إلى أي من القوى السياسية محلية كانت أو إقليمية أو دولية لأني أميز بين حركة النهوض كفعل تاريخي للأمة والنهضة كحزب تونسي. والكل يعلم أني أول من بين – في نص استقالتي الذي نشر حينها – ما قد يقضي على النهضة في تونس عندما استقلت من المجلس والحكومة بعد سنة وكان يمكن لو كنت ممن يهوون الوصول إلى شيء عن طريق السياسة أن أداهن وأنافق مثل كل السياسيين “القافزين”. لكني ولله الحمد لست مصابا بالإخلاد إلى الارض داء هو علة كل ما يفسر تردي الاخلاق السياسية.
والآن فلأبين الطريقة التحليلية التي أوصلتني إلى ما يعتبره البعض شبه قول بنظرية المؤامرة وهي طريقة شديدة الوضوح لأنها تجمع بين الطريقة العلمية في المعرفة التاريخية والطريقة العلمية في المعرفة الطبية:
• فأولا تاريخ الإقليم من حيث ما بين مكوناته وما بينه وبين أجواره من صراعات محدد أول إذ لا شيء ينفي أن المعركة التاريخية في الحضارتين وبينهما ما تزال متواصلة بل وتزداد حدة.
• وثانيا الكشف عن العلل في الطب ينطلق من تحليل الأعراض وتصنيفها لاكتشاف دلالتها التي تعين طبيعة المرض ودائما في شكل ترجيحي وليس حتميا ومن ثم تعيين المرض الأرجح الذي عليه علاجه.
وبذلك يكون التاريخ محددا لطبيعة الأعراض الداخلية والخارجية ومحدداتها الخصوصية التي ننطلق منها ويكون تصنفيها راجعا إلى طبيعة القوى السياسية وطبيعة علاقاتها في الإقليم وفي العالم. والطريقة الأولى جزء من الثانية دائما إذ التشخيص الباحث عن التعليل لا يقتصر على عين المريض بل هو يحتاج إلى تاريخه الصحي وبيئته خاصة وحينها يبدا التشخيص والتعليل والعلاج التي هي مراحل المنهج الطبي ذي المراحل الخمسة مرة أخرى: - عين المريض
- وتاريخه الصحي
- وبيئته الصحية (الإرث العضوي) والثقافية (التراث الرمزي)
- واستنتاج التعليل بتأويل الأعراض
- وختاما استنتاج العلاج.
فنصل إلى العلاج المناسب ترجيحيا وليس يقينيا. ذلك أن ما حدث في تونس مؤخرا ليس بدعا لأن جنيسه يقع يوميا في العالم كله وفي الإقليم وخاصة منذ أن أنشئت فيه إسرائيل وهو أمر تضاعف منذ أن حصلت ثورة الخميني وصارت تسعى للانتقام من العرب بوصفهم علة سقوط امبراطوريتها التي تعلن أنها استردت الكثير منها في الاحداث الراهنة المحددة لشروط فهم ما يجري في تونس وفي غيرها من بلاد العرب والمسلمين.
ولكن حتى قبلهما وخاصة منذ أن صارت شعوبنا منفعلة لترديها إلى حد جعلها عاجزة عن الفعل بعد هزيمة التخلف عن ثورات الحداثة الدينية والفلسفية والعلمية والتقنية والسياسية فانقلبت العلاقة بيننا وبين الغرب فغلبنا وحكمنا الاستعمار لقرون مباشرة ثم بعيد الحرب العالمية الثانية صار حكمه لنا غير مباشر بمن انتخبهم منا ليكونوا أوصياء علينا في خدمة مصالحه.
وإذن فسأعرض الكيفية التي توصلت بها إلى فرضيتي في فهم ما حدث فجعل سعيد وقائده الماركسي صاحبي الدور الأول في الأحداث دون سابق انذار للغافلين ممن يعتقدون أن تونس صارت جزيرة لا علاقة لها بما يجري في الإقليم والعالم ولا تعليل لأحداث سياستها إلا أخلاق سعيد ونظافته وفساد منافسه حصرا للمعركة بين متناقضين بمنطق الثالث المرفوع.
