****،
جوقة السخرية من كرنفال الفنانين يخفي الكرنفال الشامل لكل اوجه الحياة في لحظتنا العربية عامة والتونسية خاصة:
- فالنخب السياسية لها كرنفالها في المؤسسات وفي الشارع.
- والنخب الاكاديمية لها كرنفالها في المؤسسات وفي خدماتها لذوي السلطان
- والنخب الذوقية لها كرنفالها الذي هو الآن موضوع التعليقات الساخرة منه
- ونخب نقابات العمال وأرباب العمل لها كرنفالها في رؤاها واقوالها وافعالها كرنفالها في النهب والسلب والتبعية
- ووراء كل هذه الكرنفالات أصلها جميعا أي المافيات التي نصبها الاستعمار احتل كل آليات الإرادة والمعرفة والقدرة والذوق والرؤية.
وهذا الأصل يجعل الجميع يعيش في المناخ الكرنفالي بسبب التقابل المطلق بين حقيقة الإرادة السياسية والمعرفة العلمية والقدرة الإنتاجية المادية والروحية والذوق والرؤية في جماعة تكذب على نفسها فتدعي أنه بوسعها أن تكون ذات سيادة وهي متسولة في الرعاية وفي الحماية.
وهذا يجعلهم عميا صما بكما عميا لا يعقلون فلا يرون مهربا من العيش الزائف الذي يجعل واقعهم كرنفالي بالجوهر. فيكونوا مصدر البلاء الذي ليس هو حقيقة الوضع بل حقيقة الهروب من الاقدام على علاجه رغم أن العلاج يسير لأن الكثير من الشعوب التي تحررت من التسول في الرعاية والحماية استطاعت أن تصبح ذات سيادة فعلية تحررها من التبعية:
1.فتتحرر إرادتها السياسية
2.وتحرر قدرتها العلمية وتطبيقاتها
3.وتحرر قدرتها الانتاجية المادية والروحية شرط الرعاية الذاتية
4.وتحرر قدرتها الذوقية فلا تبقى قردة كرنفالية في الانحطاط الذوقي
5.وتحرر رؤيتها الفلسفية والدينية فلا تنكص دون خياراتها الوجودية
ويكفي علاج التحرر الأوسط أي القدرة الإنتاجية المادية (الاقتصاد لسد حاجات كيان شعبها العضوي) والروحية (الثقافية لسد حاجات كيان شعبها الروحي) حتى تسترد سيادتها فتكون راعية لذاتها وحامية لها.
ولا يتحقق لها ذلك إلا بفضل الأداتين أي الإرادة والعلم والغايتين أي الرؤية والذوق. فهذان يبينان علة الكرنفالية التي هي كاريكاتور الغايات المحاكي للمسيطر عليهما وتلكما يبنيان يبينان علة الكرنفالية التي هي كاريكاتور الأدوات المحاكي للمسيطر عليهما.
فتفسد وظائف قوامة ممثلي الدولة لقيام الجماعة أي قوامة الرعاية وقوامة الحماية:
1.ويمكن اعتبار رمز قوامة الحماية رئاسة الدولة ولم يحصل في تاريخ تونس أبدا أن صارت هذه الرئاسة إلى هذا الحد رمزا للكاريكاتور والكرنفال مثل الآن بحيث إنها صارت لا “تبل” ولا “تعل” بالتونسي.
2.ويمكن اعتبار رمز القيام رئاسة الجماعة أي الشعب من حيث هو منتج للأجيال تكوينا وتموينا. ولم يحصل في تاريخ تونس أبدا أن صارت هذه الرئاسة الشعبية في تكوين الإنسان وتموينه بدليل اختياره مثل هذا الرمز لقوامة الحماية المتحالف مع مافيات تخريب الرعاية.
والمعلوم أن الرعاية تتألف من خمس وظائف هي:
1-و2-اثنتان للتكوين التربية النظامية (نظام التعليم بمراحله الخمس أي ما قبل الابتدائي وما بعد العالي وبينهما الابتدائي والثانوي والعالي) والتربية الاجتماعية في ممارسة العمل بعد التخرج من التكوين.
3-و4-واثنتان للتموين وهي ثمرة تقاسم العمل في الإنتاج المادي (لسد الحاجات العضوية أو الاقتصاد) وفي الانتاج الروحي (لسد الحاجات الروحية أو الثقافة) والجميع يعلم أن هذين كاريكاتور حقيقي للاقتصاد وللثقافة المبدعة.
5-وأصل وظائف الرعاية الأربع الوظيفة التي تمثل معنى كون الإنسان “صانع” نفسه أعني البحث والاعلام العلميين. وما أظنني بحاجة لبيان أنه كاريكاتور وكرنفال ليس في تونس وحدها بل عند كل العرب من الماء إلى الماء.
والمعلوم أن الحماية تتألف من خمس وظائف هي:
1-و2-اثنتان للحماية الداخلية وهي القضاء والامن. ولا يمكن للرعاية ان تنجح إذا غابت حماية المشاركين فيها بعضهم من بعض وتلك هي وظيفة القضاء والأمن وهما من أهم وزارات السيادة الفعلية التي من دونها تفسد الرعاية. وهو ما يعنيه ابن خلدون بالظلم أصل خراب العمران. ولا أحتاج لبيان الكاريكاتور والكرنفال لأن الاحداث الاخيرة تثبته.
3-و4-اثنتان للحماية الخارجية وهي الدبلوماسية والدفاع. ولا يمكن للسيادة أن تحفظ من دون حماية الجماعة ومصالحها ممن يعتدي عليها. والاولى قضاء دولي والثاني أمن دولي. ولا يمكن تخيل هذين الوظيفتين غير كاريكاتوريتين وكرنفاليتين برمزهما الحالي الذي هو دمية لمن لا ندري من رغم أن الكب على أكتاف ماكرون يمكن أن تعطينا الإشارة البينة.
5-وأصل هذه الوظائف الاربع -مثل أصل وظائف الرعاية-هي البحث العلمي ولكنه متعلق خالصة بحال الأمة من حيث شروط امنها وهو الاستعلامات والاعلام. ويكفي أن نرى الأعلام وأن نعلم من يقود مركز البحث في القصر حتى نتأكد من أننا أمام الكاريكاتور والكرنفال.
وختاما فإني اسمح لنفسي بطرح سؤال اعتبر جوابه متقضيا أن تكون السخرية ليس من الفنانين و”هبالهم” بل ممن يسخر منهم. فهم مثل الحمى التي تمثل اهم اعراض المرض في الجماعة: فالرؤية الوجودية تتجلى خاصة في الذوق مثلما تتجلى القدرة الوجودية في المعرفة.
وكلتاهما -الرؤية الوجودية والقدرة الوجودية تدلان على مرض الإرادة والمعرفة ومرض الرؤية والذوق ومن ثم على عدم القدرة المطلق أو العجز الذي تعاني منه الامة عامة وتونس خاصة.
ولست يائسا من العلاج. فيمكن بقرار حازم من النخب التي تدعي حاليا أنها تثمل حالة وعي أن تختار استراتيجية بسيطة جدا وهي العلاج الوحيد الذي يمثل الشرط الضروري والكافي: أن تكون الخطة العيش بحسب امكانيات البلد وليس بسحب امكانيات الكاريكاتور والكرنفال الذي هو جوهر “نحلة العيش” في تونس.
وهذا الكاريكاتور والكرنفال بدأ أولا بأمرين قد لا يوليهما أحد اهمية فضلا عن تعميم الثقافة الاستهلاكية حتى على المجتمعات التي لا تنتج ما تستهلكه بل تستورده ببيع أوطانها:
1.الاولى هي سلوك البعض من عمالنا في الخارج الذي صار نموذج النجاح الدنيوي: لم يعد ضروريا أن تحقق الشروط الخمسة التي ذكرت بل يكفي أن تقارن الفرق بين دخل المهاجر الأمي بدخل الاستاذ الجامعي مثلا.