لذلك بدأت بمحاولة توصيف القوى السياسة التي تعرف نفسها بالانتساب إلى ما يسمى بثورة الربيع مدحا وثورة البرويطة هجاء في تونس. واعتمدت معيارا فيه الكثير من الغرابة عند من يتصورون السياسية معركة إرادات عفوية تغيب فيها الاستراتيجيات شديدة التعقيد وبعيدة الغور وخاصة في الشعوب التي تجاوزت السذاجة البدوية التي لم يغادرها عرب الإقليم. وتلك حال تجاوزتها إسرائيل وإيران وتركيا وروسيا وأمريكا ونكص إليها العرب من الماء إلى الماء.
لكن هذا المعيار الذي اعتمده رغم غرابته عند من نكصوا إلى البداوة هو المعيار المناسب لفهم المعركة الجارية في تونس حاليا أي معيار ارتباطات قواها السياسية بالقوى الخارجية في الإقليم وفي العالم.
فالجنس الأول مضاعف وله نوعان من القوة السياسية: كلاهما يتحدد بارتباطات خارجية عالمية: - اليسارية أي الجبهة وهي متعددة وعديمة الاستراتيجية الذاتية.
- والليبرالية بقايا الحكم السابق وهي متعددة وعديمة الاستراتيجية الذاتية.
والجنس الثاني مضاعفة وله كذلك نوعان من القوة السياسية: كلاهما يتحدد بارتباطات خارجية إقليمية:
3. القومية وهي متعددة وعديمة الاستراتيجية الذاتية بل هي تابعة.
4. والشيعية وهي القوة السياسية الوحيدة التي لها وحدة ولها استراتيجية ذاتية واضحة في الإقليم وفي العالم.
5. أما النوع الخامس والأخير فهو القوة التي تسمى الإسلام السياسي عامة -أو بتسمية تحقيرية الإخوان- أعني القوة الإسلامية التي ساهمت في مقاومة الاستبداد وكانت أكثر ضحاياه وشاركت في الثورة مثل غيرها وهي قوة تناصبها هذه الأنواع الأربعة العداء.
وهذه القوة مضطرة لأن تكون دائما في موقع الدفاع إذ هي تحاول حماية موقع ليس بالقياس إليهم وحدهم بل بالقياس إلى القوى العالمية وأذرعها في الإقليم التي تساندهم ضد الاستئناف ما يجعلها مضطرة لترضيتها حتى تحافظ على بقائها: وتلك هي وضعية النهضة في تونس. ولها ما يناظرها في كل بلاد ما بعد الحرب العالمية الأولى وهي قوة سياسية متجاوزة للحدود الاستعمارية ولها نوع من الوحدة لكنها عديمة الاستراتيجية ومضطرة للاقتصار على التكتيك لأنها في موقع دفاعي.
فإذا اعتمدنا على هذا التصنيف والتوصيف أمكن أن نستنتج علل ما نراه من تحالفات بين القوى السياسية الإقليمية والقوى العالمية في المعارك التي تجري في كل بلد عربي على حدة وفي الإقليم عامة. فالنوعان اليساري والقومي يحركهما الضربان التاليان من الدوافع:
• فاليساري دوافع حركته عالمية تعود إلى معركة تنتسب إلى رؤية عالمية ذات صلة بصراع الحضارات المستبطن (تنويري ظلامي-غربي شرقي) متجاوزا القومي والديني في الظاهر.
• والقومي دوافع حركته إقليمية تعود إلى معركة تنتسب إلى تأويل الخيار الحضاري الذي هو تابع للخيار اليساري المحايث للمعارك الإقليمية التي يقدمها الخيار القومي في المعركة مع الاستعمار.