فهذا يغير سلم القيم كله ويجعل شروط النجاح لا علاقة لها بشروط التكوين المبدع والتموين المستقل. وكل من يقطن في مدينة أو قرية جل رجالها مهاجرون يعلم ذلك بكل يقين ويدرك خطره على الناشئة:
وطبعا فلست أحمل كل العمال في الخارج مسؤولية الظاهرة بل اعين العلة واحصرها في نوع معين منهم وهي التي يغفل عنها الناس في فهم معنى الكاريكاتور والكرنفال ولعل الاعراس في الصائفة من أكبر الأدلة.
فأصل العلة ليس العمل في الخارج بين المهاجرين بل من لا يعمل منهم ويختزل الطريق للربح السريع الذي صار مصدر التهريب والاثراء السريع بتجارة الممنوعات. والاقتصاد الموازي وخاصة تجارة العملة خارج المسالك الرسمية.
2.لكن الثانية أخطر من الاولى وهي انقلاب سلم الأوليات في المجتمعات التابعة. فعندما تصبح الملاهي من أهم عناصر الاقتصاد والثقافة في المجتمعات التي تمكنت من سد حاجاتها التي تجعل الانتقال لحياة الترف ممكنا قد أفهم ذلك.
فهؤلاء بوسعهم أن يجعلوا الترفيه والملاهي والرياضة في قمة الهموم لأن شروط الترف توفرت أعين الوظائف العشر التي تكلمت عليها. لكنها عندنا كلها مفقودة. ومع ذلك فنحن نريد أن نعيش بمثل ترفهم الذي له ما يعلله.
وهذا ممكن بشرطين: الاول أن يقتصر على من يسيطرون على أدوات الحماية بوظائفها الخمس حتى يصبحوا استعمارا داخليا يستغل غالبية الشعب وتحول الشعب كله إلى منطق “تدبير الراس” أو الفساد العام في الجماعة من أخمص القدم إلى “شوشة” الراس.
وهذه الوضعية ليس لها إلى علاج واحد: وقد سبقتنا إليها الكثير من الشعوب التي نهضت. ورغم أن ما حدث في ماليزيا مختلف فإن قرار تنزيل قيمة العملة إلى نصفها كان حلا لا يميز بين الغني والفقير ومكن من تحرير ماليزيا من الغرق في ديون النبوك الدولية.
لكني اقترح أقل من ذلك وهو حل يسير. فلأفرض أن القوى السياسية تجمع في حوار وطني بينها ودون تبعية لقعيد قرطاج ولمافية الاتحادين فتقرر العناصر التالية:
1.اعتبار معدل سهم المواطن من الدخل القومي الخام وحدة حساب لشروط العيش الكريم.
2.اعتبار كل من يحوز عليه مطالب بالتنازل عن عشره للاستثمار في شكل قرض للدولة يسترده بعد أن “تدور عجلة الاقتصاد” دون ربا.
3.كل من يحوز على ضعفه يتنازل عن ضعف العشر لنفس الغاية يسترد لاحقا
4.كل من يحوز على ضعفه ثلاث مرات يتنازل عن 30 في المائة لنفس الغاية يسترد لاحقا
5.كل من يحوز على ضعفه أربع مرات فما فوق يتنازل عن 40 في المائة لنفس الغاية يسترد لاحقا
وفضل هذا الحل أنه لن يغير مستوى المعيشة لشموله للجميع وتونس حينها ستستغني عن كل اقتراض من الخارج ويمكنها أن تفتح مرمات في كل أنحاء الجمهورية فتزول البطالة وتدور العجلة ولن يمر عقد حتى تصبح تونس مثل ماليزيا.