ومن ثم فإن المعركة في أرض الثورة التي لم يبق لها إلا بعض من حصيلة منها تحولت إلى رمز يتجاوز مجرد الدلالة على معركة الحرية والكرامة إلى الدلالة على بداية استئناف الأمة لدورها بسبب انتشارها في الأقليم على الأقل في مطالب الشعوب. فصارت في وضعية تشبه ما حصل للثورة الفرنسية التي تحالفت عليها كل قوى أوروبا لوأدها. والتشاجن بين هذين المستويين هو الذي يحول دون فهم الأحداث والأحاديث الدائرة حولها.
فكل المستبدين في الإقليم وذراعا الاستعمار اللذين يحميانهم مباشرة (إسرائيل وإيران) ومن وراء الذراعين اللذين يحميان من يحميهم (أمريكا وروسيا) ويحميانهم مباشرة -لما لهما من قواعد في الإقليم- كل هؤلاء يمثلون حلفا يحاول وأد الثورة ليس بذاتها فسحب بل بوصفها أيضا بداية استئناف الأمة لدورها من خلال الخروج من الاستثناء في العالم الحديث سواء وصفت الثورة بكونها ربيعية مدحا أو برويطية قدحا وأدها بكل اساليب عمله.
وأهم هذه الاساليب ما لاحظناه في تونس أعني الاختراقات التي يرمز إليها التعدد اللامعقول للأحزاب لأن جلها مجرد واجهات للمعركة بين هذه القوى التي تبحث عن كيفية قتل ما لدى الشعوب من صبو إلى التحرر واستكمال التحرير بعد أن تبين أن التحرر مستحيل من دون التحرير لأن غيابه يفقد الأمة السيادة ويحول دون تحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية والعلمية ومن ثم السيادة السياسية.
وثنيت بحثي بما ينتج عن هذه الخارطة السياسية متعينة في القوى السياسية المتحكمة فيها والمسيرة لها عن بعد لأفهم طبيعة التحالفات الجارية بينها والتعليل وراء تحالف القوى السياسية الأربع الأولى ضد الإسلام السياسي رغم أن أحدها يعرف نفسه بإسلام سياسي يدعي تمثيل ثورة ذات مرجعية دينية ضد مبدئي هذين القوتين أعني الكونية اليسارية والقومية وهو إسلام غير سني (التشيع).
وهذا يعني أمرين:
• طبيعة المستهدَف هو الربيع والاستئناف الذي يسهم فيه أي الإسلام الذي يجمع السعي إلى الاستئناف والسعي إلى تجاوز التدين التعبدي إلى التدين المتعين في آثاره الاجتماعية والثقافية والسياسية.
• طبيعة المستهدِف اقليميا إسرائيل وتوابعها وإيران وتوابعها وعالميا أمريكا وروسيا والهدف نقيض الهدف السابق وهو منع الاستئناف أولا ومنع تجاوز التدين التعبدي -الذي يشجعونه في شكل صوفي غير جهادي-إلى أهداف الثورة.
والمعركة ليست ضد الدين لأن إيران وإسرائيل كلتاهما ذات تأسيس ديني عنصري -الأسرة المختارة والشعب المختار-وتوابعهما في الإقليم كذلك بل هي ضد الدين الذي يحاول تحرير اهل الإقليم.
وحتى هذا التحديد فإنه غير كاف لأن الأنظمة العربية المعادية للربيع تعادي الإسلام السياسي الذي له دور في الربيع لكنها تستعمل إسلاما سياسيا آخر هو الإسلام السياسي التقليدي الذي تعتمد عليه أنظمة الاستبداد والفساد وخاصة السلفية الجامية التي تخضع لمن تسميه ولي الأمر من دون أن يكون الشعب هو الذي أمره والتصوف الشعبي الذي يهدف إلى التنويم بدل التحرير الروحي والتاريخي. وكل ما اعتبر شاذا في قراءة للأحداث يتضح لكل ذي عقل إذا لم يتخل عن عقله فتصور أن أخلاق سعيد المزعومة كافية لفهم ما حدث.