وأخيرا فإن السياحة في تونس خسارة مطلقة إذ حتى النزر القليل الذي يدفعه السواح المتقاعدين -أقل من عشر المعدل العام في السياحة العالمية-لا يدخل بشهادة مديرين من مديري البنك المركزي.
فلو تعطي الدولة لعمالنا في الخارج ربع ما تعطيه للسواح في تبديل العملة -عندما نحسب الاقامة والرحلة لمدة اسبوع بمائتي يورو تكون قيمة الدينار حينها أقل من خمس اليورو وربع الدولار. فإن المدخول من العملة سيكون أضعاف أضعاف ما يأتي من السياحة.
فإذا أضفنا أن ملاك الفنادق مدينون للدولة بآلاف المليارات من القروض التي ماتت وهو إذن يملكون دون مقابل هذه الفنادق والامكانيات التي ترتبت علي ملكيتها فإن استرداد الديون أو الاملاك يمكن أن يمكن الدولة من حل الأزمة العمرانية في التعليم والصحة: كل الفنادق المدينة تحول إلى مؤسسات تربوية وصحية إذا لم يتمكن مالكوها من تسديد الديون.
ولست غافلا عن أن مثل هذه المقترحات ليست مما يقدم عليه التونسيون. فهو يتطلب “معتبري زمان” في مستوى الزمان. وقد بينت أن اصناف الوظائف الخمس التي تتألف منها هوية الدولة من حيث هي جهاز مجرد قبل أن يشغله من يكون قميا عليها قوامة النائب عن الجماعة الحرة والخادم وليس المستخدم لها غير متوفرة:
1.فالإرادة السياسية لا يمكن أن توجد إذا كان للدولة رئيس من جنس دمية قرطاج وكانت الأحزاب على الحالة التي نراها وكانت الوظائف التي تؤديها الدولة تعاني من بدانة البطالة المقنعة بالتوظيف الزائد عن الحاجة بضعفين أكثر: الدولة صارت تكية لأزلام المافيات النقابية والسياسية ومموليهم في الداخل والخارج.
2.والمعرفة العلمية التي هي أصل كل شيء علة فاعلة للقدرة منعدمة تماما بمعنى أن الجامعات والمعاهد ليس لفكرها تطبيقات تنتج ثروة (الاقتصاد) وتراث (الثقافة) بل هي تعتمد الثرثرة ولا تتجاوز الكلام زاعمين أن ذلك فكر نظري ولا يدرون أن النظرية لا تكون نظرية إذا لم تحتكم إلى ثمرة إما مادية أو روحية.
.4وسأقدم العلة الغائية الثانية (الذوق) بعد الكلام على العلة الفاعلة الثانية (والعلم). فالمحرك الفعلي للإبداع المنتج للثروة (الاقتصاد) وللإبداع المنتج للتراث (الثقافة) ليس العلم وتطبيقاته الأداتية بل الذوق وتطبيقاته الغائية لأن العلم من دون ذوق فوضى وعقلية فاقدة للغاية فتصبح مدمرة أكثر من كونها معمرة.
.5وكل ما تقدم من أدوات وغايات تكون فوضى وجودية وروحية فاقدة للغاية من دون رؤية التي هي الغاية الأولى (الرؤية الوجودية) التي تهدي الأداة الاولى (الإرادة السياسية) فتصيح عملا سدى لا يحقق ما يسميه ابن خلدون “معاني الإنسانية” وهي المعاني التي تجعل الإنسان غاية الغايات ليكون كما يعرفه ابن خلدون “رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
.3وعندئذ نعود إلى قلب المعادلة أي الركن الثالث لمعنى الدولة أي القدرة على سد حاجات البشر المادية (الاقتصاد لانتاج الثروة : بالسلطان على المكان) والقدرة على سد حاجات البشر الروحية (الثقافة لإنتاج التراث : بالسلطان على الزمان). وهذين السلطانين هما أساس السيادة. فلا يمكن لجماعة أن تكون سيدة فلا تخضع للعبودية داخليا وخارجيا من دون هذين السلطانين.